(1)
قبل القبر، قالت:
“كيف أصنع رأساً من تلك الصخرة التي تعتلي منكبي؟
كيف لا أروي تلك المساحات الشاسعة من الرمل؟
وأنا لا أملك إلا قطرة دم واحدة
منحني إياها جمع غفير من الأجداد
وأخبروني إنها سري، فانتابني نوع من الحيرة:
كغد أدخله جسدي، لا لضيق المكان، وقلة الشرايين،
بل لأنني لم أعتد على الوجود بعد؟”
سنية صالح
(2)
“لم يكن الاكتئاب مجرد حلية تتحلى بها الكتابة النسائية، لقد كان نتيجة، وهي نتيجة تبدو الآن وبعد زوال الحدث طبيعية ومتوقعة ذاك لأن دخول المرأة إلى الكتابة هو دخول في منافسة سافرة مع الثقافة الذكورية. هذه الثقافة الراسخة والمهيمنة، وهذه الثقافة التي أحتكرها الرجل لنفسه على مدى قرون. ولم يك من السهل خطف القلم من يد الرجل. ولقد أحتاج هذا إلى ثمن باهض دفعته المرأة كاملاً ووافياً. ولم يسلم الرجل بالأمر فقد جابه المرأة مجابهة شرسة كما أن الثقافة ذاتها لم تسلم قيادها للأنثى. وهي ثقافة تمكنت الذكورة منها حتى جعلتها مركبا صعبا وشعابا وعرة. وكان لكل ذلك أثره على جيل النساء الرائدات.”
د. عبد الله الغذامي-المرأة واللغة
(3)
من” مصياف” في سوريا، بدأت تجربة الشاعرة “سنيه صالح” – 1953-1986- في التخلق الإبداعي وهي تندفع كما الصخرة، لتدون القليل المباح لها من الشعر في “الزمان الضيق”، “حجر الإعدام”، “قصائد من بيروت”، ” غبار بيروت” وأخيرا وهي في وحشة الكفن عمدت ورقتها الأخيرة، التي أصدرها زوجها الشاعر محمد الماغوط، كتابها الأخير القاسي على القلب، ذاك الذي صاحبها حتى سكرات الموت:” ذكر الورد”:
“سوف يترنح رأسي تحت عصي الكلام
وليس في يدي سوى ورود ابنتي
أهش بها..
أرى أسناناً حادة، ليست رماح الحروب
أمضى ومخالب تلتقطني من الأعماق
وليس غيرك ما يحميني أيتها الورود.”
تجلت الفرادة في تجربة” سنية صالح” عبر قدرتها على تحويل الكتابة لحياة أخرى تحياها وتحوير الكتابة ذاتها لتشبه حياتها، من يقرأ لها لا يشك في حدوث هذا المرام، لكونه يشكل مهمة لحوحة وصادقة، امتزجت بدمها وحبرها لتحيا -وحدها-وتموت بهدوء شديد.
كتبت” ذكر الورد” لتدعونا لدهشة الأسئلة وهي تحتضر كانت ملهية تماماً عن موتها المتعثر نحوها، تصف لنا أشد حالات اليأس والألم والفرح أيضاً.
وحدها على سرير أبيض كانت تلازم بياض الورق، مصابة بداء يحتل خلاياها برعونة سرطان لم يدع لنا وقتاً لنصغي لها أكثر، لنصغي لشاعرة وفية لمشقة اللغة وسنديان الروح وهو يتصدع بكبرياء الجسد.
كانت تروي الموت، مفتونة بالورد، نديمها الأخير في غرفة تضج بمكر الدواء، بانتهاك المعدن لطراوة أوردتها ونفاذ مرارة المصل لرهاوة دمها، تجابه حيرة الأطباء. بحيرة أخرى تعترك ومشاغل الشعر المبدع الصعب.
لقد أهدتنا عذاباتها، كمن يسحق الدم المصاب بوفير الحبر المعافى، يعيد صقله بالأنين، ليتوسد تجربة الشعر العربي كحجر زمرد مؤتلق الخواص والفرادة، لم تبتعد عن ملاغاة اللغة كلما أشتد الألم، بل كانت تحيك بزرقة الأصابع وصارية القلم كل ما يعتري تاريخنا من خجل ووهن.
كانت تلك السنية المكبلة برواج الحقن وهدير المهدئات، تكتب بحرية بالغة كل يقظة تهزم بها غيبوبة الاحتضار، حيث تنتشل يديها من صقيع الرعشة لتتفقد ما أضاعت من قدرة الحروف، لتتنفس كلمات عصية على الفقد:
“أضغط الجلد والعظم
لأخبئ العميق في نفسي
لكنه يفلت عنوة ويسير نحو مصابيح المطابع.”
رغم المرض الذي يعدو ويدمر كل ما ينبض فيها، تكتب عاشقة الليل، كساحرة تزاول الحرف، تؤجل هجمة الشياطين نحوها، كلما تمادى القبر في الاقتراب منها، تمادت أكثر في الكتابة على أصداء أنين المرضى، واعتنت أكثر بترجمة العويل ورعدة الاحتضار الطويل، في منصف الليل تظل وحدها، متيقظة، تداري وحدتها بأنة هنا وصرخة هناك.. لتكتب:
“لا شيء يكسر وحدتي. ” لست أهذي لكن شقائي هو الذي لا يصدق. ” جسد تحكمه الخسارات.”
حتى ينكسر الليل، وترفع السماء فضيحة الشمس، تصحو “سنية صالح” مذعورة من اقتراب نهار آخر من الألم، نهار لن يخلو من زفير الوجع، وغليان الانتظار، لاقتراب جنازة تدعنا نشك كثيرا في قدرتها على كتم نار هذه الحنجرة.
كلما قرأت لها” الذاكرة الأخيرة” وهي تناجي الوطن، تعرفت أكثر على مدى النبل الذي يواكب شفافية شعرها، عندما تصفه:” وطن يثقبه في الوسط قبري كهاوية.”، أو تنادي طفلتيها” شام” و” سلافة” هكذا:
“ينادي مناد على الموت.. فأتقدم
لكنني أخرج من ثقوبه العليا
كما دخلت ممتلكة قصدي وغاياتي من أجلك يا أبنتي
يا ابنتي ان تاريخ المذابح وأجساد النساء مسيرة العبيد الفاشلة
الأعناق المنحنية أمام الطغاة والجلادين، جميعها تمنعني من الاقتراب.”
“يا وطن شام وربوع سلافة
جميع خيول الشوق أطلقتها صوبك
ولا تزال مجنونة في دمي.”
(4)
كلما قرأت للشاعرة سنية صالح، قاربت وقتا مذبوحا يؤرجحني كما للشنق، كلما تمعنت بإيقاع غريب تدفعه نحوي عبر وصاياها، ضقت ذرعا بانعدام عدالة ترعى مشهد الشاعرية العربية، يتقدمها أساطين البلاغة وحماة الإبداع الذكوري، كيف تسنى لهم أن يتغافلوا عن كتابة تقاطرت من جرح الذاكرة كما الدم القتيل. هكذا؟، كيف تم تجاهل تجربة ثرية بالرؤى والتأمل الشاعري والرهافة كتجربة سنية صالح؟ لا أبالغ أن قلت، لقد تعرضت هذه الموهوبة لعذاب كان أقله القبر، بل لقد كان القبر رحيما بها أكثر.
تلك الشاعرة القتيلة كانت وهي تكتب تتدثر بوجع لا يطاق، وحدها – كما هي الآن وحدها- في قبر يتسع، ليقرأ لنا آخر كلمات عانقت دمها قبل أن تغادر الروح:
“بينما كنت على الرصيف جذبني اثنان
وأخذا يجرانني حتى وصلت إلى طرف الهاوية
فقذفا بي، وأخذا يردمانني بالتراب
وكنت كلما خرجت أعاداني
كان خوفي فماً يناديني فانهض وكان
نصف البشرية يصرخ في أذني اليمنى
والنصف الآخر يقبع صامتا في أذني اليسرى
العاصفة سحبت خيط الكلام من فمي
ملوثا بالدم منذ ملايين السنين
قلت…”.
(5)
أسألكم: لو كانت الشاعرة “سنية صالح شاعرا، هل أصابها كل هذا التغييب والتهميش والنفي والموت قبل القبر بكثير؟!
(6)
لو كانت تكترث بسيادة منظومتكم الذكورية اللاإنسانية على الإطلاق، والتي تحكم وتتحكم بعالمنا، لما قالت:
“هيا نقتسم الكون:
ما أمام الأفق لكم
وما وراءه لي”