لا أخاف أحداً،  لكن ما الذي سأفعله هناك


المجد
”المجد هو ذلك الشيء البراق الأسى
الذي يعني السيطرة لحظة ما
فيدفئ اسما مغموراً
لم يعرف حرارة الشمس،
لينقله بعد ذلك
برفق
نحو العدم!”
أيميلي ديكنسون

صار الشاعر الفرنسي”رامبو” يقول لصديقه” ديلاهاي” بعد أن صعقت قصيدته الأوساط الشعرية في باريس:
”آه نعم! لم يكتب أحد قصيدة مثلها من قبل، أعرف ذلك.. لكن.. ذلك العالم من أدباء وفنانين! تلك الصالونات الفخمة!  لا أعرف كيف أتصرف هناك، أنا سمج، خجول، لا أعرف ما أقول.. لكن حينما يتعلق الأمر بالفكر، لا أخاف أحداً.. لكن.. آه! ما لذي سأفعله هناك.”

هناك،
هناك.. المكان الذي اشتكى منه ”رامبو” يشكل قدراً صعباً لمن يكتب بفرادة روح لا تعرف معنى لنرجسية المكابرة أمام الابداع تحديداً، مكان عليه أن يتواجد فيه، ليغدو كائناً أليفاً، متسقاً، منسجماً بما يحدث هناك، ليرى ذاته، فيما بعد الذهاب إلى هناك، وحيدة، موحشة، لا تتقن لغة قوم يتشاكلون في مماحكات لا تنتهي، ذات لا تجيد لهجة المجاملات، طقوس التهاليل، لذا تراها وحيدة كظله، تتوسد بخوفها الرهيب أحدى الزوايا الرحيمة بها.

قدر صعب وأصعب منه، ضيافة الآخرين له، عندما يجتاحون صمته، بأسئلة تدين صمته، قلة معرفته بنواميسهم الطاغية، صعوبة انسجامه مع ”أجندتهم المتغيرة” بل المتفاوتة في تقديرها لمصالحهم.

هذا القدر بتحولاته، يعتري صاحب الموهبة في كل شأن فني، لكونه يمثل أبلغ التحديات الراهنة، كلما انزاح قليلاً عنهم، ليفتش عنه، في ظلال ورقة تحنو أو وتر مشدود لموسيقى ترأف بعزف أصابعه، لوحة بيضاء تنسكب عليها توازيع صباغه، تنادوا نحوه،: أينه؟
ليست مكابرة أوغلواً منه، أو سكناه في رفاهة برج عاجي كما يحلو لهم التفكه كل قول، جل ابتعاده عنهم، يشير لشفقة قليلة عليه، تنسرح نحوه، وهو يراهم يتلاهون بنزفه، غياب النص لا يشكل هماً لأحد، لكن غياب الجسد يدفعهم ليرتاعوا منه، بل يكيلوا عنف التهم تلو التهم عن ابتعاده وانعدام مشاركته في برامجهم و مهرجاناتهم.

لماذا ما يحدث له؟
ببساطة، لكون روح من يشتغل في مهابة الإبداع المغاير، أشد شفافة، رهواً، قلقاً و قابلية للخدوش من النص، لجسده قابلية للكسر، متأتيه من ضعف دفاعاته نحو متطلباتهم، من كونه يحتمي بإبداعه الكفيل بهم، النص يتضاد دوماً مع صانعه، لذا نراه يتشي بحزم بالغ، مضمد بخبرة الحبر، قدرة الحرف على المجابهة، متخثراً بعمق التجربة الحياتية والفكرية والنفسية، لجسد يفسر برد الورق بأتونه، يزج الكون نحوه، مجاهد يتحمل بصبر ودعة غياب العالم عنه، هجرة تلك الأحداق التي تترصد كل حرف يحتمي به.

من يجابه محنة المكاشفة الابداعية، بشتى تلاوينها، يتقن صعوبة صد المتربصين بعزوفه عن هواء لا يشبهه، عازفاً، عن مشهد عربي- كان ثقافياً- يراه يتصدع أمام ناظريه، محتلاً بشللية تدعى ثقافية، مرؤوساً من قبل زعماء النقد القبلي، معرضاً لاضطهاد دور نشر ترفع عاليا شعارها البائس: إدفع ثم أنشر، مذ تحولت من مؤسسات تتحمل مسؤولية حضارية ما، إلى بورصات علنيه لا يهمها فعلها الشائن ضد الثقافة، بقدر انغمار جيوبها بالنقد.

هذا حاله، لم ليس له؟ أن يطوي وريقاته على صمت ليله، دون اللجوء لغير ذاته، ما عادت المنابر الثقافية المدعومة بالمجاملات والعلاقات الخاصة والنفاق العلني تستهويه لا كلمات المديح والهجاء تسترضي نزوعه الدائم بعيداً عنهم.

قديماً كان القارئ ينتظر صدور الكتب التي تشتمل على حصافة الحرف، أسماء مذهلة كانت تترقب عينيه، أما الآن، حيث تم غمر المعارض بكتب الطناجر والشعوذة و التنجيم، دون أن يلتفت أحد، لمدى التخريب الثقافي الشاسع الذى لم يزل يتحدر.

لذا التاذ بهروبه المتسلح بفضائه الأزرق، بحرياته البعيدة ، عبوره هواء ”الانترنت”، أن نشر كتابة روحه على حنو هذه السماء، لهو أبلغ دليل على عنف هذه اليابسة.

العديد من الكتاب بدأ يلتجأ للنشر الإلكتروني، لئلا يخضع لاستبداد دور النشر، وعنف الهيئات الرقابية في بلادهم، بدأ الغالبية منهم تدشين المواقع لتعريف الآخر على سهوهم عنه هناك.

الكتابة وحدها، هي المواجهة الفعلية والعميقة، بين الأنا والآخر، سرد الذات، كشف السر الذي تأسى كثيراً في عزلته.

ذات ليلة، حدثني ابني ”وليد” بما يتوافق بمحنة ”صوت”:
” الكتابة متعة خالصة، لا تتحقق إلا حين عثورنا على الكلمة التي تفي بمبتغانا التعبيري، حين ننتهي من الجملة التي تفضحنا، وبالتالي  تعبر عن ذواتنا، حينها نكون استرحنا منا، للكتابة شأن خاص، بكل ما تحتمله من معرفة وحكمة وموقف إنساني وجودي وفلسفي أيضاً، لا علاقة لتجربة الكتابة بكل هذا اللغو المسمى حضوراً، مجداً، انتشاراً، مدحاً، ذماً، قبولاً أو رفضاً، إن سعي الآخرين نحو محافل الاحتفاء، أو مراودة وهم بلوغ العالمية في أفظع صورها، ما هو إلا تكريس لخديعة ”الإيجو”، نرجسية الذات، غرور التفرد، نزعة التسيد، المستحكمة فينا، يتوجب علينا الا ننصاع لها، ونحن نسرد ذواتنا نحوهم، علينا أن نكون بجدارة الحرف الذي لا يكترث إلا لقيامه.”

هكذا- أيضاً- باحت الشاعرة الأمريكية ” إيميلي ديكنسون”:
أنا لا أحد
من أنت؟
هل أنت لا أحد أيضاً؟
إذن فنحن اثنان من نوع واحد
لا تخبر أحداً
لأنهم سيعاقبوننا، كما تعلم
كم هو كئيب أن يكون المرء معروفاً
كم هو أمر عمومي مثل ضفدع
أن تردد أسمك طوال يوم يحيا
لمستنقع متأمل.