ناديا


(1)
أهمس بكلمات مثقلة بالأسى: هل أكتب لأستضيف دمها المهدور، أم لأفضح معها عالماً شرسا، لم يعد يحتمل وداعة حروفها؟ كلماتي ليست رثاء، بل سلاماً لذهابها الأخير، المندفع لحرية موت أكثر رأفة من حياة لم ترحمها.

(2)

الشاعرة الأفغانية “ناديا أنجومان” (25) عاماً، طالبة في كلية الآداب – جامعة “هيرات”، ما أن تفشت لها حرية البوح ذات ليلة، ما أن بدأت تكتب على الورق، ما ينتاب روحها من ضيم هذا الزمان، ما أن انتفضت على صمت حياتها.. حتى اقتادوها سريعاً للقتل.

بعدما أصدرت باسمها الحقيقي، كتابها الوحيد “غولي دودي” أي “الزهرة القرمزية”، الذي أضاء شهرتها الشعرية في أفغانستان وإيران، انقض زوجها الأفغاني (الأستاذ) “فريد أحمد جيد ميا” حامل إجازة في الآداب من جامعة “هيرات” ذاتها، وكذلك يشغل منصباً إدارياً مهماً في كلية الآداب، ليشج رأسها ويضربها حتى الموت، لتتهاوى كريشة تحت أقدام زوج راعه كل هذا الشعر، زوج أفزعته موهبة “ناديا” العصية على الكتمان، قدرتها على فضح الكبت، حفر كلماتها على وريقات قليلة، دفاعاً عن كل حرف يقف الآن شامخاً ضد حرفة القتل.

اندلق الدم تحت جسد “ناديا” المترنح من عنف الضرب الذي شج أحلامها، توسدت التراب الأفغاني كغيرها من ضحايا العائلة، ارتمت لحنو موت شفيف، لتراها طفلتها الممهورة بشهورها الستة، مدماة أكثر مما ينبغي لقتلها، تراها بعينين لن تنسى يوماً، كم قتلتها اليد برعونتها الذكورية بنزوعها المتسيد، ستتذكر بوضوح، كيف فقدت أمها راعية الخمسة وعشرين وقتاً من الكبت والنبذ، كيف ارتاح أخيراً أبوها المذعور من حروف “ناديا” الصغيرة.

(3)

حتماً، لم تمت “ناديا”، لم تذبل زهرتها القرمزية، بل تحولت إلى قربان شعري مبجل، يقف بصرامة على مذبح هذا الوقت الصعب، غصة هزت نهر الشعر، صرخة تداعت كعاصفة تنفض كل هذا الغبار، ألهبت “ ناديا” قلوبنا بعنفوان جرأتها وهي تعلن هويتها على الملأ الرافض عورة صوتها، أذهلتنا بقدرتها على مواجهة الظلم المتحصن في غبار الكهوف، المتلفع بشريعة الذبح لكل امرأة تتعالى بكلماتها، لكل حنجرة تستجرئ على البوح، لم يكن زوجها غير مستبد آخر، طال شيوعه ليس في أفغانستان فحسب، بل في كل واد يهيم فيه البغاة من أولياء الأمر، حماة الوهم، من يتحصنون بعنف القيد ضد بسالة اليد، ضد قدرة النساء على نحت الحرف، هؤلاء القتلة يتفقون على هذا الفعل، لكن بتلاوين لا تختلف كثيراً، منهم من يقتدي بضرورة الضرب، ومنهم من يستهويه التسلط بقوة الأمر، بنفوذ المنع، بمصادرة الحق الإنساني في التعبير الابداعي.

(4)

ثمة مفارقة أليمة، تسنت لي، قبل أن أكتب عن “ناديا”، كنت أحاور قناعاً مستتراً- عبر فضاء الانترنت الأزرق- لموهبة بحرينية، شعرية واعدة، تكاتبني من خارج الوطن، سألتها: لماذا تخفين حقيقة اسمك.. حتى عني؟، باحت لي بخوفها من الأهل الذين يرفضون بشكل قاطع أن تكتب أو تنشر، فلم تجد خياراً بين الصمت أو الصد، غير هذا الذبح العلني لهويتها، غير أن تختفي تحت بطش قناع آخر، أكثر رأفة منهم.

القتل هذه المرة ليس بشج الرأس، لكنه بمحو ملامح نبض القلب، كبح الذات، قسوته تتمثل في مراكمة الأقنعة على قلوب النساء، فالوجوه لم تعد تكفي.

هذه الظاهرة الأكثر انتشاراً في دول الخليج تحديداً، وأعني بها تدخل الوصاة من العائلة حتى الزوج، لمنع النساء من الكتابة، مما يضطرهن لنحت اسم مستعار، أما من تختار ذلك من دون عسف يذكر، فهذا مناب آخر، ليس للمداولة الآن على الأقل، هذه الظاهرة تعبر عن حجم المصاب لمن تكتب من النساء، ظاهرة جلية بمفرداتها التي تشي بمصادرة التابو الاجتماعي بتلاوينه، لحرية الكتابة تحديداً، حيث من النادر ممارسة أي فن من الفنون الأخرى بتمويه الهوية، وحده الشعر.. لكونه ينضوي على خطورة إعلاء الصوت، بلاغة الحرف، قدرته على الكشف والفضح، ومما يضاعف الصد الحاصل له، صدوره عن امرأة مكانها البيت أو القبر.. حيث الصمت.

بقدر الألم الذي يكتنف هذه الظاهرة، بقدر التعاطف مع من تختار جرأة الكتابة تحت قناع مستعار على الخضوع للصمت التام، احترام خيار المواجهة بالكتابة، حقيقة نتجرعها على مهل، وعلى أمل أن يأتي ذلك اليوم، الذي ينتصر فيه الحرف، لحرية ينوعه تحت الضوء.

لم تمت ناديا حين القتل:

تلكما العينان الصغيرتان لطفلتها، لم تزل تحدق فينا،

حروفها المضمخة بدمها تحيا على بتلات زهرتها القرمزية،

روحها لا تزال تجوب جبال أفغانستان مزدهاة بحريتها الوحيدة.

(5)

: هكذا كتبت الشاعرة ناديا قبل الموت قصيدتها” نبرة الأغنية

ضوء النجوم في القفص

كيف قلبك اذن

لا شك في انه يرفرف بوحشية

دائما يغني ضد الظلام

الظلام الذي يعرفه

ليشعر أخيراً بلدغة الخدر

بالموت

تمر بهدوء

هذه الرؤية المختصرة للحياة

للشخص الذي لا يرى أبداً

للضوء الخالص يمسك قلبك

انينك المسمم بمخلب يزدرد كل خوفك

حتى الآن لم يكن مثلك

من باع قراره ولم يقو على الغناء

لا تكن هادئا

احتضن قبرك

قفص المرمر الأبيض

المساحة الشاحبة

الرثة البائسة

لن أسجن هنا،

كطائر حكيم

بحرية تحلق

تطير وتعيش

مرة أخرى