مصائر تجلو كمين الهضبة


مقاربة لمعسكرات الأبد للمبدع سليم بركات

 

كيف تنهض “معسكرات الأبد”؟

هكذا .. ننهل ثيمة معترك يداهم غفلتنا، داو بأزلية لا تبارى، من عريكة ديكان يناوشان مهب النهار كله في نزاع لا يهدأ ولا ينتهي حتى يتلاشى الروي آخر الحبر.

مرير عراك يلازم تهافت الريش، انتهار مخالب لانقضاض هنا وآخر هناك يتلو انحدار الدم، كل تصدع خفي في بلوى الريش، صراع لا يكف عن إهدار النذير ببلوى مصائر آتية، لتؤازر شراسة محنته، اصطفاق أبدي لكائنين هم “رَشْ” و“بلك” يبدأن معاً – في نهب تصويري بالغ الإدهاش- حفر ملحمة العراء الكردي، الذي يستهل أقداره الأزلية باحتدام ريش يتطاير دامياً، احتدام غافل عن كل المنحدرات التي تشي بغيلة المشهد.

بدء أزل قاتل، عبث يؤجل انتصاراته اللاهية عنه، ولا يكترث بهزائمه المدوية، كل هذا كيداً بقارئ يستبسل وانهمار الوقت ليحدس بما سوف يستبد به، لم كل هذا الاعتراك الذي يفتتح مكيدة الكتاب، ثمت طغيان للعنف لا تفسير له -بادئ الأمر- ينال من أنبل كائنين، ديكان ينتزعان عصب المشهد في ضرواة لا حد لها، تدع القارئ في هول من أمره، ليسأل سهاوة الروح: لِمَ ما يحدث؟

وحين يبلغ التشفي أوج التصاعد لأقاصي هيجة الإحتراب، يدعنا المبدع سليم بركات، وحدنا، لنلج عطف المشهد، لنتعرف على مهارة السرد المغوي من خلال مصائر تتضاد وتتآلف، لتبلغنا صيرورة المصاب الأعظم الذي يعتريهم.

لصعوبة مقاربة إبداع سليم بركات، ارتأيت محاورة النص الروائي من خلال تناول المحاور الرئيسية التي تشكل المشاهد الأكثر ملحمية في تصاعد الحدث، وذلك على مستويين:

الأول:

المصائر:

1- مأوى النسوة بعيداً عن مهوى السر:

في هذا المصير السردي نتعرف على حفاوة نسوة يحتكمن لعزلة مهيبة، وحدهن في هذا البيت المكتظ بهن، يتناوبن قسوة الحياة ببساطة لا تقدر ما يحف بأحوالهن، قدرية تامة تسرد يومهن، يلتهين بمشاكسات أنثوية بالغة الصخب والسخرية، كأنهن يرتهن لأحوال العادية دون أي اضطراب أو حدس بما يتعقب صيرورتهن، مثلهن نضحك ونحن ننهل منتهى الإعجاب بشقاوة المنحدر الأول الذي أتاحه لنا راو السرد سليم بركات – دون أن نقدر طبيعة المنحى المؤلم الذي نحن بصدده- آن نتعرض وهو يضفر الحكي، لمهاو صعبة، تتنازعها أطر مخفية، أقدار سربلة بالملغز، متاه ينبئ بحدوث المشكل، بلوغ العصي على قدرة الوعى، لنتعرف على بواقي مستويات السرد، آن يعيد لنا ذات المشهد مرة أخرى وهو يلاغيه بحدوث لم نرها من قبل، لنتعرف على إحداث مرير، ها.. قد بدأ يصادق قدر النسوة، ها.. قد بدأ يسن منحدر الهاوية الأولى نحونا، نحن الغافلين عن مبتغى الغدر، بعد أن غمرنا بعبث غامر كاد أن يستبيح الليل، ونحن نصغي للهوهن العابث والعاثر بمبتغى الشبق المؤطر في أجساد تتصايح وتتلكأ بغفو الحوار.. حتى استطاب له ما أحدث في غمر النص.. بدأ هدر أحبولة الروي لنتلظى بما هنالك.

يعتمل هذا المصير طيلة النص الروائي، مرافقاً براءة النسوة بانسراح كائنات الطبيعة وعناصرها، لنتمكن من رصد مدى عفوية الحياة، شفافية الروح، رهافة الغافل عن شرور يرسلها الآخرون، وكلما انتقلنا من مهاتفة بساطة وعذرية هذا المصير، لنشهد على بغي وعدوانية المصائر الأخرى، يتعمق في ذاكرتنا شفير المحنة، مصاب اليأس، لذا شكل هذا المراد حافزاً قوياً لإشعال ما سوف يتداخل عليه من سرد مغاير لطبيعة نقاوته.

2- غموض الغرباء:

هنا أحدث الراوي سقطة الغرابة كلها، عندما استحل المشهد لهبوب “مكين” وأختاه “كليمة” و“نفير” وحمال الأمتعة والأقفال، يسمونه الكلب، لا ندري لماذا هم هنا، غير مرام أكيد، إنهم هنا لزعزعة يقين الرواية، كاشفين عن غموض معبأ بالزرابيات والخرائط التي معهم ، ومهمة عصية منها إخراج الكائن الناري، ثمت نجدة استبسلوا لها، لندرك فيما بعد عنف المصاب، وماهية رفقة غموض الغرباء من سكنوا قرب حدود البيت ليهيلوا نشوة للعزلة التي تستبي النسوة، وللمحاذي لوعر النص أيضاً، لكونهم استدراج واع ومنفذ بشكل يبعث القلق وريبة الكشف، طيلة النص، ولا يخفت حضورهم الملغز إلا قليلاً ، حين نفاذ الحبر.

3- هبوب النورانيون:

لقد تأسس هذا المصير من عدة مستويات تتمازج في زمن الرواية بشكل لافت لإحداث التشظي الدرامي. بؤرة الحضور تحققت في الهبوب الأول لأرواح القتلى من الأهل، الأب “موسى موزان” وزوجه “خاتون نانو” وصهره “أحمد كالوا” الذين لا يبتعدون عن رائحة الرصاص الثاقب أجسادهم بدخانه الأزلي، المواكب لتهدل أثوابهم، المدافعين عن طهر الحدود، من قُتل غيلة من نرد اعترى الرصاص اللاهي عن قدره، كأنهم بغتة قتلوا، مأساة أججها القدر الساخر، وهنا نتعرض لمستهل إسطوري بالغ في حشده الروائي سليم بركات، في نزوعه لحدس فانتازي، يتعلق في عدم مغادرة القتلى من الكرد لحدود أرضهم، ولا لسور عزلتهم، ولا لكامن قلوب نسوتهم، ولا لعنف نسلهم، في تدليل بالغ الشأن على حضور الدم المغتال كل غدر، رغماً عن رصاص قساة الغزو.

فيما بعد يتتالى حضور الأشباح أو النورانيين، لنشهد حلول فلول تتبع قائد ثورة عامودا “سعيد آغا الدقوري”، صعود طيوف هائلة ترسل السلالم عالياً، حشود تتناهب المشهد كله، حضور كل قتلى وجرحى العراء الكردي في تطويق لمحنة الهضبة ضمن “قيامة” بالغة المعصية والافتتان.

4- الغزاة:

غرباء أيضاً – يتماهون بعيون زرقاء، فرنسيون، مستعمرون على أرجح القتل، يسحلون العراء- الغافل ببراءة ينوعه – بجرافاتهم، ومداحلهم، زفير إسفلتهم، حديد عرباتهم، وعداوتهم لبداءة المكان القصي، الهضبة الندية اللاهية عن يباس كل أداة للبطش بها، كل هذا الضجيج، لتشييد ممر حربي، لاندفاع طائراتهم التي بالغت طيلة الرواية في حصد كل وريد، كل انتفاض مهد نفضة الدم لاندلاع “ثورة عامودا” وقصفها في آن.

حضور الغرباء امتاز بوصف مريب، متسارع وغامض، عدواني يشبه قسوة اغتصابهم لبسالة المكان، دوماً يمرون من خلال الوصف السردي، كوميض نصل، في رصد دقيق وعاجل كملامحهم، وآلاتهم وشرور مبتغاهم، لذا شكلوا المصير المحرض والمقنع لمدى عدوانية الغز والكامن في أحوالهم.

5-اللغز:

كائن النار، الذي يمثل وحده مستوى سردي بالغ الدلالة وصقيل مرموز خطير، لكونه بؤرة المشكل الذي يربط النص الروائي، فهو اللغز الذي يستدرج حيل الحكي كلها بما فيهم الراوي، نحو سلالة الناري، ذاك المحرض بوجوب انهيال الماء نحوه من الناعورة، ما تاق له الغرباء، وأشباح الموتى، حتى عصا حارس النهر “جوجان بوزو”: الفريد المتلبس بحرص الكرد على حراسة إحدى مسببات شقاءهم، من غير المياه، لذا تهل هذه الشخصية لتشيع الحذر بسماتها اللاذعة، هذه المنحوتة بمرارة لتعميق غور الدلالة تجاه هذا المصاب..

كائن النارة المصير الأعمى، هو الإشكال الذي انبرى الروائي المبدع سليم بركات ليصيب به تخومه كل حرف، وهو لا يكاد يمسه، أو يصفه، بل يدعه غامضاً لجلوة المصير الذي نال نصيبه القاسي من حيرة القارئ، يدعه يتصاهل كمصهر مغوي حتى آخر الرواية، آن تبدى لنا كيف تحول عندما تم إطلاق أسره من قبل حامل الأقفال والخرائط “قرينه في التعب” الذي سأله: اختر جهة تناسبك أنت، ليرد عليه: إلى الشمال إذن، ألن تسألني لماذا اخترت الشمال؟، ليقول له: تختار جهة المياه.

لتنطلق “القيامة” من شرارة أرداها الكائن الناري، وحدت كل طيوف الهضبة وكائناتها وعناصر الطبيعة في مشهد خالب لتطويق انقضاض الغزاة على عزلتهم وأرضهم وكردهم.

6- بهاء الكائنات:

في كل كتابة للمبدع سليم بركات، ثمت هواء يصون حرية الكائنات، بوح حنجرة تحترم حقها في الحضور، لإعلان مكبوتها، ولكن في “معسكرات الأبد” تميز هذا الحق باندفاع موقف فعلي لها، تجاه ما يحدث لسكناها. كان لملاسنة أحوالها، وقعاً مختلفاً، عمقياً ورؤيوياً، بما يميل لتحويل هتفها، برفق، دون عسف، إلى إدانة ورفض لا يقل عن تمرد الآخرين، لتبدو كل الكائنات كشواهد حية على عدوانية البشر وغلواء شراستهم، هنالك مواقف تسترعي الدهش، انتابت كل الكائنات التي أسرف الكاتب في حكمة البوح عن ردود أفعالها تجاه الأحداث، بالذات الكلبان “توسي” و“هرشه”، هيجة الأوز، سحر الدجاجات، احتراب الديكين، الهداهيد.. حتى عناصر الطبيعة – البرق، الرعد، المطر، الأرض. ـ لم تبتعد عن بذل الغبطة أو بعث هزيع الغضب، مما شكل مصيراً يعضد به تفلت المصائر الأخرى.. للتنديد بغزاة الهضبة وهيل تاريخ أهلها الاهون عن قدرة تقتص بمغبة القتل.

ثانياً: المهارات:

“معسكرات الأبد” مكيدة تنجز حال أقوام من الكرد يلتهي الغياب بهم، أمة منذروة لنرد المصاب، غيلة الأبد، محاطة بمعسكر دائم – يتعدد حتى الآن -لينجز لهم بلوى الفقد، هكذا نصاب بسرد مذهل، يصف عسير نسوة فقدن أولياء الحب – ذات أم وأب وزوج داهمهم فتك الرصاص- وهن يغزلن في عزلتهن مناكفة بهية تبدأ من حقل يفيض بحنق الدجاج، حتى ليل يستوي لهن وحدهن، خلوة تتضافر مع تداخلات سردية تؤجج رهافتهن، من هذا البهاء الأنثوي الوديع الذي أتقن مبدعنا حبكة مداه، لإيصال صرخة تدين كل البطش ،المستعر، المتحلق حول براءة لا توصف، ينحاز فيها الحكي الشفيف لمكاشفة كل شيء، رافق تلك العزلة .. كل شيء.. حتى هوى الغبار.

يبدأ التناص والتضاد بين المصائر كلها، ضمن عنف إبداع رؤيوي لم يفلت كامناً يحيا إلا وأجاز له حق الدفاع عن هبة الحياة فيه، ولكي يتضح الحديث، أرى أهمية إيلاء كل مسار حرية الكلام، لكون “معسكرات الأبد” التهت بنزوعات ومهارات إبداعية، لا بد من الإلماح لحضورها الذي أسس لمبتغى السرد، ولي العذر في تداخلات لا بد منها، ذلك للتلاحم والتناغم الذي حدث بين المصائر والمهارات التقنية والإبتداعية… من الصعب فصل حوافها، لاستعصاء النص على الفصل.. للفصل بين أعضائه الحية، والنابضة بهواء الموهبة، الجثة وحدها – كل مشرحة – من لا يستعصي على التشريح، كل فأس يلذ للنقاد من هواة المشارط إيغال فعله، ولكن هنا ـ وهذا ليس تبريراً لفشل ما قد يعتريني، كوني أحاول مقاربة هذه الحياة المحبرة في كتاب.. لا أخفي صعوبة ملاغاة نبضه – ولكنها حقيقة قد تقسو على من يبجل النقد كتشريح منهجي، لا أقوى عليه:

1- مهارة إعادة الزمن:

هنا يتجلى نزوع مبدعنا سليم بركات للاحتيال بزمن السرد، وذلك عبر إعادة المشهد ذاته ليتلو لنا كيف تحقق في أوان مضى، بمرافقة مشهد ثان كان يحتدم به. في هذا النص بالذات تحقق تركيب، ومزاولة للحدوث النصية لم تتحقق روائياً بهذا التعقيد المبهر من قبل، أو على الأقل لم أتعرف عليها كتقنية خطيرة، كأن سليم بركات يؤكد حدوسه التي باح بها، معلناً ذات حوار: على من سأقوض الهيكل إذن؟

و هاهو يقوض هيكل الرواية العربية التقليدية على صدوغ من تحملوا بلواها منذ أكثر من نصف قرن على الأقسى، لذا لي أن أسرف في هذا الملمح الفني المحدث : زمن الرواية زمن ماكر، ذو تكرار مقلق، والمتتبع لسيرة الوقت يتأكد من معاودة ملازمة ذات الفجر والظهر والمساء والليل، ملازمة بديعة وغير رتيبة إطلاقاً، لكونها كل مرة تذهلنا بحدوث لم نرها في ذات الوقت الذي اعتقدناه مضى، كأن المبدع يصر على إبلاغنا بغرائبية الحياة ذاتها التي تحدث للبشر وللكائنات أيضاً وللسماء وللأرض ولكل شيء، يقنعنا باحتمالية أن نغتني كل مرة تعاود فيها المثول، بعصف من الإشكاليات فاتت علينا، هاهي تعاود التحقق بمزيد من السرد الذي لم يطالها آن حدوثها لأول مرة، وهذا ما حقق “لمعسكرات الأبد ”غاية الإمتاع والذهل، لكون القارئ ما أن يبتسم لعودة ذات الزمن مرة أخرى، حتى يجفل سريعاً، وهو يرى ما فاته من ألم لا يحتمل .

2- غواية السر: ذاكرة الكرد:

هنا شأن الكائن الناري، الخفي في عتمة الكوخ، المرافق ما يبعثه من طنين وصدى عويل موجع، سعير يستمر طيلة الرواية، المنبعث على الدوام بصورة تبعث الريب، لقد شكل هذا الونين، منعطفاً لا يستهان به لتعميق الإشكال الجوهري الخفي المستتر، كل ذلك، لشحذ مصائر السرد، ولإغواء القارئ الذي لن يدع الورق حتى يعرف ما هنالك، بالذات للسعي الحثيث الذي رافق غموض الغرباء لإطلاق قيده، وإصرار الأشباح على إهدار الماء نحوه لإخماد أنينه السرمدي.

الكائن الناري هو ذاكرة الكرد التي لا تكف عن بعث الأنين، هو جمرة الفقد العصي على النسيان، هو اللغز المتشبث بعتمته خلف شجيرات التوت بانتظار من يحرر أسره، هومن يفتح بابه – لمن يهبه بوصلة للطريق نحو الشمال- للغرباء: مكين وأختيه وقرينه المثقل بالأقفال والخرائط التي تمثل عبء التاريخ الكردي : ضالته ، هو الدليل لجهة الشمال حيث المياه: مبتغاه – وهذا ما يفسر محاولة “موسى موزان وأهله” لحفر طريق من الناعورة حتى بيته، لغمره بالمياه، لإطفاء حنينه الأزلي – هو السر الذي عندما انفلت ..أشعل الهضبة كلها ليقود طيوف تاريخه، وبأس حشوده من الأحياء والقتلى والشهداء، ليمضوا مندفعين ضد الغزاة، نحو طريق يبدو أقل يأساً.

عند تتبع منحى الرواية، يقطر مبدعنا ببطء قاتل دلائل لا تفشي غموضه بل تشير بحذر له، لئلا يفقد الدليل سحره اللازم، لحث كل المهارات وحيل السرد لتجلوه على مهل. لذا أسس هذ المصير لأعتى المهارات التقنية التي إدلهمت بكل ما عداها، ذلك لمهب الدلات التي اعترت هذا الكائن الناري، التي تصل إلى حد التشظي، ليرى كل قارئ ما يراه بحرية تامة، هل هو ذاكرة الكرد- كما أراه- أو هو اللغز الخفي الذي يفسر قدرة هذا الشعب على معاودة التصدي لمغتالي دمه، كل خسارة اصطلي بها طيلة قرون.. لم تزل، أو هو روح زعيم مبجل “سعيد آغا الدقوري” مؤسس جنة عامودا الموءودة.. مثلاً، مأسوراً يئن بانتظار صحوة الأحفاد نحوه، هذا المرموز يحتمل كل تأويل، مما يتيح للمخيلة أقصى اللذيذ من جن المحتمل.

3- تخليق التوتر:

لتصعيد الغموض البهي، تم تخليق تواتر تصويري وحواري، طغى على كل مشهد أو حوار، ليبدو النص الروائي شديد التعقيد، كلما تنقل من حال لحال، وهنا أشير إلى لزوم مثل هذه المهارة، لكونها تتناسق مع مبتغى السرد ومصائره، لذا أستحق النص إيلائه كل هذا التوتر، لعبته المثلى لإدغام المتلقي بذات العبء، لنسج نبض يتعالى كما خفق المحن، وهذا الملمح الفني اشتغل علينا بمهارة تلتها لنا عدة أدلة : منها طبيعة قلق النسوة الباهر المتبدي في توتر علاقتهن ببعضهن – بالذات “هبة” و”ستيرو”ـ من جهة واسترخاء حضورهن اللاهي بحاضر وديع، ومستقبل يلفه انتظار الغامض من جهة أخرى، كن من يلطفن أهواء الرواية المغالية في حذر التوجس، وأيضاً من يوتر الحدوث في مشاكسات لا تنتهي، يلي ذلك ما إنهال من توتر حواري، شمل : أحاديث الأغراب،النوارنيون، رفقة ثورة عامودا، حتي الطبيعة ذاتها لم تسلم من تصعيد للتوتر، انحدر كل ذلك بارتياب مضلل، يبعث ذات القلق الملغم لذات القارئ، وهنا تألقت “هبة” بعذرية هتفها.. كل سؤال، قلق “أحمد كالوا” و“موسي موزان” بحكمة من مات، بالذات لكونهما حققا حضوراً يقاسم فرادة الفانتازيا حضورها المعلن.

4- نفاذ الحيرة، طغيان القلق:

لتحيا وقت الراوية لك أن تلوذ بالحيرة، كسقط قدري، لا بد منه، حيرة تشمل كل شيء، حيرة تحاذي هيبة يرسلها الغرباء، حيرة تلتبس بإغواء داهم بسالة النسوة، كذلك ما أصاب غفلة العراء من احتدام المداحل والجرافات، حيرة لاستنهاض الصبر من قلوب القتلى، حيرة تجاه الحلول الملغزة لإبقاء ذريعة لاستئجار البيت الآخر، وكل ما رافق ذلك من غوامض – بالذات أثاث الغرفة والخرائط والأقفال والرقع الجلدية – حتى تخبط الأوز في ذهابهن وعودتهن من طين النهر، حيرة لغمت لهو الغجر من داهموا حيلة المكان، حيرة انتابت حوارات الأشباح، والمصير الأعظم للحيرة ناهز حضور المغول الذين تناهبوا المشهد، يفتك بهم ، قائدهم” تيمورلنك” من حث الكلام ليعود إلى قرون من الاغتصاب لهيبة المكان، كذلك التوتر الذي أحدثه البرق بإنارة سفينة تضطرب خلف جبل “الجودي” .. وحدها كانت مزاراً لاحتمال التأويل كله، توتير سفينة نوح-خشب النجاة من الطوفان- جاء في وقت، كادت فيه النص أن يلتهب.. دونها، مع ذلك عمقت حسُّ القلق، اندلاع الطيوف التي تحلقت حول الهضبة، تنتظر الملاذ الذي لاح بقدوم الحلم المستعصي على الموت، من غير “سعيد آغا الدقوري” ورفقته. لنشهد على حالات لا تنتهي، وهي تدلل على حيرة الأدوار، وتيرة أراقت النص كله، لتتناغم الحدوث بهذا المحتوى، وليشتعل تصاعداً هارمونياً لدراما نصية محدثة إلى أبعد مدى.

5- فصاحة الغياب، متاه الحوار:

لقد مهدت فداحة حوارات القتلى من الأهل، مرتكزاً إبداعياً مذهلاً، أمعن في غرابة المعارف، وهنا لي أن أستوقف الكتابة قليلاً، لأحوز على كامن أذهلني آن القراءة، كيف تناهب المبدع سليم بركات قوى المخيلة لتحضير حواراً، لا يستوي إلا للأموات؟

ثمت كلام لا يمكن أن يصدر عن ذات تحيا، خفوت تام للحياة ونهضة خارقة لدلالات لغة الغياب، دوام فصاحة لمذهل الماوراء، التباس من الصعب أن يتجلى إلا لمن مات ورأى ما هنالك، ليعيد مداومة الحياة.

ثمت إدراك ـ حدوسي ـ لطبيعة التفكير المغاير تماماً عمن يتنفس، هجس بوساوس لا يمكن أن تطال الأحياء أبداً، حوار بعيد أن نعمل التفكير بمثله، مجاهيل مغمورة بالغياب.

بعد هطول المخيلة لاستقراء حديث الموتى، هنالك مستقر آخر، لا يقل عنه دهش وبغت، آن نتعرض لحوار غريب، يستقرئ طبيعة تفكير الكائنات، الكلاب والطيور الأوز، الهداهيد، الديكة، الدجاج، لنستغرب من قدرته على استكناه ما يشغل ذواتهم من ملغزات لا تستوي إلا لهم، الأدهى من ذلك، مهاتفة المكان والغبار والغيم والمطر.. وغيرها من العناصر، لم يسلم من ذات المهارة الحلولية أحد.

كل هذه الاستحكامات التقنية، جلاها الكاتب وانجلى به، ليعلن عن موهبة نادرة أيضاً، ولمن يستهوى الاستنارة أكثر بتحقق هذا المنحى، له أن يعاود قراءة محاورات الموتى مثلاً ، وهنا لي أن أومئ : مع كتابة المبدع سليم بركات بالذات، أنا في حلٍّ من الأدلة على ما تأخذني إليه الكتابة حول “معسكرات الأبد”، لصعوبة حرفة التدليل، التي تشبه فصل خلية عن الجسد لإثبات حركة الروح، لكون هذه الكتابة تمثل مهاتفة وعرة، لما أحسست به آن القراءة وعند تحبير الحروف، بالذات أمام نص منحوت بمخيلة قاتلة، كثافة تعبيرية ورؤيا كشفية لا يستهان بحصولها، من الصعب اجتزاء عبارة أو أخرى لتأمين ثقة القارئ فيما يحدث فعلاً، التعويل الوحيد هو إعادة القراءة، لمن يستهوي سبر غواية لسليم بركات لا ينازع عليها.

دمت في شأن متاه الحوار، لي أن أشير لطبيعة يكتنز بها إبداع التجربة، إلا وهو إيلاء الحوار لمنحى ترميزي يثير متعة الشغف، ويشغل العقل في تدبير معناه، حوار لا يؤسس للمعنى بمعناه المعتاد عليه، كما تعودنا – كل رواية عربية يلغي فيها الراوي حرية شخوصه وعقولهم أيضاً، لينوب عنهم بثقيل رغبته في إفهام القارئ مبتغى قصده – لكنه الارتكاز لتضفير الرؤية الفنية التي تتصاعد كل حدث، بجلاء الحالة المستبدة بها، التي لا تعتمد إطلاقاً على مشافهات شخوص الرواية، بل على نفوذ مخيلة القارئ المحاذي بشغافه رئة النص ، قدرته على النفاذ إلى كينونة الذوات المتخيلة التي تؤسس مبتغى السرد، إقترانه بجوانية الأحاسيس، وعذرية المشاعر التي يبلغها الوصف، وهذه مهمة صعبة يتلوها المبدع، حين يقتصد في شأن الحوار إلا فيما ندر- الحوار من شدة الاختزال يتحول إلى مشافهات فلسفية، تراجيدية، عبثية، ساخرة وأيضاً ملحمية – لكونه يستعيض عن هواء البوح المباشر بقدرته الجلية على الوصف وفضح خفايا الشخوص ، تعرية المخبوء، نحت الملامح، تعبئة كل شيء لوصف الماحول، إسراج الصورة الشعرية لمزيد من الكشف الدلالي، توتير الأرجاء، لاستمالة القرب من غوامض الذات، وكل ما هنالك من تقنيات تقف ضد الهذر وسماجة الحوار المباشر.. شأن فن البانتومايم – وعر الإبداع – الذي يتقصى كل عضلة في الجسد لتوصيل ما يحتدم به من مشاعر، هكذا يتأهل مبدعنا بقواه الإبداعية، ليدعنا نستكشف المكيدة دون كلام، لنتعرف على مشافهة الصمت، لنتعرض للإصغاء لذوات تبدأ بالبشر.. لتنتهي بهتف الهواء، استنطاق هاذ لخرس المشهد، يعول على مرآة ذواتنا في صقل صدى صمته، نيل حكمته، لنتذوق على مهل ما يراه هناك.

5-تلغيز الحكمة:

من داوم على قراءة إبداع سليم بركات، لا بد أنه توقن من حدوث كل كتابة بإصرار على ملازمة إيقاظ كل شيء، وهنا أشير لانهمار البوح الذي يداني بديع الشطح لديه، حين يسرف في تقصي قلق دجاجات الدار وولعهن بمكاشفة الأسرار، حكايا السحب وأهوالها، هبوب الغجر ضمن قافلة جاءت لتعري فصاحة السفك لعذرية الهضبة.. لتشكل دلالة رمزية بالغة النفاذ، لنداول شأن الأثرياء من ذوات المزارع وهيجة الغزاة الفرنسين، وهم يداعبون بغائية بالغة التقصي هيل الدلال الغجري المتبذل لهم، المطر ومواكبة حدوثه ملتحفاً بغدر الغيم، كل ما هنالك من طير وعشب ونبت وحجر.. حتى بركة لا يرى فيها الأشباح ذواتهم، ناهيك عن أسر الليل، لمعة البرغل الساخن المسجور بالزيت، هيجة الأوز ورؤى الهداهيد- أدلة سليمان – من اكتنز بدلالات رائجة في منحى الحكمة بالذات، لغة الغبار، فضة الماء المحروس بعصا “جوجان”، ورق اللعب وشططه الفكيه.. كل شيءإعتنى بانحداره نحو “معسكرات الأبد” ليجلوه على مهل.

و هنا ألمح لا لقدرة المبدع على إنابة ذاته لتصير حنجرة الأخرس من العناصر، لتعلن بما هي مبتلاة به فقط، ولكن لتلغيز الحكمة : بمعنى تقصي أحوالها وإهدار مكبوتها حتى آخره، ليأتي مفشياً عن مناب الحكمة، مشافهة مصاب هذه الحياة التي لم تتشكل صاخبة بأحياء مضخمين بهائل الصفات عبثاً، ولكنها تداعت مرهونة لعبء سر لا بد من إعلان هدره ..كل إبداع يراها كذلك، أيضاً لرغبته الحثيثة في الإفصاح عن مدى هوانها، ارتأى مراودة تلك الصفات البدئية، ليتعاون وموهبته على الكشف عن حكمة مثولها، فضح فلسفة تجلياتها، الغور بكنه علاماتها، للكشف عما يتخفى من حكمة تستجير بها، كل هذا…لصد قسوة الغدر العابث بمصيره ومصيرها في آن ..

هكذا يستجلى فداحة الحكمة، مرافقاً حساسية الموهبة لتشف عن وهدها، هنالك تجل إبداعي يلاغي محنة الغبار، نستكشف هوله حين إنداح آخر النص، ليلازم الغبار كمشكل أزلي، كرسول للزمن، مشافهة غاية في الإبهار العليم، تدلل على هذه المهارة التقنية في كشفها للحكم التي تنطوي تحت غلالة هذا الغبار.

كل النزوعات التي حادثت العناصر في عموم الرواية، هلت: لتعميق تلك الصلات الواعية لسبر خوافي الطبيعة وعلاماتها الأزلية..

هكذا أناب الشاعر سليم بركات ذاته، وذاكرته لتصير صدى لموهبة الهبات التي يديرها بعناية تجاه هذا الكون المبجل.

7- ضراوة الاغتصاب:

غير تلك الملامح الدلالية والمهارات التي تمثل ضفيرة الحكي وجمرة الاحتدام، التي شيدت مناح الإغواء الأساسي، هنالك مهابة تتعلق بشأن تعالق المجابهات كلها في آن، اضطرامها، تفشيها بقسوة تدمر كل ينوع أو براءة كنا لها.

يبدأ عسير الردم باحتدام المداحل وهي تسوي العراء الكردي لإرضاء غرور المستعمر الفرنسي، ولتنفيذ خرائط الاحتلال، هنا يشكل فعل القار الأسود الذي أستبد لتسوية ينوع التربة، إخضاع بداءة الأرض الطرية الحافلة بضراوة أخضر النبت، لتتصخر لشأن يستهوي رعونة الطغاة … فعلاً مدوياً، وهو يتكرر بين كل اختلاج روائي وآخر، ها هو الضجيج لا يكف، البراميل المعدنية تصطفق، ملقاة بعبثية مهيبة، احتلال الحديد لسفوح تعصف بطراوة نبضها، تغالي بهتف نبتها الرهيف، دك الطرق بعنف يبالغ في قسر الرمل.. ، لنتعرض والأرض الرمل. اغتصاب شرس، تيقن مبدعنا من حتم الانحياز لتصعيده، ومداومة شراسة سقوطه لإيصال عته عنفه، حتى كدنا نصغي لاحتلال ذات الضجيج لصدوغنا، طيلة وقت الرواية، لنرأف بمياومة عمال مستأجرين، لا يعرفون غير عضل يندك، آن هتك المطارق لعنف الحجر الأبيض، الذي يتلو تاريخ القسر لهم.

لقد شكل هذا النهب ألماً يسحل الروح، كلما انتقلنا من مشهد بهي وديع، لنصاب بمباغتة هذا الاغتصاب العلني المستكبر لطيبة الأرض، ولنزاهة ساكنيها من أقوام لهم بلاغة الحب وعليهم شفاعة القتل.

بشكل ثري، تبلر فعل الاغتصاب في تلاوة سهرات تضم الغجر وأثرياء القرى من الأكراد والفرنسيين، لنرافق مشهداً نافراً يصف حدة الانتهاك التي ترسلها الرغائب، وتباين اندفاعها بين جرأة الفرنسيين الذي يبالغون في علانيتها بعنف، وبين الأثرياء الذي يتماهون بوقار الفحولة، وحيطة الحذر من إعلان النظر.

كذلك التماعات تخللت الرواية، لتشي باختراق المغول لذاكرة المكان والناس معاً، بالذات لكون هذا الحدوث المضني، انزلق من أعالي الصورة في بيت النسوة، وتمادى في تفصيل يصف – عنف -حرثهم الغازي لتاريخ المكان.

النص في غالبه، يداول مشقة الانتهاك التي تجازي الحياة وبداءة عناصرها، تعادي بسالة ناس يقفون بصرامة ضد النسيان، وهم يتعرضون لسيل القذائف.

لكني أحسست بقسوة الانتهار، لترقبي لهو دجاجات تندفعن بفضول لطيف لالتقاط كرات القار من على أول الطريق، ليتعرضن لأقصى العقاب ولنحر لا يتأخر، كأنما جرم الغدر من قبل الغازي لم يغفل عن أحد.

8- إشعال الأضداد كلها:

اغتيال ثورة عامودا، ضراوة الغزاة المحتمين بحديد طائراتهم، نهضة القتلى، شكوك الغرباء، اضطرام الكائن الناري، رهاوة النسوة وخيالهن الضاري بعزلة لا يفسح عن هواءها اللحوح، غير أجيرهن السائق “نعمان حاج مجدلو”: نذيرصمتهن (لهذا الرهيف شأن جميل، قد لا يسعني وقت الورق لأسترسل عنه، ولأستدرك مدى طيبته، هو المتعب من انهيال غبار المسافات، الغاوي زناد الطرق، لكنه بشفافية قلبه وردح نبضه.. كل حب، أحدث ترطيباً غاوياً لخفق النص، لكونه تمايل بمعجز أتلف القلب، ليرسل توله العاشق مغمياً عليه) كذلك جنوح حارس النهر “جوقان” المتعكز على عصى، تندد بمن يتجبر، للإخلال بحصانة نهره، اندفاع الأوز بغرور غامر، تراتب صرعى الثورات المنكسرة، انهيال المطر كنذير شارح على مهل الغيم.. مبتغى الإدانة.. كل يابسة تقسو، صمت الليل المهدور بطنين ينبعث من خلف شجيرة التوت، قوافل قتلى وهزائم رئات لا تنال من عناد دم “سعيد آغا الدقوري”، كل إرث الهضبة، عنف ديكة تصبغ الغيم بدم لعنفوان الريش، حرقة القار، قذائف البارود المزودة بأجنحة من حديد تستبد بسماء الهضبة:

كلها تصاعدت، نحو أعالي المحنة – معضلة الكمين- لتمثل مفاصل احتدام روائي فاعل، ينتقي منه مبدعنا سليم بركات، ما يتوالى على صراحة الحبر لديه.. ذات الوقت لإحالته – كل مشكل على حده – إلى سعير ذا مذاق خاص، يلتهب لتصعيد أوار النص، وتحفيز النقائض كلها لتشتعل بخواصها، محاولاً بفوز بالغ، إعلان الفداحة كلها، ليشهر نصل ذاكرة له، لم تعد تحتمل أكثر : مدى خطورة هذا العراء الكردي الذي يتصدى له، مدى قسوة مبتغاه منذ طفولة كانت له، كذلك تسديد طعنة – تجيدها حرية الأصابع كل حبر- ضد تاريخ لا عدل فيه، لفضح حياد القاتل فيه، هكذا يستبد ذا الموهبة سليم بركات بوطأة ذاكرته، لحفر عبء روحه على صخر زمن لم يرأف به، لإبلاغ راهنه العاصي، بمدى بلوغ محنته أوراها الصعب، أيضاً لتبليغ الآخر- الشاهد الأصم- بصدأ صمت يثقل عليه، لا يجوز له .

هكذا يدعنا لنسأل، كل نص شعري أو روائي: كيف تسنى ولم يزل، لذاكرة وجسد هذا الشعب قدرة لا تضاهى على رفض الموت، ردَّ النفي، صد زناد يتوهج برصاص للمحو؟ نسأل: لإبلاغ نفضة الحياة كم هذا الإرث عصياً على السفك، كم هو قادر على التشبث بمخالب تغرس محنتها بأوردة له، يحيا رغماً عن القتل، ليعانق ما يحنو على الروح: من غير الجبال نديم دمه الوحيد.

9- ضد النسيان، دم لا يجف:

هنا أتوقف أمام ظاهرة انسلال الحكي من عمق المشهد، ليصل بنا الراوي إلى وقيعة وأخرى تعمق شأن الروي، بدلالة تأريخية تثمن قيمة السرد، الأمثلة لا تحصر ولا ترد، من الصعب ترديد سيرة وقعها لكونها تحتل أغلب المشاهد، وهذه علامة مخلدة، امتاز بها سليم بركات دفاعاً عن دم تاريخ لا يجف، دوماً وفي كل عمل روائي وشعري له ، يتأصل هذه الامتياز بفرادة عالية، لكنه هنا توطن بمتاع خاص، بمذاق يليق بحسرة القلب وحده، آن يصلنا متاه الحكي بحدث تاريخي مفعم بالألم وبجسارة الأمل، ليدعنا نراه منتضياً منصة الشاهد – غفير القبر -لندرك ما حدث لماضي كرده من سفك بالغ.

كل كتابة له، لا تنسى فيها أصابعه أن تنزاح قليلاً عن صهوة الورق، لتدع لحديد الذاكرة حرية الاقتصاص.. تدعها لتتلو تلاوة الذبح، في “معسكرات الأبد” أفجعنا، عندما انسل من بهجة حوار ذو حبر فكيه، ليصف لنا كيف انحاز “موسى موزان “ وصهره “أحمد كالوا” للالتحاق بصاحب ثورة عامودا “سعيد آغا الدقوري” لنتكشف على منهل فجَّر الدم كله، بجرأة عصب يدون لتاريخ أسلاف احترفوا بحرية الروح فن الدفاع عن حدود الجسد وهواء الرئة، اندفاعا من قبضة لليد، حتى مصاهرة بارودة واحدة بذات الأصابع، ناس مجدوا ظل قائد مبجل، قاسى الهزم، التشظي تحت وابل القصف، ليعاود رعونة القتال، عندما عاد إلى الهضبة بلا جسد، بل كروح تعول على استنهاض قتلاه وقيد أسراه، راهن على رنين الجرحى أيضاً ، ليراود محاولة أخيرة يعتروها أمل اليأس ، لدوام النصر على أعداء مثقلة بعتاد الأرض، لنقرأ كيف تحامل “موسى موزان” وصهره، على هلع غامض لا بد منه، هلع لازم نهضة دمهم ، عندما تركوا شغاف القلب – نسوة يتناوبن بلاء الوحشة- لينتهبوا الروح دفاعاً عن تراب كردي يعني لهم كل شيء، ليتردم العراء بهم، إثر قذائف لم ترحم اندفاع صهوة الجياد، ولا هيجة الموكب السخي، المندفع، للنيل من وطأة استحلت ذاكرة لهم، تشظ بالغ في ذبح الأمل، لتتخلع الصهوات الجليلة، وليندحر شأناً آخر من تاريخ كردي باسل، على الأقل حاولوا فيه مناوئة غزاة الدم، آن الفشل لم يستكينوا لموت يلتحف التراب، ولم ينتهوا لذاكرة تغمد أوار الجثة في ثلجة القبر- هكذا أراد مهندس المحنة سليم بركات أن يعمق حرقة السلخ التي استبدت بهم – لا.. بل تحلقوا كأشباح حول أرضهم ونسائهم وأحفادهم وشمسهم وهواء كردهم، ليطلعوا على شأن الحياة – من هناك- بمهارات نادرة يستطلعها الموتى وحدهم، ليداهموا مشكل الفناء، كأرواح عتية لا تموت أوان انحسار الجسد، لا تستسلم حين انحدار الخسارات.. كلها، بل ظلوا كوعر الجبال، منشدهين بمهب المطر، ليلازموا ذوات الفوارغ حين إنسراح الجسد، ليتعرفوا على محنة الغريب الناري الذي أستأجر داراً تقترب من نسوة يقترن القلب بهن، حتى آخر الرواية، حين إستبسل نبل التضحية ليصل أقصاه- وهم أموات أيضاً – ببلوغهم قراراً جريئاً – يصل فيما بعد القتل- ليعاودا ذات البذل، ليناهضوا عته الغدر مرة أخرى، ليرافقوا فلول القائد القتيل، الدامع العينين “ سعيد آغا الدقوري” الذي لم يفتَّ الموت شيئاً من عزمه على مقاتلة الغزاة، بل استدعى كل طيوف القتلى منذ بدء تاريخ هذه الأرض .. ليمضي يستحث الطريق، عجولاً.. عجولاً..

01- نهب الخلود، هول الذاكرة:

“معسكرات الأبد” تلاوة لروح كردية بالغة النهل، لا تنسى أن تؤسس لكتابة ذات نزوع كوني، بامتياز لا يُشفى أحد من أنينها المداهم شفير ذاكرة تلتهي بشغف المبدع سليم بركات، لكونه من أتقن هولها، كتابة تشارف مصاب المصير الأزلي، حيرة الأبد، لتدين قذائف تلغي الروح، في تحبير مدو، لعنف فاشي حصد جماجم هذا الشعب الكردي، لتظل ذاكرة -كل حرف له- ترأف به، ذاكرة تنوء بمصاب تاريخ صعب، لتحفر على بياض الورق، رواية تلهج بحرفنة غزيرة، كأنها تقاطع الحياة وتتماهى بقدرتها على إيتاء المثال تلو الآخر، لتكون جديرة بهواء لها، وبإبداع يضاهيها.

كل هذا عبر تعدد لمهاو السرد، لا ينفذ منها أحد، كلها تساءل ما حصل، ولكن بسر بالغ يستوي للمبدع وحده.

كلما حاولنا مقاربة ذات الجزع، نصاب بصعوبة النص، لماذا؟

لأنا لسناه، لسنا فداحة سليم بركات، هو الوحيد القادر على تلاوة روحه وترجمة شأن بوحه، هو المشرف على طاقة المخيلة المستترة بطفولة لا تطاق.

ولي أن أثير مكامن نصية استرعت الذهل، سفحها لنا هول الذاكرة:

1- الذاكرة البصرية : تلك المتعلقة بميكانزم غريب يتعالى بتعدد مصادر ثرائها ، منها : القدرة التصويرية التي تواكب إحالات تتصف بحدوث الشخوص، انهيال عدسة سينمائية بحتة ترصد العراء وحيواته لترسم ما تراه، عين إخراجية ترافق كل المؤثرات الحداثية، المستجلبة لنية إخراج يقود بدعة المشاهد التي تناول تنوعاتها التقنية :الصوتية، الضوئية، السينوغرافيا، الحراكية بأحابيلها المنفذه لتعميق المشاهد- مثلاً تقديم صورة تستقبل النظر، يعززها ماضي الحدث دون الإخلال بحتم السرد، شبة حركات إستعادية تلازم حاضر المشهد، دون الإخلال بصدق الحدوث.

هذه المهارة توهم القارئ طيلة النص الروائي بانحدار عدسة بصرية ترقب المشهد، وتواكبه بتقنيات سينمائية تبدل المشاهد، لا يد تكتب أمام الورق، فعلاً لاستواء التنقل البصري الذي يعتني بين انحدار الضوء ووضوح الفعل التمثيلي المشهدي معاً، بما يوحي بحركية نظر يبتدع موهبة إخراجية – ذات ذاكرة بصرية غالباً- تقود كل العناصر لتأزيم الحدث بنزوع درامي، لنراه يستحيل إلى سيناريو روائي يعتني بكل تقنياته الواجبة لإيقاع مشاهدة مكتوبة تشبه ما يستوي على شاشة العرض أو منصة العرض المسرحي، التي تلتهب بكوادر فنية تستحث الرؤي لتبلغ غاية الإبداع، التي آن لها أن تكتشف ما تخفيه عنها “معسكرات الأبد” .

2- ذاكرة الإرث: عادة تحفل الذاكرة التي تعول عليها المخيلة بملامح لمعارف روتها الطفولة، أو حقائق قديمة راودت هيجة الصبا، لتحاول – كل كتابة- استحضار عنفها بضبابية لا بد منها، وبالذات وأنا أقود الحديث عن مبدع نالت منه المنافي مبتغاها.. بعيداً عن “القامشلي” ثلج بيته، لا عن كاتب يستضيف كمائن الأرض حوله.. كل حرف، أو يقارب حين الوصف لغة مكان قريب من القلب، فيه يحبر الورق محاطاً بذويه، تفاصيل وطنه، علامات قومه، لكني أتحدث عمن يكتب في بيت غريب على اليد، محاط بهواء يابس على رعشة الشهقة.

لذا استعر التحدي المدوي، استبد النزع القاتل، ما روته له حموة الروح، الذي استنار بها سليل الذاكرة: سليم بركات، كل كتابة لا تغفل عنه.

لنسأل: كيف له أن يستضيفنا – كل رواية وشعر أيضا- لنحل على داره، نقتفي إثر خطاه، لنعتاد على معشر إرثه حتى التناهي، كيف له كل هذا الهطول، وهو يدلي نحونا بغايات صعبة، قد لا يدركها غيره ممن يآزر حرص الكتابة، من يتوصى بحدوثها، وهو يقيم هناك في الشمال المستعصي على سليم بركات سكناه؟

هذا المنشأ الصعب، استعر لمبتلاه، داوي الذاكرة: سليم بركات، مذ تحقق له، منذ “فقهاء الظلام” حتى الآن.. آن “أنقاض الأزل الثاني”.

ثمت غرابة لم تتبدى – كما أرى على يقين لا يقلقه الشك – لمبدع سواه، تتعلق بقدرة المخيلة على النفاذ المتبلر، الانزياح الروائي البالغ في رصد رمل التفاصيل، ما أعنيه ليس انهيال مبتغى السرد، ولا قدرة الذاكرة الثقافية – كما يتوهم البعض، بكونها المنهل الكافي لهطول الكتابة، آن يستحضر الكاتب الملازم المعرفية، ويستمد من المراجع التخطيط الوافي، لجمع حصيلة من الحدوث التاريخية، لتدوين كتابة تستحصل، لا إبداعاً يصل – ولكن ما أعنيه هو استحضار رفيف الحي، مشافهة المتجسد، مراوغة القويم الحاصل بالفعل في ذات التذكر، محاكاة الحياة التي تلهو هناك، لنعتادنا كل وقت .. كأننا هناك، لنحتمل انقيادنا لأقوام تتعرق بتشبث مهيب بحموة الأرض، كما الجذور تماماً، ولسكنى مكان غريب علينا، لنشتاق لفقد أصبنا به، علاجه الوحيد: إعادة محاذاة النص كل مساء قاس، مجاورة عمل إبداعي يماثل خلق الحياة، لا أعرف تدليلاً غيره.

كالحياة تماماً، ينقاد المحدث بداءة القول: سليم بركات، لهوى مخيلة مشحوذة بذاكرة لا توجز له من حصول المشكل ولا رفاهية الحي …إلا ما تراه.

كل هذا ليمضي سارداً قدرتها الفريدة، مؤصلاً طاقتها التعبيرية الصعيبة – كل عصب يحتمل- في كتابة ضد محو الوقت، لتحتل بذات الحبر عنف الورق لديه. لولا هذا الانقياد الأعمى، الحميم المحترف لذاكرة تعي وطأة ماضيها، ذاكرة صقيلة بشهقة روحه، لولا خضوعه لانصياع الرؤى لمصابها.. لما أنجزت له جراح ماضيه، لما أنارت يأس حاضره، ولا نالت مبتغاه من مستقبل للخسارات، لما استدام كنرد يتحداه، لما ابتلى بحرفنة موهبة ضارية في وفاءها لدم من تشظي من ناسه، استنفاذ لحكمة إرثه، لما …حقق كل هذا الخلب المغوي.

11- ضروب من التفكه الكريم:

آن الحياة نصاب بأتراح تزجج فينا عبء البكاء، ولكنها أيضاً – أحياناً- ترمينا بساخر من البسمات على رسل يرسلها الهواء، ضحكات طرية قد ترأف بنا، وهذا ما تحقق لمن لاسن احتفاء مبدعنا بها كل كتابة، لتشكل وحدها مهارة لازمة، لتستنير متعة الرواية بحصول فكاهات تريق فن غزل المفارقات، التي تختلف بين كل منحدر للروي وآخر، لكنها تستديم كمهارة فنية يصاهر مثولها، طيلة الرواية لتعزز ما أردت الذهاب نحوه، إلا وهو شغف سليم بركات بإمتاع مسار الروي، لإلهاء القارئ ببسمة تأخذه بعيداً، عما سوف يقترب من حزن يداوي قلبه ، من هنا تشتعل المكابدات، لكونها نابعة عن رغبة أكيدة في تسريح الروح قليلاً عن مبتغاها، لتغفل قليلاً عن حديد الصهد..

لذا يسرف نحونا لنيل الفكاهة، ليُسهل على القارئ، أو يحنن عليه من هبوب وطأة الأليم فيما بعد.. هذا ما يحدث، لتمضي المفارقات بين هزل الكوميديا وبكاء التراجيديا لعقد موازنة ما، بين ما يشظى الروح من حزن يؤلم وبين ما يقترب من لهو طاغ حتى أوان الضحك.

21- آخر الألم:

هكذا كتب فقيه “معسكرات الأبد” سليم بركات: “الإنسان غضب: ذلك هو الكمين الذي تتحفز فيه الحياة لانقضاضها الشهواني. ومن دون غضب لا تتأكد المسيرة الصامتة للحقيقة في قناعها الممزق، دون غضب لا تكون للمكان خاصيته كمكان”.

ليروي فيما بعد: “توقف الدقوري الشاحب، المتقدم كسهم، دون أن يلتفت إلى “موسى”: “لا أحد يجهل الآخر في هذا البرزخ. أيها السيد. أنت شريكي”، وتابع من جديد سيره المحموم في الزوبعة المحمومة لخفق العباءات من حوله. لكن “موسى” أدركه ثانية: “إلى أين تمضي يا سيدي سعيد؟” “أنا لا أمضي، أيها السيد موسى. الجهات تأتي إلينا”.

“حدق” سعيد” في شبح الرجل الطويل: “لدينا متسع من الوقت” “أي وقت تعني يا سيد سعيد؟” سأله “موسى” بنبرة قلقة، فرد عليه ذو اللحية الزرقاء مبتسماً: “لماذا أنت قلق؟ لديك متسع من المكان”، وأشار بيده من التخوم التي توقف فيها – لصق الحدود التركية السورية المتداخلة – صوب الهضبة: “لديك المكان المشرف على المياه يا سيد موسى. أنت في الكمين”.

لنستهل على معول أخير استهام “بمعسكرات الأبد” باغت النظر في انعطافه السردي، حين أفلت آخر الفصول “القيامة” التي التحفت بما غادرها من فصل لا يقل عن هيلة هزيعها “أحلاف الغيم”“، ليبعث آخر التصدع، خاتمة المصاب، التي تحدت كل حدس تناهب ذاكرة من جاور النص، لم أتخيل أن يكون المصير الأخير، يحتمل تداخل التناقضات بين الأحداث، بحيث يتوازى مستويين من السرد، ضفتين للحكي : الأول يشعل التصديات بين الحشود المتضادة، والآخر يسرج عفوية الحوارات والأحداث اللاهية عما يحدث، لنشهد ذات الملاطفة التي لم تحدث تغييراً – رغم عنف ما يتقدم نحونا- في طيبة النسوة وهن يهرعن لاستجلاء التحول الأخير للهضبة، كذلك أغلب تداعيات الحوارات المدهوشة من مشاهدة الطائرات وهي تحتل السماء، ليسألن بعذوبة نقية ومعذبة في آن:

“هل سيطلقون علينا النار؟” لتستمر المعابثات الحوارية ذاتها، التي للمفارقة تجاور ما يتأود من منجز عنيف يجترحنا، ما تمثل في بدء هائل لطيوف تطوق الهضبة من حماة الإرث الكردي، اندفاع سلالم ترتقي السماء – طريقاً آخر استهله النورانيين نحو الأعالي-، تصاعد أشباح يعتنون بحدود الأرض، رفٌّ من الأرواح يتبعون “سعيد آغا الدقوري”، التماع سفينة للنجاة كل برق يعلو قمم جبل ”جودي”، اقتفاء الغرباء لحشود رهيبة لخطى تقتفي سلالة النار، رفقة يندفعون، يرافقهم حارس النهر- جوجان بوزو- بما اعتراه من تحد تأصل برعونة عذب النهر، يتقدمهم الكائن الناري : جحيم الذاكرة : دليل الكرد .. منجاة الجنة المؤجلة..

ضدهم من الجهة الأخرى للهضبة:

انهال الغزاة بملابسهم العسكرية، معتمرين خوذ الحديد، ملتحفين بعدساتهم الامرئية، محفوفين بجلافة خطاهم، هاهم يندفعون نحو المبنى المستطيل ذو العيون المتعددة، الممتد من أمامه، كعصف، مدرج صاغه الضجيج واعتلاه الإسفلت، لهبوط طائرات مهيأة لقصف القلب.. كل كمين يضرج الهضبة بانهيال قوافل الدم.

كل هذا الهبوب العظيم لهذا الجلل، داهم الحضور كله، من هيجة الغيم حتى آخر الكائنات.

لينهال – آن القيامة – كل شيء.. عنف الرياح المصحوبة بغيم لا يستكين، فتك الأوزن كل ملاغاة غريبة تدشن صمت الهضبة، لهاوة المطر العازف على جفلة الرمل، برق نبؤة أنارت سفينة نوح: وهم النجاة، حتى آخر ما ابتلت به الهضبة من مصائر تدلهم، لا أبالغ إذ بحت.. بأن ثمت أوركسترا من الكائنات تعالت، لتصير آلات نفخ.. استحث هواء الروح، تجاه مبدعنا الذي تنقل بين صفوفها لإهدار جللها، لتصعيد شغف تجلياتها، الذي توزع.. من وتر لآخر.. ليزدحم بعصا الموهبة.. كما المايسترو تماماً.. وهو العارف بمدى حلول محنته، كل قوس يشد الوتر- ها هو يهيل الحشد المثال لينال مبتغى الأزل، صعق الأبد، عزف يتشارف ويتصاعد، متوصياً بحرية فضاء للكائنات كلها، موقناً بأهمية حز أرواحها، تعزيز خطاها نحو رسن الهاوية، للإبلاغ عن التحامها الأبدي بصيرورة الأبد.

هكذا انهالت جرأة الحبر: من تحريض بالغ برعونة الأوز حتى طريق للنهر الواهب لعصا “جوجان بوزو” حراسة عذبه وعذابه في آن، هتفاً رافق هيستريا ناوشت الكلبان ذوي الخرس.. حتى مشيئة خلعت أهل “موسى موزان” و“خاتون نانو” من سهو عزلة تستبي جل وقتهن: لينهدرن نحو الآخرة، من غير: هدله، هبه، بسنه، زيري، ستيرو، ليشعلن هيبة اللحن.. آخر الهضبة..

حشد بالغ لم يتأخر عنه أحد.. تبدى بعنفوانه، مرسلاً “العلامات الكبرى” لأذان القيامة، مقتفياً إ شاراتها النورانية، لتصله بالمياه، محنة الشمال البعيد. حشد إدلهم مطوقاً بعينيه – التي تدين إذ تحدق بعنف يبالغ بحدة النظر- المحتل الفرنسي وآلاته الناهبة طراوة الهضبة، المدشن الأول لزحف طائراته المحتمية بأرتال البارود، عبر ممر شيده بدوي الإسفلت، تحت نير طال عرق زند العمال، اللاهون عن بغته، ذاك الضجيج الذي أقلق الشمال كله، لتهبط عليه أول طائرة تتسم بحقد القتل الذي شظى “ثورة عامودا” بقيادة ذا اللحية الزرقاء “سعيد آغا الدقوري “ : “الذي يقود تلك الفلول، لاهثاً تحت لحيته الزرقاء، ممزق العباءة، لكنه يحاول – جاهداً أن يصل جهة بجهة أخرى، بدموع خفيفة على خديه امتصها شارباه “ هكذا يصف سليم بركات حزنه العاصف.. لنكاد نراه يمضياً عجولاً وحشوده المضاءة كتمائم حوله.

آخر الروح:

آن الخاتمة التي أغلقت آخر ورقة كادت ترتعد بين يدي، فيها اصطلى:

كمين الرواية:

ما انهال لنشرف على من ينازع رعد الذاكرة، من غير: “رَشْ” و“بلك” الديكان اللذان تناوبا على نهايات تعصف بجمر الكلمات.. لنصغي لذوات تتصدع.

هل هكذا انعطف صراع الأبد، ليبلغ بعنفه – الآتين على مستقبل، يكاد يصل- عن صيرورة اعتراك ديكين لم نسلم من مهب ريشهما الدامي ولا مخلب العضل، وهما يفتتحان بدء الكلام كل فصل مضى، هل هما حتم حدس، يشي بنكبة اعتراك أزلي يستشرف تاريخ بدأ بخلل مصاب، ناهز مأزق الكرد ولم ينتهي بعد.

هل هو مشكل أبدي، لإصطراع لا يكف، حتى يهدر آخر الدم، خلاف يلازم نرد الماضي، ولا يفيق على مستقبل قد يراه، هل أضاء النص كله؟

لبلوغ المصير الأخير، انحدرا – كشأن غواية السر، الكائن الناري – آن العراك الأزلي، ليغيبا خلف شجيرات التوت، الشجيرات ذاتها، التي أمعنت في حراسة طنين كائن النار: ذاكرة الكرد، روح القائد القاسي على الموت، ذاك اللغز الذي ما أن تخلع من قيد بابه، حتى أشعل المنتهى به.

آخر الكلام:

لنهايات كادت تعصف بصدوغي، لا أدري كم استحصلت من حرية الحبر العصي، ولا من نهضة البصر المرير.

هل اعتريت أسر بوح غالى تجاه كتابة أسرت ذاكرتي؟

لا أدري كم حاولت؟ أو هل اقتربت من مقاربة “معسكرات الأبد” بما فيه الكفاية لصراحة دمي؟ ما آخى مبتغى القول كل هذا الوقت، لنص إبداعي بدا لي ولم يزل.. كجسد فاغر حتف الذاكرة، معلناً جحيم السؤال، ماراه..

مناولاً بمعصية الروح، جمرة الجنة.. مآواه.