(1)
أنت هذا الحجر المفتوح
هذا المسكن الُمخّرب
كيف يمكن الموت؟
ايف بونفوا.
(2)
لكونه خليل العزلة كتب وحيداً، في غرفة أقل ما يقال عنها باردة، موحشة ومحاطة بعنف قصف لم يراعي فتنة بيروت، مات قتلاً، لم تتسنى له الحياة، فأرداها بعيداً عنه.
أمام طاولة يمتد بها الخشب، مصابة بورق يهّدر كالبحر، وقلم يحتّدُ كصارية تتوق لمراوغة العصف، اتكئ “الشاعر خليل حاوي” على جسد ينوء بالرحيل وحدق بما يفيض من عينيه، كان يكتب:
“عندما ماتت عروق الأرض في عصر الجليد
مات فينا كل عرق
يبست أعضاؤنا لحماً قديداً
عبثاً كنا نصدّ الجرح والليل الحزينا
ونداري رعشة مقطوعة الأنفاس فينا،
رعشة الموت الأكيد.”
هيمن يقين الموت كملاذ أخير، وانتقى شاعراً توحد بحب الحياة حتى الفقد، والشعر طريق لا يصل إلا ليقين القبر الكامن في نقطة تختم آخر الكلام، احتمى هاوي الحرف بآخر الجسد.
طفل لم يكبر لئلا يتعلم من سادة العائلة والبلد – فيما بعد – عنوة الطاعة، طفل أتقن قراءة أعماقه المبتلاة بالصعب، وميل الشك في كل ما يجلجل حوله من شعارات ووصايا وقيم تتبدد أمام براءة السؤال، وتتهدم كلما أمعن النظر، ليرى وطناً يتقصف ومستقبلاً لم يتوهم به.
طفل توجع في عالم لم يشفق على قدمين يتيمتين “لبناء “صغير، مغمور بالحريق:” و ما زلت أذكر الحذاء الذي كان ينضح بماء الجير فيؤثر في جلد رجلي تأثيراً قد يبلغ حد التفسخ.” لم ينس أن يكتب، أن ينزع الشوك من ذاكرته.. واحدة تغري الأخرى:
“مرض والدي ولي من العمر اثنتا عشرة سنة، وكان مرضاً عصبياً موجعاً، ضاقت بنا سبل العيش فتحتم علّي وأنا كبير أخوتي أن أترك المدرسة وأبدأ العمل، ومن أوجع الذكريات أنه كان على أن أحمل الحجارة في بناء “البلوكاج “بين الطريق والرصيف، الموجع في الأمر توقف زملائي الطلاب عن التحدث معي، في أيام الآحاد والأعياد، ألزم البيت ولا أبرحه لأنني كنت أفتقر لثوب يصلح أن يلبس، وكنت أحس تلك الأيام بكآبة وسأم وكنت أتسائل: لماذا تزوج أبي وأنجبني؟ “
حتى حاز على الدكتوراه من كمبرج عام 1959 حول “جبران خليل جبران “ظل رنين السؤال يتصدى له كل منعطف واجه فيه رعونة الحياة، وهو ينحت الكتابة بصخرة الروح، يصدر نحوهم: نهر الرماد -1957، الناي والريح 1961، بيادر الجوع – 1964، ويتهالك نحو ورق لم يشفع لقلب وحيد:
“ظلت الطباع الجبلية التي نشأت عليها تؤكد ذاتها بعنف يبلغ حد المغالاة في مجال الخلق الشعري “.
قبل الحرب، بكى “ليالي بيروت” كاشفاً ما تحدر من هدم ودخان لم يعبأ بضوءه الشريد:
“في ليالي الضيق والحرمان
والريح المدوي في متاهات الدروب
من يقوينا على حمل الصليب
من يقينا سأم الصحراء،
من يطرد عنا ذلك الوحش الرهيب
عندما يزحف من كهف المغيب
واجماً محتقناً عبر الأزقة،
أنَّة تجهش في الريح وحرقه. ”
منذ أوائل السبعينات انضم خليل حاوي لغرفته، لا يغادرها، منقطعاً عن الآخرين، لائذاً بنفسه، يُحيها حروفاً متى ادلهمت نوايا الذاكرة وتحتمت عليه الكتابة، ويذيبها حسرة كلما أشرفت عليه النوافذ، ليرى الطريق ذاتها لا تبلى والمارة ينهشون الأرصفة، العاطلين عن الصمت يعمرون المقاهي بزفير الثرثرة، حبر المطابع يلون الهواء بالضجيج، وهو عالياً يرمق الغيم.. بقميص يرتعد.
هو الحاوي كل التعب، لم يشفق على ذاته لتهدي الأصدقاء بعضاً من عبئها، ولكنه اختزن الألم كما وحده.
فَقْدُ وردة القلب كان عسيراً عليه، أتاح لها البوح وحيداً دونها،
لتبالغ بحيرته ذات ذاكرة”سألته: عندك كل هؤلاء الأصدقاء الأوفياء وتقاطعهم؟ فأجاب: لا أستطيع زيارتهم بحرية لأن لهم عوالهم وأخشى زعزعتها “.
الحرب أجهزت على ما تبقى من حرير الصلات بينه وشراك العالم، لم يعد يستطيع الذهاب إلى “شويرة” ليرى أهله، المطاعم التي اعتاد عليها أقفلت، أغلقت أمامه الحياة…عدا مخالبها.
ليشهد الأرض مضرجة بالجثث، والقذائف تزلزل ليل الشعر، بين خانق الملاجىء وارتجاج غرفته، كان يسرف الوقت ويأس مدو.
تتقاطر حوله الضحايا والقناصة يرصدون خطو المعابر، بيروت ما تبقى، يجتاحها الغزو الإسرائيلي بشراسة بالغة، بيروت… يراها تصعد كملاك أخرس عتبات الموت.
“في خلايا العظم، في سر الخلايا
في لهاث الشمس، في صحو المرايا
في صرير الباب، في أقبية الغلة
في الخمرة، فيما ترشح الجدران من ماء الصديد
رعشة الموت الأكيد. “
قبل أن ترتخي أصابع للفرار، ويندفع الرصاص نحو جمجمة تصدعت طويلاً قبل أن تنهمر، قال بألم:” حينما استرجع قصيدة “الجسر “أحزن، لقد أعطيتهم عمري وذهبوا عنه، وإذا قرأوا القصيدة أو تذكروها فلا يصرفون عليها سوى دقائق” هكذا كتب الجسر متحدياً حسرة الحب:
“يعبرون الجسر في الصبح خفافاً
أضلعي امتدت لهم جسراً وطيداً
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق
إلى الشرق الجديد،
أضلعي امتدت لهم جسراً وطيداً.”
أخرج المسدس من انتظاره، ورفعه نحو صدغ يترقب فزع الأصدقاء، صّر على الزناد ونظر إليها من شرفة للأفق، ليراها كما كانت دوماً.. فأزاحها عنه ما أن أراح أصابعه.
لتدوي والحرب تنتشي بقتلاها، رصاصة رحيمة.. بلغ صداها كل الشعر، الوحيدة العادلة التي أصغت لكارثة طغت بجسده، لتحنو عليه، رصاصة عبرت جبهة لم تنحني لسواه، لتستقر على حائط عزلته، و “خليل حاوي” يتقدم نحو هدأة لا يجرؤ أحد على المساس بها.