الحياة الجديدة
11-مايو 2005
– “لحظة البدء في كتابة القصدة” هل من الممكن وصف هذه اللحظة الشعرية، وكيف يتم اختيار العنوان كبداية للكتابة.؟
من الصعب، حين الحديث عن الشعر تكثيف النظر في لحظة ما، يبدأ بها منتهاه، كبدء الشعر مثلاً، أراه شاغلاً يبدأ قبل الكتابة بكثير من الوقت، حيث يحيا من يكتب في مواجهة معطيات الحياة وتواليفها الصعبة.
يتخلق الشعر كالهواء في غياهب الذات، ويظل يتلظى من أتون الآخر، كما الجنين في ظلمات الجنة.
يبدأ الشعر من هناك، يجول حثيثاً بانتظار لحظة السكون المهيأة لتلقي حنوه على بياض الورق كما المهد تماماً.
كثيراً ما أجفل من انسياب النص على الورق، ليس مكاتبته لي، بل اندلاقه دون تخطيط أو تهيأة ما، سوى انفعال غريب تشيعه غواية بياض الورق على جهازي الفاتن، فتبدأ الأصابع بخبط نهايات الحروف لتتعاضد الكلمات وهي تتناهض هكذا.
غموض تلك اللحظة ليس لها ما يفسرها، غير الحنين لمكاشفة الذات واكتشافها في آن.
من الصعب أن نستدل على بدء اللحظة الشعرية، ربما تتخلق في منتهى النص، من حيث ثبوتية عمقها أو دلالتها على العنوان مفتتح النص.
فيما يتعلق بتجربتي الشعرية، أرى استحالة حقيقية في تعريف أو تفسير تلك اللحظة، هتافها الغريب على الأقل، لا غير اندهاش عميق من أول سطر تحقق، ليليه ما يليه، ثمة انهمار لا يتوقف، يسترسل كما النهر حتى نبض آخر حصاة فيه.
النهاية تشبه البداية بغموضها الذاهل: لماذا توقفت عن الكتابة؟ لا أعرف، السؤال ذاته من الممكن إحالته في الاتجاه المخالف: لماذا أكتب الآن تحديداً؟ لا أعرف.
بالطبع هذا التقصي الكشفي لا يتقصد الكتابة التي تقع تحت تسمية الشعر الموسوم بالمناسباتيه أو الأغراض الشعرية لغاية بعيدة تماماً عن نزف الروح ومراياها، الحديث يعتمل تجاه الشعر وحده.
“قبل الورقة قلما أرى
وبعدها يضل النظر.”
هذا بالتحديد ما يحدث لي، كون الشعر يقتفي لحظة الحب، كل تعريف يفسده.. كل اشتغال نقدي يتجاوز محتواه ويسرف في أدواته الصقيلة لتشريح ما يعتقده جثة خاضعة لأزاميله ومعاوله، يفشل.
عندما يكاد الشعر يضاهي الحياة، يحيا بنبض عنفوانه بشكل مستقل الى أبعد حد، حتى من يكتب يصاب بالذهل حين إعادة قراءة نصه، إلى حد يصعب عليه تشذيبه من اندفاعات رؤيويه تتشاكل عليه، خبرة الكتابة وخبرة مجايلة الحياة بحساسية نادرة، تدوزن هذا الفعل لدى الفنان، تشغله عما حوله، تصيبه بصمت عارم يفزّز خفوت حنجرته، يلاغي الناس دون أن يراهم أو يصغي لهم، ينداح لحالة خاصة مشغولة بهجس دائم لا يعيه، كل هذه الاحتمالات آن الحياة تلهب المخيلة لارتشاف ما تقوى عليه من مجاهدات الحياة، مخيلة تصطبغ بالمسكوت عنه والكامن والمكبوت، تشحذ خزائنها بالكلمات والعلائق اللغوية والإيقاعية، من أجل تشريف إنسان سوف يصله الليل سريعاً ليواجه الورق.
عادة، ما أن أبدأ النظر إلى البياض، يرتسم العنوان، منفذ لا يستهان بها لأغواء النص، شرفة بخطورة الأمل لما سوف يتحقق من عتمة مجاهيل الذات، بعدها تتحور الكلمات لتنساب وهي لا تعرف كيف ولا لماذا ولا إلى أين؟.