-1-
“إن العالم مكانٌ وحيد، تحكمه الوحدة.
نادراً ما يكون المرور بحياةٍ أخرى شيئاً يشكل ملاذاً من هذه الوحدة.
أو يكون شيئاً ينتصر عليها ويحتلها.
ولكنه أمرٌ ممكن، وهذا ما يجعلنا دوماً نحاول”.
وليد هاشم
-2-
“مروراً بحياة أخرى” هي الرواية الثانية للروائي البحريني وليد هاشم، أنجزها بعد سنوات من صدور روايته الأولى “لم أكن هناك” تلك التي كتبها وهو في الثالثة عشر من عمره.
رأيت المسودة الأولى من روايته الثالثة “رؤى الناظرة من يرمق” على طاولتي تحدق في عمر مضى بيسر تام، وانشغالات حثيثة بحياة لا تتريث أمام الأحلام، رأيت الرواية لأدرك مدى قدرة الحلم على الاتقاد والتحقق أمام طفل اتذكره تماماً كأنه الآن، جالساً يؤلف الحكايا لأخويه واصدقائه، مدى المخيلة هي غرفته، الأحداث خضم سريره، الحروف هواء حجرته، طفل منشغل بالحياة وما يراه يحتدم أمامه على الدوام.
ما أن اتقن نسج الحروف لتشكيل كلمات تتراصف تباعاً حتى بدأ كتابة القصص والقصائد، بدأ بتدوين تدابير مخيلته على الورق، بفرح غامر كان يعرض على ما كتبه ويشترط ألا أغير حرفاً أو أصحح أي خطأ نحوي، كان يود أن يرى ما كتبه كما هو، صافياً كنبع عذب يتدفق من قلبه، لا يهتم بما يراه الآخر من أخطاء بل كان يستمتع بحدوثها ليتعلم منها.
– 3-
“لم أكن هناك” رواية تتقصى حياة طفلة في الرابعة عشرة من عمرها تبدأ من البيت مروراً بعوالم مختلفة تحاور فيها الحياة بكل اشكالاتها من الحرب، العنف، الحب، الخوف، العدالة، الحرية.
مواقف عديدة تمر بها لتضيء لنا المشاهد المعبرة عن أرواح المراهقين القلقة والمتعبة من شراسة العالم التي تواجه نقاوة قلوبهم الصغيرة.
“مروراً بحياة أخرى” هي حكاية ملجأ يضم قسمين منفصلين أحدهما للفتيات وآخر للفتيان، تتعرض المنطقة لزلزال فيتصدع الجدار الفاصل بينهما، يحفر الفتيان في منطقة رخوة من الصدع فتتشكل كوة صغيرة تبدأ منها أحداث الرواية عبر حوارات تظل مسكونة بالتوق للحرية والانعتاق من العجز والخوف، سلطة الملجأ وسطوة المجتمع، حوارات تمس أشد القضايا جرأة وهي تحاور كل شيء يمس حرية فتيات وفتيان تم عقابهم وعزلهم عن العالم:
“.. كان هذا أمراً جيداً في رأيها لأنها أخيراً ستموت الموت الذي تستحقه.. لكنها لم تمت، فقط ظلت مخنوقة، معذبة، ولكنها لم تمت. حاولت أن تتقلب في سريرها المؤلم. لكنها لم تستطع التقلب. كل ما استطاعت فعله هو النظر إلى الصورة البشعة لنفسها التي كانت معكوسة في مخيلتها. كل ما استطاعت فعله هو مواصلة الاختناق. كان الظلام يضيق الخناق على جسدها الضعيف الذي لم يعد يتحمل الألم الذي تشعر به. حاولت الحراك، والهروب من هذا الحلم المزعج، ولكنها سرعان ما أدركت أنه لم يكن حلماً بل هو واقع تعيشه. حاولت الهروب.. حاولت تكسير كل هذا، ولكنها لم تستطع. بحثت عن كل قطرة من القوة في نفسها، وأخذت تجمع القوة التي تحتاجها للكلام وطلب النجدة. مرت الساعات وهي تجمع القوة. أخيراً استحوذت على ما تحتاجه كي تفعلها، وكي تهرب من هذا الظلام الأزلي. أخيراً أطلقت ريم صرخة قوية، عميقة، مدوية وعنيفة من سريرها الذي استلقت عليه. هزت ذبذبات صرختها جدران الإصلاحية”.
-4-
ذات ليلة، حدثني “وليد” بما يتوافق بمحنة القول:
“الكتابة متعة خالصة، لا تتحقق الا حين العثور على الكلمة التي تفي بمبتغانا التعبيري، حين ننتهي من الجملة التي تفضحنا وبالتالي تعبر عنا، الكتابة شأن خاص، بكل ما تحتمله من معرفة وحكمة وموقف إنساني، لا علاقة لتجربة الكتابة بكل هذا اللغو المسمى حضوراً، مجداً، انتشاراً، مدحاً، ذماً، قبولاً أو رفضاً، حتى سعي الآخرين نحو محافل الاحتفاء أو بلوغ العالمية في أفظع صورها، ما هو إلا تكريس لخديعة “الإيجو” المستحكم فينا، يتوجب علينا ألا ننصاع له، ونحن نسرد ذواتنا نحوهم، علينا أن نكون بجدارة الحرف الذي لا يكترث إلا لقيامه”.
شهادتي ليست مجروحة في “وليد” لكوني أمه، لكن حروفي مجروحة تماماً.. لكونها تتحدث عنه للمرة الأولى.