فيروز


(1)

ليعلو الصوت كالبرق فاضحاً غفلة الغيم تتقدم نحونا، رافلة بثوب أبيض غالباَ، يعلوه وشاح الليل، تهف كالياسمين، تتخطى صفوف العازفين وعصا المايسترو في ذهول من رشاقة الخطو، تتقدم برفاهية المليكة، وتقف أمام حشود من رعايا الذهل، تصّدع الكراسي من رنين الأكف، وهي ترسل التحايا لرائدة الحب: جنة بيروت.

تقف لترانا نراها، قبل أن تحلق عاليا ترتاد بنا فضاء النغم، أوج الصدى، تغني ما لا تنسى “سنرجع يوماً إلى حينا ” لتغمرنا بحنين لا ينته كالدمع.

كفراشة تشدو بأجنحة من رفيف النار، تغامر بألق حنجرة كالماس تشدُ عنان الآه حتى آخر الليل، فيأتي الصوت منتشياً، ناهزاً بكنوز الأعماق.. يغترف ندرة الأمل.

(2)

فيروز حجر كريم، تخضب بعشق فريد لإفلات تفجَّر الحواس، امرأة أعطت الوتر من بوح شغافها ما يعجز عنه مشكل اللحن، لا ملاذ الشعر وحده، بسمو نادر امتشقت ذرى كلمات كالعصف، لتندد بعنف الأرض ونهر الدم، راحت تنال من ترامي المحن بفيض الروح لا بشموخ الجسد وحده.

فيروز ماء لا يجف، محاط بعذب الهوى كل منصة تنتضيها مليكة الغيم.

حين يستوي للمبدع شأناً من التشكل يكاد يشبه الوطن، بكل ما فيه وأحياناً يضفي عليه، يتبدى له خيلاء التألق، حثيث يسعي لتحقيق الاكتمال الذي يصل الأقاصي، محمولاً على أجنحة تختال، بمثل حنجرة تأتلق بها فيروز في مهب فرادة لحن للهمس كأنها الجمرة الأخيرة اللاهبة أمام هجمة هذا الطوفان.

هكذا تبدو أميرة الورد ” فيروز”.. امرأة تشبه بيروت بكل ما فيها، تغني كأنها تعانق سر المدن، تسهر على رتم يشكو فزع البيوت من قتل يعري الطرق، منذ عنف الحرب وقبل وفيما بعد.. مضت – كعصفور يندس بين الغصون – تهندس بصوتها العذب ولّه الحياة لميلاد سفوح تتقن معنى “الأرز” رمز الحرية والأرض.

(3)

عندما تفشي لحناً اختارته ليترجم ظل القلب، لا ندري وهي تصدح بالحرف ما ترى، ليست كسواها، مكسوة بعينين قادرتين على احتواء ظلام الحفل كله، دون إلتفات يذكر، بصمت تغني، بروح تناهض الظلام، كآلهة تحيل المعبد درباً يصعد نحو الله، كما لا أدري، تحدق كأنها ترى ما مضى منها، وما يندفع من مستقبل يراها، هكذا… كشمعة يتيمة تتقد، تدع الهواء يتهادى وحيداً، لتصغي الآذان لتوتر موسيقاه، تأتلق بيد مرفوعة نحو ذهب شعرها المنداح حول الكتف، وأخرى تمتد نحونا لتنهب آخر المدى.

آن تنحني بخفة الملاك.. طاوية خطوها الرهيف وما تبقى من حميم الصدى، يصعد نحوها هدير الأيادي، صفير الحناجر، قبل أن تذهب لخفاء الستار، ترمي نظرتها الأخيرة لصحبة الموسيقى، وأخرى لذوي الهتاف، لتمضي محفوفة بمجد الخطى نحو رهافة لها رعشة الذات.

وأنت تصغي لفيروز، لا تتبع بأذنيك صوتاً جميلاً يرافق هديل النغم، لكنك تباح لسلطان المخيلة، يغمرك فردوس الصوت بحة كلمات تتهاوي في بئر ذاكرتك، لترتفع قليلاً عن حرير الأريكة… تطفو… تنسى يباس الأرض، لا تدرك غير هواء ينهض بك، لتتلو فداحة النغم الشجي الذي أحتل مرارة جسدك، مرغم تشتعل بشسع الفضاء، تلهو بروح تفيض بك، هالكاً في تشظ يتسع دائرة… دائرة… ما يخلب وقار العقل من حنين امرأة تطرز موج النغم، ينتابك هبوب البنفسج، والليل يسرى من حولك، وأنت تصغي بشرود القرنفل: ” أنا زهرة من زهورك.. ساعدني. ساعدني.. إذا كلهم نسيوني وحدك ما بتنساني ”

كلمات وكلمات مصابة بعطر الجنة، لملمتها فيروز لتستوطن نبض الجسد وعصب الصبا، ما أن تبدأ هطولها حتى ننهال بثقة الغوافل في ترف الغياب.

هكذا امرأة تجلت بفرادة الحضور، كل هذا الوقت الذي تهالك فيه كل شيء، ولم يبق منه سوى هشيم حضارة قد تتذكر، هذا الهزيع الذي يحلو للبعض مديح خواءه، وتمجيد ما يذروه من هباء لنهب الريح.

(4)

شامخة تقصت خطاها.. أسرفت في عناق الروح، أرسلت نحونا ماس الغناء، لنثق على الأقل بقدرتنا على الحياة في خضم مقبرة تحفل بالاحتضار، في عالم يسرفُ ببلوى المحن، في شرور ساطعة ترث كالمقاصل حرية الأعناق، على الأقل لنتشبث بإبداع يتصاعد ضد حاضر يرفل بهزائم تستولي، إبداع لا يرتضي أن يرافق خيبة يلوح بها مستقبلاً قد يسمو.

على الأقل.. لننجو برفاهة نادرة.

لقنت فيروز كل حواس العرب، لا الأذن وحدها، أو تاريخ التخت العربي، لقنتهم درساً في رعاية موهبة الصوت ـ درَّة النجاةـ علمتهم كيف ينهلون فن الإصغاء، يتقدون بملائكية النغم من حنجرة فارهة، كيف يغادرون هرج الملاهي التي اعتادوا فيها على بذخ الضجيج، تلوي الأجساد لنهب سهالة النقد، كيف يتعرفون على حرير امرأة تداوى الجراحات كلها، وتتلو همس السهول، على رفة جناح يروي هياماً يطوى هلكة المساء، كالليلك تشدو بلحن تترنم به من جفوة المنفى، لتسكبه نحونا بطلاوة الأثير، حيث الظلام الكفيف يستفرد بهواء الحضور، عدا دائرة من الضوء تضم فيروز وحدها.

“ردني إلى بلادي مع نسائم غوادى.. مع شعاعات تهادت بين شاطئ ووادي… ردني ردني إلى بلادي. “”

خفقة خفقة تتسلل كلماتها مزينة بغوايات الحلم وسلالة الريحان، كالسنبلة تنفض الغبار عن أرواحنا وتمضي.