فوزية السندي: ليتقد الحرف بحبره وتنهض الكلمة بجرأتها
حوار: رفعت بو عساف
الطبيعة، السكون، الانفراد، الرؤى والهموم الانسانية اللامتناهية المتعدية خطوط الزمان والمكان. معان بديعة تصنع مشهدية إبداع نواميسه تقاسيم شيقة تلهم طريق الخوض والتفتيش في تلافيف الواقع المعاش من أجل قضية سامية.
هذاهو حال الشاعرة والاديبة البحرينية فوزية السندي التي تؤمن ان تلك الدرر سر التميز وبوابة ابداع من نوع خاص حيث تجسد في نتاجها الابداعي خير نموذج يؤكد ان تلك القيم والمكونات ليست متاحة وسهلة أمام شتى الاشخاص، بل أنها فقط من نصيب خامات إنسانية تملك الى جانب الاحساس الصادق، القدرة على المزج بين عوامل عدة أبرزها حالة التأمل والرؤية الفلسفية مع روح الشعر والادب المبني على دعائم راسخة عنوانها الايمان بقيمة الابداع من هذا القبيل وضرورة إذكائه المتواصل.
حوار” الشروق “مع الشاعرة السندي كان له رونق خاص أضفاه أولا تشديدها على دور اللغة العربية كوعاء فكري في ظلم المرأة وتسييد ذكورية المجتمع، وثانيا عمق وخصوصية نظرتها للقضايا الانسانية والمجتمعية التي تعرضها بروح شعرية مرهفة دفاقة يزيدها بهاء ورفعة ذاك الكم المعرفي المكثف والمتداخل في نسق فلسفي براق يلج ادق التفاصيل والمواضيع:
– هل ترين ان الشاعر والاديب محكوم باعتبارات المكان والزمان المحددين، وإذا كان ذلك كيف له ان يكون خادما للهم الانساني وهواجس الناس في شتى المجتمعات؟
- الكتابة فعل اختراق للصمت واكتشاف للذات، ذاكرة تنصت للحياة وترصف السطور بحروف لا تنشغل الا بحوافها الصعبة وأسئلتها النادرة، حرية لا تحد، الزمان والمكان مكونان يتقاطعان ويؤثران عمقياً في أتون الموهبة، لكنهما لا يحكمان تلك الجذوة المتقدة بجرأة الكلمات وجنة الرؤى، فهي دائمة البحث عن مكان يتسع لأقاصي حريتها، وزمان يحتمل آفاق رؤيتها، الكتابة وهي تكتشف مغاوير الذات الانسانية وهمومها، تجتهد لتتقن نحتها بفرادة تدوم على الورق.
– اين انت شخصيا من هذا؟
- لا أعرف غير أنى اجتزت تجربة شعرية دونتها على الورق خلال مراحل مختلفة من حياتي، حاولت من خلالها ان أرى ما حولي.. أن أصف ما حدث، أن اشهد على كل ما اهتواني، ومازلت.
– كيف تشرحين تصورك لمهمة الشاعر والاديب في مجتمعه؟
- مهمة الشاعر والاديب في مجتمعه أن يكتب عما يراه في كثيف اعماق روحه، أن يرأف بما يمس قلبه، ان يضيء خطوه الكفيف بقناديل رؤاه، ان يكتشف بدء الطريق لعله يدرك ما يعنيه.
– كثيرا ما كانت المرأة العربية تحتج بان المتكلمين بلسانها من ادباء وشعراء عززوا النظرة الجسدية والغرائزية اليها، ما الذي قدمته واصلحته الاديبة والشاعرة العربية في مسيرة تغيير واصلاح هذه النظرة بعد ان ولجت مجال الادب والشعر في وقتنا الراهن بقوة ومن اوسع الابواب؟
- ان سيادة أنماط الهيمنة الذكورية في ثقافة المجتمعات العربية اسهمت في اثقال اللغة بمضامين ذكورية حولت المرأة من ذات مستقلة وفاعلة الى موضوع للإثارة وقابل للتسليع في كل المجالات الفنية، وبالتالي تم تشيئ المرأة ضمن معطيات ومنهجيات هجمة الاستهلاك الطامحة لتكديس السلع على جسدها وروحها ومحو هويتها الفاعلة، مما انعكس على صورتها في العديد من النصوص الأدبية التي عملت على تعزيز تلك النظرة الدونية، سيادة أنماط الهيمنة الذكورية في ثقافة المجتمعات العربية هكذا انفلتت المرموزات الغرائزية عبر سيل من المفاهيمية التميزية والاستلابية التي سيطرت على حضور المرأة في النص الادبي وفق صيرورة هذا التداعي.
أن المرأة العربية عندما غادرت صمتها واعلنت صوتها عبر الكتابة الادبية، لم تطرح رؤيتها ضمن توجه موحد متفق عليها كما يشير السؤال، بل تنوعت رؤى التجارب الادبية، كل تجربة عبرت عما تحتمله من طاقة تعبيريه وانساق معرفية وتحررية تميزها، بل منهن من اسهمت في تعميق الخلل الذكوري ذاته، وزادت عليه تشبها به كنسق قيمي منحاز، عندما اشاعت في كتابتها عناوين ومواضيع مثيرة بغية احداث صدمة في مجتمعات مكبوتة، راهنت عليها لتسويق كتابتها تحت يافطات انثوية لا علاقة لها بمحتوى النص الذي تهافتت عليه دور النشر، كما وللأسف روجت له بعض الكتابات النقدية، أما بعض التجارب الادبية الأخرى تميزت بمقاومتها لحمى تسليع كتابة المرأة وتحدت هذا العنف والانتهاك اللاإنساني بتعميق رؤيا شعرية أكثر انسانية ومحبة ونور.
– كيف يمكن ان تكون اللغة العربية كوعاء فكري ومضمون مفاهيمي قد ساهمت في تهميش المرأة العربية وتنميط وتسطيح صورتها؟؟
- اللغة كوعاء فكري ومضمون مفاهيمي ترتكز على منظومة قيمية يتعهد نفوذها التابو المجتمعي، وتتعزز في مجتمعاتنا العربية بانحيازها نحو القيم الذكورية التسلطية، وهذه القيم ليست معزولة عن وضعية المرأة بل تؤكد دونيتها ومواطنيتها المنقوصة رغماً عما يكفله لها الدستور من حقوق على الورق، هكذا تتسيد تلك اللغة المحملة بالمفاهيم الذكورية التي تنتقص من قيمة وحرية المرأة، وهناك العديد من المؤثرات التي تسهم في تنميط وتسطيح صورة المرأة العربية في ثقافتنا اهمها الجانب الاعلامي بكل تنويعاته، وايضا تعميق وتكرار الخطاب التمييزي ذاته المتكئ على الفارق البيولوجي خلال اغلب الاشتغالات الثقافية، وحوارنا هذا يشي بذلك، حيث أن غالبية الاسئلة تستند على كوني امرأة شاعرة، وأغلب الاسئلة معنية بالمرأة العربية، ولو كان الحوار مع شاعر فلن توجه له الأسئلة بصفته رجل، وتسأله عن حال الكتابة الشعرية الرجالية، لكنها حتماً ستركز على تجربته الشعرية.
– ما تقييمك لواقع ومستوى نجاح الادب النسوي العربي ومنه الخليجي خاصة، واريد رأيك في مستوى حركة الادب النسوي الاماراتي راهنا؟
- أمام التجارب الشعرية لا اميل الى تقييم أو رصد مستويات ومعايير نجاحها، لأننا بصدد تجارب انسانية وروحية مكتنزة بذخائرها الفردانية وغير خاضعه للمنافسة بل ثمة تجاور وتناغم لتشكيل مشهد ابداعي حضاري، تجربة المرأة العربية متفاوتة من حيث الحضور والتفرد من تجربة الى اخرى ومن نص لآخر أيضاً، وهناك تجارب عديدة استطاعت ان تعلن تحدياتها بجرأة وتألق، كتابة المرأة في الامارات تخضع لذات التحدي وهناك تجارب شعرية متميزة مثل الشاعرة ظبية خميس ونجوم الغانم وميسون صقر القاسمي وغيرهن، ولقد عزز فضاء الانترنت بحريته الشاسعة امكانية التواصل مع التجارب الادبية.
– ما تفسيرك لتميز وقوة المرأة العربية في شعر الحداثة؟
- ثمة خلل في طبيعة السؤال، لكونه يعمم ويؤكد على وجود ظاهرة تتعلق بتميز وقوة المرأة العربية فيما يسميه شعر الحداثة، ان تميز الموهبة في النص الشعري هو تحد ذاتي، سواء كان من يكتب رجلا ام أمرأه، ثمة نص شعري جريء ومتألق، ولا أتفق مع مثل هذا التعميم، هناك تجارب شعرية فريدة لشاعرات عربيات نتيجة سريان فعل المواجهة والتحدي الفني بشكل اساسي، كتابة اسهمت في تخليق شرفة شعرية تليق بهذا الوطن وذاكرته الابداعية.
– كيف تشرحين لنا مفهومك للحظات الابداع الشعري، هل هي الهام لحظي يتوارد بغتة في ساعات واوقات معينة، ام انه نتاج لسلسة افكار ومناقشات وتساؤلات انسانية متتابعة ومتكررة تتمخض نهاية في قالب القصيدة او النص الادبي؟
- من الصعب الاتيان بتفسير محدد للحظة الابداع الشعري، كل ما أحياه من مشاعر واحاسيس وتجارب حياتية تتضافر لتخليق الومضة التي تشعل لحظة الكتابة، ثمة غموض هائل.. يفسده التفسير.
– نلمس في كتاباتك حزنا نوعا ما مجبولا بنبرة تحد وتمرد، ما هي خلفية ذلك ولماذا تتمسكين بهذه الشاكلة الابداعية؟
- هذه ليست شاكله ابداعية اتمسك بها، بل رؤيا وجودية تستبطن فتوى الألم وتستفز حدوده، الألم مصدر تكويني مهم لتأويل مآلات وجودنا، الألم مكمن لحساسية ابداعية نتاج عنف المكابدات، أسى لا يستهان به، بالذات في حاضرنا المأزوم المثقل بالانكسارات التي نتعرض لها كل لحظة، وهي تنكل بهويتنا وحريتنا وكرامتنا وكل ما تبقى لنا. التحدي الوحيد الذي اميل لتقصيه هو مجابهة غموض الذات لتخليق النص الشعري المتشح بالحكمة والمحبة والنور، ليومض قلبي بضياء الفتنة وحدها.
– البحر، الاشجار، الصحراء.. (مفردات الطبيعة عموما)، طالما اكدت انها تبث لك العبر وتبعث في نفسك حب الهدوء والعزلة، هل ترين ان الطبيعة فعلا خير معلم وملهم للشاعر والاديب؟؟ وماذا قدمت هذه الطبيعة في دول الخليج – بما تحويه وتتصف به – للمبدعين الخليجيين؟
- الطبيعة هي المعلم الأول القدير لتدريسنا معنى الحكمة والحب والحنان بلا تقتير، للشعر مذاق عليم بحال المتوحد بعناصرها وكائناتها، آن نصغي لها.. ننصت لصمتها الجدير بلغة الأمل، وهو يلهمنا لنكف عن ضجيج أوهامنا ونرجسيتنا، الطبيعة في الخليج سخية الى حد لا يرد، تبدأ بالبحر ولا تنتهي به، بل تمتد نحو كل غيمة نادرة أو قطرة مطر نادرة هي الأخرى، نحو جنة الصحراء ورملها البهي، هذه العناصر قدمت روحها ورائحتها للتجربة الابداعية في الخليج واسهمت في شفافة الشعر ورهافته.
– تؤكدين دائما على أهمية الوحدة او الاختلاء بالنفس بمعنى اخر، ماذا يمكن ان تشكل وتضيف هذه المعاني الحياتية للشاعر والاديب في ابداعاته؟
- شاعرية التأمل طريقة لاستعادة الروح لاتزانها وسكونها بعيداً عن ضجيج العالم، للعزلة بمعنى الانفراد بالروح ضرورة بالغة لتشريف الشعر لضيافة الورق، بطبعي أحب الهدوء والصمت، الشعر زاد من توقي لمشاغلة الذات ومحاورتها، سواء عبر الكتابة أو خارج الكتابة، لدى عناية فائقة لترتيب المكان ليبدو أكثر ليلاً، لتهيئة الروح لتغدو اشد اشتعالاً.
– هل نستطيع القول بانك تأثرت في هذا المنهج بجبران وايليا ابو ماضي؟
- ما اسرفت الحديث عنه، لا يعني تأثراً بأحد، بالرغم من شغفي ومعاودتي المستمرة لمقاربة تجربة الشاعر جبران خليل جبران الحكيمة والمستنيرة بتعاليم شعرية جليلة.
– انت ميالة لتذخير وتكليل كتاباتك بمضامين فلسفية جدلية معمقة، هل يوفر ذلك القدرة على ايصال رسالتك بشكل ابلغ ؟، وهل يمكن للقارئ العربي ان يتقبل تكثيف الحضور الفلسفي في النتاج الادبي والشعري بتصورك؟
- كتابتي تعبر عما يتوافد في اعماقي من اسئلة وحوار دائم، وعما يتدافع نحوي من تجارب حياتية مكتومة بمقاديرها، عندما أكتب تتقدم تلك الاعتمالات الفكرية والفلسفية بتلقائية وتندغم في صور شعرية تتراكض نحو نهب المنتهى، ثمة تجربة شعرية تتخلق بذخائرها التي احتدت وهي تصطك في اعماق روحي قبل ان ترى نور البياض.
فيما يتعلق بقبول القارئ العربي لم تعد هناك ذائقيه متفق عليها نسم بها القارئ كما حاولوا أن يوهمونا بذلك، لا يوجد قارئ عربي، ثمة قراء لهم استعدادات معرفية متباينة وذائقيه متمايزة، فلا مكان اذن لسؤال القارئ العربي إذا ما كان يتقبل ذلك أم لا؟
– كيف يمكن ان نجتذب الجيل العربي الجديد (نساء ورجالا) الى التعمق في الادب والشعر العربي وعدم هجره او الاتساق مع حالة التغريب المستعرة في مجتمعاتنا بفعل مكنونات وتأثيرات العولمة؟
- الجيل العربي الجديد له مطلق الحرية في اختيار ما يشاء ان يتعمق به، فعل التغريب وسياسة التجهيل وهجمة الاستهلاك الاعمى عبارة عن انماط تخريبية تتبنى تسويقها مجتمعاتنا بثقة لا تضاهى نحو تدمير ما تبقى من حضارتنا وتاريخنا، الجيل الجديد يواجه تحديات ثقافية أقلها عدم التعمق في الأدب والشعر العربي، تحديات وجودية تتعلق بحريته وحضوره الانساني امام حضارات العالم.
– ما تقييمك للحالة النقدية الادبية في الواقع الثقافي العربي؟ هل هي في الاتجاه السليم والخانة الصحيحة؟
- لم يعد هناك تجسير رصين بين النقد الادبي والنص الادبي، مازالت أغلب البحوث النقدية تعمل بذات الطرق النقدية القديمة، بينما الاجتهادات الشعرية والادبية تتقدم نحو المغايرة والتفرد الفني، يتغافل النقد متعثراً بأدواته النقدية القديمة، ويتلهى بما تيسر له من مؤلفات أدبية اشبعت بحثاً ونقداً طيلة عقود غابرة.
– كيف ترين واقع ومستقبل الحركة الثقافية الادبية العربية وما الاشتراطات اللازمة لتعزيز اطر حضورها وقوتها؟
- الحركة الثقافية والادبية العربية ليست معزولة عما يتهدم فيها وما يتردى من مهالك حولها، ليست بمنأى عن مرحلة تاريخية تشظي أمام تحدياتها الحضارية.. ليس لها غير هواء الحرية وحدها.. ليتقد الحرف بحبره وتنهض الكلمة بجرأتها.