(1)
“لا أنتظر هبات القدر، غير نادم
على الماضي، الذي دفن عميقاً.
فآهٍ، لو نعثر على حرية حقيقية،
على نسيان حقيقي، في سكينة النوم الأبدي! “
(2)
“تهاوى “ليرمونتوف” على الأرض المبتلة. واستلقى هناك، في سفح الجبل، دون أن يفلت أنة أو آهة. كان وجهه شاحباً، لامعاً، مثل قناع، وجرح مفتوح تسيل منه الدماء إلى الأرض المبتلة بالمطر، وأقترب “مارتينوف” منه مذعوراً، خاوي النظرات، وهمس: “فلتصفح عني يا ميخائيل! ثم ولى الأدبار..” و. رفعا الجسد، وضعاه في العربة الضيقة، كان رأسه يتدلى خارج الصندوق، في الفراغ، أما ساقاه، فقد انثنتا تحت جسده المتجمد المبلول.”
(3)
لماذا أتناول سيرة شاعر أدمى تاريخ روسيا الأدبي، وتحول بجرأة صوته إلى نصل، أدان قتلة شاعرها العظيم “بوشكين”، ليلقى نفس المصير، على أيدي ذات القتلة…؟
هل لأجوب فداحة المحنة في راهننا العربي، الذي بات أشد وطأة من القتل، أم لأستدرج ذاكرة الشعر، العسيرة على الفقدان، المبتلاة بوقت يستعيد لها ما فات بقسوة لا تقل عما مضى من دم.
(4)
مسجي في ظلام النعش، بعيدا عن نقمة البلاط، وعنف الأوصياء على حرية الهواء، غريباً في أرض لم تعد تحتمل اندفاع ذاكرته، ولا نهضة روحه، ولا وميض كلمات تشعل الليل.” عندما تساقطت أولى قبضات التراب على خشب النعش، ابتدأ المشيعون في الرحيل إلى مشاغلهم العادية، لم يكن الشاعر قد أتم بعدـ عامه السابع والعشرين”.
“من أجل كل شيء، أشكرك من أجل كل شيء:
من أجل عذاب الحب السرّي، وسّم القبلات،
من أجل الحزن والألم، والدموع المرّة الحارقة،
من أجل الأصدقاء الحانقين، والأعداء الحاقدين،
من أجل كل ذلك، وأكثر بكثير:
من أجل كل العناء الفارغ للحياة.
من أجل الهوى الضائع، من أجل الكثير الذي راح هباء.
وأمنيتي الوحيدة، ذلك الأمل الواهي الذي يستيقظ فيّ،
هي ألا يكون على أن أشكرك طويلا… “
(5)
خلا ل سنوات قليلة، بدأت منذ ولادته في الثالث من أيلول” سبتمبر” 1812، دو ّن “ليرمونتوف”، تجربة شعرية، تقصت كل تفاصيل الحياة، وهي تدين غطرسة أسيادها. بالرغم من طبيعة الأحداث العارمة، التي طالت بحموتها وطن الشاعر، وهو يكتب تحت وطأة مفترق تاريخي، تحت نبال القمع القيصري بين زمن النبلاء الديسمبريين، وزمن الديمقراطيين الثوريين، رغم هذا، كان يكتب ذاته المطعونة بمرارة الواقع، المستبسلة حّد العصيان، دون السقوط في وهم الشعار، أو مداهنة الذات بوهم الكتابة عن سواه.
حتى عندما أخترق الرصاص صدر صديقه الشاعر” بوشكين”، لتستعيد روسيا إثر الفجيعة مشهد أسراب القوات القيصرية المشاركة في قمع الانتفاضة الديسمبرية، وقوافل المنفيين إلى “سيبيريا”، والمشنوقين في “قلعة بطرس وبولس” انزوى “ليرمونتوف” يحفر بعناد دمه كلمات قصيدته “موت الشاعر”، لتتناقلها الأيدي، تصونها الذاكرة، حتى تصل إلى قيد القيصر.. ويأمر بنفي الشاعر إلى “القوقاز”، بعد محاكمة مؤلمة، لم تستطع أن تمحو صداه:
“وبعد – فهل أنتم أبرياء،
يا من حاصرتم، في قسوة،
موهبته الحرة الشجاعة؟
يا من نفختم في اللهب الخامد
حتى فورة الغضب المفاجئ
فلتبتهجوا إذن-
فلقد كان صفاء الأمل فوق طاقة الاحتمال.”
(6)
كتب “بيلينسكي” عن رائعة ليرمونتوف “تأملات”: “لقد كتبت القصيدة بدم القلب، لقد انبثقت من عمق روح منتهكة. إنها صرخة، أنّة إنسان يمثل غياب الحياة الداخلية – بالنسبة له – شراً أكثر إفزاعاً لمئات المرات من الموت الجسدي. “
وهذا، ما حدث له..
بعد أن أحكمت أجهزة القمع حصارها حوله، أوعزت لأحد دعاتها من القتلة للنيل منه، عبر مبارزة حولها “ليرمونتوف” إلى قصاص أبدي يحاكم العرش ذاته ويدين حياة لم تعد تكفيه.
واقفاً على قمة المنحدر، يرى إلى السماء، وذراعه الأيمن على صدره، مصوباً مسدسه نحو الفضاء، وخصمه “مارتينوف” يتقدم نحوه، مصوباً المسدس نحو القلب بإمعان لا يخطيء.
هكذا تهاوى الشاعر. آن شرعت قطرات المطر في الهطول… كأنها تنهل من عذوبته:
“وداعاً، وداعاً يا روسياي القذرة،
يا وطن السادة والعبيد الكئيب! وداعاً
أنت المعاطف الزرقاء السماوية
وأنت، شعبي الذي يطيع أوامرها على خير ما تشتهي!
ربما يمكن للقمم القوقازية أن تحميني
من أمرائك ووزرائك،
من أعينهم الحادة، التي ترى كل شيء
ومن آذانهم المرهفة، التي تسمع كل شيء.”
لم ينس قبل الموت، أن يكتب ضد كل شيء تعرض لحرية جسده وحبره في آن، حتى المعاطف الزرقاء السماوية، زي البوليس القيصري، من أذاقه الويل كل منفى، واختناق كل قيد.
هكذا شاء أن يرحل من هذا الكوكب… واقفاً أعلى القمة، يحدق بأفق رحيم، وغيم يترقب انبجاس الدم، ليعصف بقسوة الأرض، قطرة.. قطرة، وهو يصغي لنبوءة قبره:
“ولعل صوت الحب ذاك، يغني لي،
مهدهداً سمعي، أغنيات عذبة ليل نهار،
ولعل سنديانة عجوزاً تتمايل،
إذ تحرس نومي، فوق رأسي إلى الأبد. “