ما تبقى


“قلت في سري، سأتمكن من الكلام على سجيتي بلا قيود. أما الآن فما زال الوقت مبكراً، ولكن ألا يكون الوقت مبكراً في اي وقت. ألا ينبغي أن أجلس ببساطة وراء هذه الطاولة، تحت هذه اللمبة، أرتب أوراقي، امسك قلمي وأبدأ.. ما يبقى.

ما هو أساس مدينتي وما به يصيبها الهلاك، أن لا شقاء سوى شقاء أَنْ لا تحيا، وفي آخر الأمر أن لا يأس أعمق من يأسك لأنك لم تعش.”

بهذه العبارة المفعمة بخبرة الحياة – رغماً عنها – بعيداً عن الحياة ذاتها، أنهت الكاتبة الألمانية المعاصرة “كريستا فولف ” 1929 – “آخر رواية لها “ما يبقى “وأول رواية تترجم إلى العربية بفضل الكاتب “بسام حجار “، التي أنهت كتابتها في صيف 1979و امتنعت عن نشرها لجرأتها في تداول طبيعة حياة الكتابة في بلادها ألمانيا الشرقية، فلم تصدر حتى عام 1990، بعد عام واحد على سقوط جدار برلين وقبل أسابيع قليلة من إعلان إعادة توحيد الألمانيتين.

يبدأ الكتاب بنبذة تضيء ما سوف يأتي فيما بعد: “تعتبر كريستا فولف الى جانب كريستوف هاين وستيفان هايم وغونتر غراس أحد أبز الوجوه الأدبية للّغة الألمانية وثقافتها لفترة ما بعد الحرب العالمية، لها عدد من الأعمال الروائية من بينها: نسيج طفولة، لا جهة لا مكان، حادثة طفيفة، قصص يوم واحد، ثلاث قصص غير معقولة ومشاهد صيفية.

طوال أربعين عاماً ظلت كريستا فولف تنمي ولعها بما أسمته “ أدب الذات “ الذي يستلهم قيم احترام الفرد و تفتحه الذاتي في ظل الحلم بالحرية و بالعدالة الاجتماعية، تعرضت الكاتبة لاتهامات الهيئات الثقافية الرسمية و الحزبية بأنها استبدلت ماركس بفرويد و بأنها انتهكت قيم الواقعية الاشتراكية بإبرازها لقيم “ الفردية”، و نصحها ناشر كتبها بالتوقف عن الكتابة، بالإضافة لسلسة من المضايقات التي أدت لاستقالتها من “ اتحاد الكتاب الألمان “ بعد 12 عاماً من العضوية الناشطة، لتواجه “ الصدمة الحاسمة” بخضوعها لمراقبة دائمة و تعقب من قبل “ ستازي” جهاز الشرطة السرية الألمانية “، و لتكتب لها و لنا ما تبقى.

تنهمر الرواية بمنولوج داخلي طويل، يأخذ وقتها كله والمتمثل في يوم واحد، تنتقل فيه الكاتبة من طاولتها حتى تقترب من النافذة وببطء تزيح الستارة لتحدق فيمن يحدقون بنافذتها، لتصف لنا حال الأسيرة وهي تتحرك في بيتها المداهم بنظرات تنبعث من السيارة الخضراء المثقلة بأجهزة التصنت، هكذا تشرب قهوتها وتكتب بصعوبة بالغة لأحاسيس مريبة تنتابها، تبدأ في سردها: “أتحسب إنني أجهل هذا الأمر؟ أتظن أنني احسب نفسي مختلفة تماماً؟ النقاء، الحقيقة، اللطف، الحب؟ أتحسب إنني لا أدرك

مرادهم؟ بل أدركه، يريدون أن أصبح مثلهم، لأنها البهجة الوحيدة المتبقية لهم في حياتهم البائسة: أن يجعلوا الآخرين على صورتهم هم “.

تجسد الرواية في محورها الأساسي طبيعة هذا التضاد، بين هيبة فعل الكتابة وهيمنة الرقابة والرصد، يتجلى كل هذا ضمن آلية من المتناقضات تتحملها الكاتبة ضد هوس التدمير

المرصودة له من قبل مؤسسات السائد، ذهنية القامع موهبة تعلن للعالم ما يحدث، والأهم تدمير ذاتها المبدعة بما تمثله من رؤيا إنسانية، فنية تبتدع طريقة خاصة لحياكة تجربتها.

الرقابة الفعلية التي تحرس بيتها طيلة الوقت، لعبت دوراً في تهديد حريتها الداخلية، مما دفعها لإعادة صياغة علاقتها و كل تفاصيل الحياة، من أثاث البيت الذي بدت ترنو إليه طيلة الوقت و هي تفكر و تتأمل، حوارها الصامت و زوجها المقيم في المستشفى، ابنتها في المدرسة الداخلية، أصدقاؤها، جهاز الهاتف الذي أصبح مصدراً للذعر، و هي تعيد ترتيب كل حوار يصلها ملغماً بالشفرات و الرموز: “ هكذا اعتدنا أن نتخاطب دوماً، بعبارات موازية، على هامش القول الفعلي، قال: سيأتي إلى المدينة خلال الأيام المقبلة و سيتصل قبل مجيئه ليتسنى لي أن أسخن الماء لصنع القهوة، و تابع قائلاً: أن ثمة شخصيات مرموقة نعرفها جيداً و نحترمها تنكب الآن على عبارة “ الماء لصنع القهوة “ لاكتشاف ما ترمز إليه من معنى حقيقي “.

هذا المصير المربك دفع الكاتبة لإخضاع كل شيء للمسائل رغبة منها بإعادة اكتشافه وذلك لتدعيم قواها وقدرتها على الاستمرار دون أن تنهار كل نهار تزيح فيه الستارة عن زجاج النوافذ لتهمس: ما زالوا هناك.

كتابة لا تتركنا، لا تدعنا بعيداً عنها لحظة واحدة، فهي تشركنا بذات الشرك الذي تحيا فيه، لنتفحص طبيعة الشباك، لا نتابع أحداثاً تقليدية كما تعودنا و عادي الرواة، لكون “ كريستا فولف “ تغمرنا بما يحتدم بأعماق ذاتها، منذ البدء تعودنا الكاتبة على فن الصمت و الإصغاء بحذر لتدفق الحوار الداخلي القادر على مواجهة العالم كله، دفاعاً عن “تهمة” الكتابة بحرية، لذا تحترف التداعي بانسيابية فنية تنتقي منها تفاصيل ملهمة لتصوير كل ركن في بيتها و قلبها، طاولتها، همومها و ذاكرتها، تلغي المسافة بين الداخل و الخارج، تكسر زمنية الأمكنة، لنرحل و إياها أين تشاء، لنشهد على ما ذاقت من انتهاك و مصادرات طيلة الكتابة.

“اذ ربما كان الأمل يكمن في حقيقة إنني بتُّ لا اشعر داخل شقتي بأنني في بيتي.” “لقد أكد لي أحد الأخصائيين في الأدب الروسي أن أخماتوفا لبثت عشرين عاماً تحت مراقبة متعقب خاص بها ““لابد أن ينتابه الهلع إزاء بطلان تصرفاته، فلو سأل نفسه، بعد تصفحه هذه الملفات كلها، عما بات يعرفه عن هذا الشخص ولم يكن يعرفه من قبل، فلا بد أنه سيخلص إلى الاعتراف بصدق: لا شيء، وإذا واصل سؤاله عما حظي به بعد كل هذا الجهد فبإمكانه أن يعترف لنفسه مرة أخرى: لا شيء.”

“ما يبقى “رواية شديدة الحرص على تقصى كل المشاعر والأحاسيس التي انتابت الكاتبة “كريستا فولف “وهي تدون رائعتها، فكان لنا ما أرادت من طوفان الأسئلة التي اجتاحت مخيلتها المبدعة.

لتبقى وتشهد انهيار ما شيدوا من حجر، وتصدع كل جدار ارتفع، بدءاً من سور برلين حتى كل أسوار العقول المتحجرة التي تتوهم قدرتها على أسر الهواء.