لايمكن قتلهم


(1)
طيلة تاريخ الثقافة العربية.. لم تتأخر جاهزية القمع عن إهدار حريتنا الابداعية، بطرائق شتى، لتحقيق منالها الأوحد: إقصاء صراحة الصوت، كل هذا لإدامة سيادة النظم الهائمة بأمر السيف والناهية عن حرية الروح.

ما يحدث الآن من تصعيد مخجل لحملات التكفير والترهيب، نصب خيام التفتيش للتنقيب من خلال النصوص الابداعية والفكرية، عن ردة تبيحها حنكة التأويل الباغية، لمفردة هنا وجملة هناك، تجريم وسفح دم الآخر، تحريض الناس للشغب ضد سطر في رواية أو شعر.. ما يحدث، يضاف للأسف العميق، لمثاقيل الهزائم التي قصفت كواهلنا.. هدمت شعوباً لا تكاد تفرك عينيها من ملح الحلم حتى يتدلى العنق. ما يحدث الآن يزاحم اندلاع شرخ من اليأس بدا يتسع ويتسع، ليكاد يلغي كل شيء.

(2)

الرقيب صاحب المقص لا يشكل ذعراً للكتابة، وهو يغتنم في زمن القهر مهنة القص، لكونه يمنح الكتابة التي تعي طبيعة نفوذها طاقة كفاحية لا تبارى، تدعها تدفع التحديات، تصقل رؤاها بحد الحرف، كلما جابهت قصاصاً سوف يتعب من دم ذبيح لا يندم.

لكن الخطورة تسطع عندما يفوز هذا المستبد، ويخترق بآليات المصادرات التي يحتمي بها.. ذات المبدع، أي تحقق الرقابة الذاتية للكاتب، غزو الحذر، اجتياح المنجل اللامرئي الذي يحصد سنابل الحروف، يكبح فعل الحرية ويبدد أفق النظر.

يعمل الرقيب الرسمي صاحب المقص مع الرقيب المتطوع والمتحزب- دفاعاً عن ملته – الحامل عدسته المكبرة بحثاً عن ردة ربما توردها الكلمة الغافلة هنا أو هناك، يعملان معاً بمتعة وثقة أمام النصوص الأدبية، الأول يقص ما لا يروق له، ليقصي الشك باليقين حين تتلوى جملة تبدو فيها اللغة نافرة بكيدها العظيم، والآخر ينصاع لأول تأويل يحتمل ما يظن به، أو يأمل بكونه دعوة للإلحاد أو مناهضة للأخلاق التي يذود عنها، بصفته الداعي الأول لرعاية الرأي العام، والمسؤول عنه، دائماً يشحذ خنجر القمع قواه تحت شعار “حماية الحياء العام” من الخدش، رعاية أمن العائلة، نقاوة النسل.

أي خدش تضارع به الكلمات ما يحدث الآن من خدوش.. كيف لها أن تضاهي ما يتفسخ وما يتعفن. سريعاً وعلناً وجهراً وجهاراً.. بلا حياء يرف له وريد قلب واحد.. هكذا؟

(3)

يلتذ الرقيب بمتعة القص ورفيقه المتبرع لإهدار الدم، هكذا يتكاتفان معاً، لا لنبذ الخسارات، إدانة التفسخ العلني والردة الحضارية، لا للنيل من هجمة الاستهلاك وما تلاها من حروب مهلكة أدمت عواصم العرب، وسقت القبور بأجنة لا تزال ترضع التراب. لا.. كل ما مضى لا يكترث به أحد.. ما يحدث مراقبة هذا الشعر أو ذاك الكتاب، أو أغنية أو فيلم يحتدم به العقل.

لأن الكتابة تهطل في وقت مملوك، لم يزل يهتم بمهن قروسطية، وينمي مهاراتها أيضاً، لا بد لوظيفة القسر أن تزدهر، كلما تطور الابداع وتقدم لنيل موافقة المشرط على النشر، كلما تبارت النصوص لإغراء الناس للإنصات لها، بعد رضا العارفين من ولاة الأمر.. لا بد لها أن تتعرض لكل هذا القتل.

هبوط المقص لاجتزاء كلمات من النص يؤلم صاحب العمل الفني، لكنه هذا الجز العنيف لا يتعدى آه الألم، إذ يتفشى المصاب حين تتحول رقابة المتسلط إلى عقاب يحتل ذات الكاتب، إلى مشنقة تتمايل وتئد ما تبدى من جرأة “لا تصلح للنشر” إلى ما “يثير الرأي العام”، ما يستفز أمان الخراب ويحرض ضد السائد.. سقوط الكتابة في حقل “الربما” التي ينصت لها الكاتب هامساً في نفسه: ربما يفهمه الآخر على غير قصد، ربما هذا النص قابل للتحوير والتأويل المفضي للصعب.. ربما.

كل هذه “الربما” تتوافد بفعل حفاوة القمع، ورعاياه المتغلغلون في تلافيف اللاوعي لإلغاء حرية الكاتب بيده، نحذره من الداخل، إفساد رحابة قوله، طمر المشتهى منه، وأخيراً ليؤسس حصاراً من البدائل اللغوية، لإجبار كلماته على الانحدار نحو العدم المفضي إلى تهرؤ المعنى، الرقيب العلني يعمل على تحدي النص، تشويه انتقام اللغة، لتمويه سلاح المخيلة ببعض الحواجز، لكن عنف ذات الكاتب – الرقابة الأقسى- تكسر هذا السلاح، إذ تتحول إلى سلطة نافية وجازمة بمحذورات لا بد من انحياز النص لمقدراتها، رعب يستميت لتبرير حياد الرأي، لي عنق المعاناة، هلهلة التجربة لإقصائها عن مرارة الحدوث، تحويلها إلى وعظ إرشادي لا شأن له بما يحدث على صعيد كبت الروح.

الرقابة الذاتية للكاتب تخلق عسس الذات الأشد هولاً ونكاية بكل مفردة، شرطة تراهم يراقبون الصورة، لعبة صعبة تتوسل لجاه الرضا، حرس لا يغفلون.

(4)

مقص الرقيب وصديقه المدافع عن ورع الأمة، خبرة أنجزتها دكتاتورية موغلة في القدم.. منذ المقصلة التي طوحت رؤوساً عديدة كانت ترتشف الهواء لتدافع عنه، رغم ما تطشر من دم غطى الميادين.. إلا أنها لم تزل تزاول مهنتها القديمة، لتضمن عدم تفلت أحد، وبالذات غريمتها الذاكرة التي لا تنسى ولا تغفر ولا تموت.

كل هذا السحل لتحويل الإنسان إلى مسخ عاجز عن التصدي.. وحيد منذور لترجي الوهم.. كالمقص لا يغادر قماش الذات، جاهل بقوة أضعف الإيمان: صوت القلب ودمه الحبر، كائن مهمش غافل عن هواء الحياة: الحرية..

ليس كما ذكرنا فقيد الجرأة “غسان كنفاني” كل رسالة وهو يحكي لنا عن “الرجال الذين لا يمكن قتلهم”، وهو يدعونا:

“لنتعاون لنضع نصل الصدق الجارح على رقابهم”.