محنة كونديرا التي لا تحتمل


(1)

“نعم، إن رواية اليوم تمتحن الشرك الذي استحال العالم إليه.”

(2)

“كروائي، أشعر دائما بأنني ضمن التاريخ، وهذا يعني، أنني أقف على الطريق، محاوراً أولئك الذين سبقوني، وربما حتى أولئك الذين سيأتون (لكن بدرجة أقل). بالتأكيد أنا أتكلم عن تاريخ الرواية لا عن تاريخ آخر، وأتكلم عنه كما أراه.”

(3)

“ها أنذا أعلن عن اهتمامي الكبير بتاريخ الرواية، في الوقت الذي تتنفس رواياتي كلها الكراهية للتاريخ، لتلك القوة العدوانية، اللاإنسانية، التي تقتحم حياتنا من الخارج، دون دعوة، لتقوم بتدميرها. مع ذلك، فتصرفي المزدوج هذا لا يفتقر إلى الاتساق، لأن التاريخ البشري وتاريخ الرواية شيئان مختلفان تماماً، الأول لا يتحدد وفق إرادة الإنسان، بل هو يقوم بالاستيلاء على مصيره كقوة أجنبية، لا يستطيع التحكم بها، بينما نجد تاريخ الرواية (أو تاريخ الرسم والموسيقى) ثمرة حريته، معنى الفن يتعارض تماماً مع التاريخ نفسه، وذلك بسبب طبيعته الشخصية، تاريخ الفن هو انتقام الإنسان ضد الطبيعة اللا شخصية للتاريخ البشري.”

(4)

أن تهزم، أن تقوى وأنت تقرأ “ميلان كونديرا”، لكونه لم يحتمل خفة الكائنات من حوله، فتحول إلى كتابة تستدعي مناعة القارئ لتلاحقه بالهزائم، لتكتشف معه مدى الغموض والسخرية التي تغلف لغم العالم.

ميلان كونديرا، أحد الكتاب التشيكيين الذي لم يحتملوا وهم يكتبون ليل الورق احتلال الدبابات الروسية ذات غزو عنيف، لطراوة أجساد فتية تعني لهم الكثير، لم يحتمل ربيع براغ، ومشاهد تطوح أشلاء ودماء طلاب علم تتوازع الساحات، لم يحتملهم وهم يعلنون شهيقهم الأعلى من قامات القذائف. لم يحتمل جثث تغطي الساحات، لذا راح يحلم كل حبر بيأس لا يقل قسوة عما يراه ويدعونا لنحاول الاحتمال.

ببساطة، أتاح لنا وقتاً للهزيمة. لنعرفه ونمضي لانسلاخ محتوم، لصيرورة الصمت القاتل كل جرم، كل ورقة تعلو وتهبط، وهو يحاور العقل ليتخطاه، يقطف بذرة المخيلة ليقصيها عن عاديات التخيل.

كونديرا.. كائن آخر، يستفز تاريخنا الإنساني، معلناً قدرته على اختبار مناعتنا عنه. كما قال في حديث بعيد: “من المؤكد أن حكم التاريخ حكم غير عادل، وربما يكون حتى حكماً غبياً. إن القول بأن التاريخ سيحاكمنا-والذي هو قول مألوف وعادي- يعني بأنك وبشكل آلي تفهم التاريخ على انه الأساس المنطقي للأشياء، وله الحق في إصدار الحكم، وله الحق في إحقاق الحق، إن هذا الفهم تجده عند الأمم الكبيرة التي عبر صنعها للتاريخ، تنظر إليه دائماً على انه حكم وإيجابي، لو أنك أمة صغيرة فأنت لا تصنع التاريخ. فأنت دائماً موضوع التاريخ، التاريخ شيء عدائي، شيء لا ينبغي عليك أن تدافع عن نفسك تجاهه. فأنت تشعر، عفوياً بأن التاريخ غير عادل وغالباً ما يكون غبياً، ولا يمكنك أخذه بجدية، ولهذا السبب تشكل مزاجنا الخاص، مزاج قادر على رؤية التاريخ على نحو متسم بالإحالة أو البشاعة، شيء خيالي.”

منذ صرخته الأولى في روايته “المزحة”: “التفاؤل أفيون الشعوب.. الجو الصحي ينتن بالغباء.. فليعش تروتسكي” حتى “غراميات مرحة” وما تلاها من “الحياة في مكان آخر” و“خفة الكائن التي لا تحتمل” حتى آخر حبره، لم يزل بترصدنا ببداءة كاتب شغوف بالانهيار، انهيار الزائف والمتكلس من ذرائع الاتصال بالآخر والعالم.

كان يهتف ذات حرب:

“التاريخ بالنسبة لنا صلب ومحسوس، إنه الحرب إنه نظام سياسي، إنه نهاية أوروبا، إنه مسيطر تماماً- نحن مقبوض علينا، إذن هو الشرك.” ليسأل ذات كتابة:” ماهي الاحتمالات في عالم تحول إلى شرك لنا، لقد تحدى كافكا أكثر الأفكار قبولاً في المجتمع، وهذا هو بالتحديد واجب الروائيين: أن يتحدوا باستمرار الأفكار الرئيسية التي بني عليها وجودنا المحض.”

كونديرا كاتب شغوف بترجمة الذات، يتحصن بآليات الإبداع التي تكتشفها خفايا الروح، لذا تأتي كتابته بمتعة الاكتشاف، وترسل مراهنة لا بد منها لتلهي القاريء: نديم التعب، رغماً عن خيانة الترجمة: خليلة الخيانة، نتصل بكتابته ونعيد تكثيف أعماقنا لتتشظى على يديه، وهو يوحي لنا باحتدام إرسالنا ببطء إلى مبتغاه: حنين الهاوية.

قد لا نعترف بضعفنا آن القراءة، ولكن ما أن تغادرنا كلماته حتى نجزم بقدرته علينا، لما نراه من حوار مؤجل، حالات لا تنسى، تعرية لمخبؤات الذات ومكبوتات تتسربل بها كائنات تلهو بنا لتنال منا، جسارة تلغي جسورنا نحوه، لنتهدم على مهل.

(5)

“خيانة الوصايا” كتاب وفي لبوح كونديرا كله، فيما يتعلق بمشافهة الإبداع، تقرير يتلو حرصه على مداهمة الموهبة، تفتيتها، لكز آخرها، جرأة لا تنتهي وهو يعلن كل ورقة بإسرار تتلوها الذاكرة، هذا الكتاب نهل معرفي لمن أراد أن يعرف مبتغى كونديرا الجهنمي، غرفة حروف تعترف بمبتغاه، اعتراف حرفي بسيرته العصية على الكتمان. باختصار أجمل المحترفات والمختبرات لتلقين سحر الإبداع.

(6)

منذ العسف الاشتراكي وسواقي الشمولية الفكرية والتأليه العقائدي لآليات العنف الحديدي، كانت الترجمة العربية تمضي دون أن تكترث بأن ثمة كائن وحيد مثله يكتب وكائنات معزولة مثلنا ترصد عزلتها لتكتشف كم كانت تجهل كاتباً وحيداً يتردم بين اعتقال وآخر، جسد منذور لنبذ فكري ونفي جسدي صادر من مراكز الإلغاء الحزبي المهيمن آنذاك، هكذا كان يجترح عنف مصابه:

-” من القسوة أن أخسر، فجأة، الجمهور الذي اعتدت عليه حتى سنين الأربعين.

-لكنني لم أكن وحيداً.

-كانت تجربة فاتنة لأن تعاش.

-كل ما حدث كان مثيراً.. حتى الحزن.

-لقد تم الحظر على كتبي.”

هكذا كونديرا يقود الطواحين بقدرة القمح لا بخشب المهرجين.