الكاتب: سعد الياسري
21 أغسطس 2010
هتفَ (رامبو) بعد طوفانه الرؤيويّ المُلهَم: “لقد سالَ الدّمُ والحليبُ” (1). وكذا سأستعيرُ لسانَه وثنائيه؛ وأهتفُ بهما في وجه سابعِ جمراتِ الشّاعرة البحرينيّة (فوزيّة السّندي) أو ديوانِها السّابع (أسمى الأحوال)، حيثُ الّتسويقُ الماهرُ لجنّة الفرد حتّى وإنْ لاحَ (الآخرُ – الآخرون – الجماعة) بين طيّات النصّ مِرارًا بصيغة المخاطَب أو الغائب، وحيثُ الاشتغالُ الرّصينُ والأشدُّ وضوحًا على ثنائيّات تتلاقح مرّة وتتنافر أخرى؛ سأقف عند بعضها ما وسعني ذلك. هذا وقد صدر الدّيوان عام 2009 في 175 صفحةً من القطع المتوسّط عن (مؤسّسة الانتشار العربيّ (بيروت) بالاشتراك مع (وزارة الثّقافة والإعلام – البحرين). بين الشّعر والتّصوّف: منذ بدايات النصّ الشّعري الحديث – أعني قبل التنظير له أو فيه – وثمّة معركة يخوضها شعراء هذا النصّ للعثور على معنى الوجود الدّفين، معركة أسمتها النّاقدة الرّائدة (سوزان برنار) بـ (الطّموح الميتافيزيقيّ)، حيث الوعي بالماوراء واقتحام الأبواب الصّوفيّة التي تفصلنا عن المجهول سيعطيانِ للنصّ أبعادَه السّحريّة التي تصل به إلى القدرة على الحديث إلى الرّوح (2). وكما نرى فمنذ عنوان العمل (أسمى الأحوال) تتمّ إحالة القارئ إلى أجواء الرؤى والإشراقات الصّوفيّة.. أو أنّه – أي القارئ – سيفترض هكذا أجواء على أقلّ تقدير. حيث كلمة (الأحوال) ومفردها (حال) لها حضور وتأثير حاسمانِ في التّعبير الصّوفيّ؛ وتعني “كلّ ما يردُ على القلب دون تصنّع ولا اجتلاب”«3». والتي وردت مقترنةً بمصدر يفيد العلو والرّفعة (السّمو) الذي صيغَ على (أفعل) التفضيل (أسمى) ممّا لا يبقي مفرًّا من العبور حفاةً خفيفينَ على هذه الرّوح التي تتمدّد فوق الأوراق. نعم؛ لقد أحالتنا الشّاعرةُ – عبر العنوان – إلى أجواء العمل، إنّما خرجتْ بنا وأخرجتِ النصّ من سذاجاتِ التعبير الصّوفي المعتاد نحو جماليّات الشّعر الذي يشتغل مبدعُه على آلية ترضخ بكامل الأناقة إلى مبدأ (البحث) عن عنصر الإدهاش الأوّل والأهمّ على الإطلاق وإن لم يكن الوحيد؛ عن (لغة شِعريّة) بمفهومها المعاصر لا الإغريقي قطعًا (4). وبوسعي الإرشاد إلى بعض مظاهر هذا الاستعمالِ الصّوفيِّ غير المبتذل ولا المستهلك، والحريصِ قبل كلّ شيءٍ على نكهة الشّعر: «سمّهِ السّرَّ لأسميكَ السّراجَ» (صفحة 21). «لن أدركَ منتهاكَ مالم أدمني» (صفحة 67). «يا الله؛ امتحنّي بذخيرةِ قلبي» (صفحة 71). «أستحلفُ المستحيلَ؛ أن يراكَ ويعجزَ عنك” (صفحة 73). “مِشكاةٌ جموحةٌ أغرتني بما لم أقوَه» (صفحة 114). “غير الذي يراني أراهُ؛ غير الذي أراهُ يراني» (صفحة 123). «ثقْ بي؛ أيّها اللاّشيءُ.. فيكَ انطوى كلُّ شيءٍ» (صفحة 159). وغير ذلك الوفير ممّا لا يضيف حصره أكثر ممّا أبدينا وأوضحنا. اللّغةُ لأجل اللّغةِ أحيانًا: يرى (جوناثان كلر) وأنا معه فيما يرى؛ أنّ ثراء الأدب وقوّته يعتمدانِ على حقيقة أنّه ليس فعالية لتسلّق الجبال أو لعب الشطرنج حيث معايير النجاح والإخفاق واضحة، لذا فإنّ تقييمَه يبقى شخصيًّا ولا يخضع لتشريحٍ معياريٍّ من قبل منتحلي صفة الخبراء (5). وسأحاول – بعجالة – الدخولَ إلى تقييم اللّغة (الشّعريّة) من خلال فصلها عمّا قد يوحيه معمار (اللّغة) المحترفة؛ دون أن أنتحلَ صفة (خبير). تمتحُ الشّاعرةُ عبر هذا العمل الوقور من الثّراء الهائل للّغة العربيّة؛ إلى الحدّ الذي يغريها بخوض مغامرة (خطرة). ومكمن الخطورة – في تصوّري – أنّ الشّاعرة لا تخلق أو تحاول خلق الجديد فقط؛ بل أنّها تستخدمُ الشّعريّ واليوميّ والوحشيّ والمُهمَل والقاموسيّ مجتمعينَ، وتجتهد في أن تقولَ كلّ شيءٍ باستخدام كلّ شيءٍ تقريبًا.. لذا كان الكتاب – في تقديري – عبارة عن احتشاد لغويّ مسيّجٌ بالشّعر غالبًا ولكن ليس دائمًا، فيما تبقى الشّاعرة ناجحةً في تقديم لغة احترافيّة؛ حتّى حين يغيب الشّعر أو يتوارى قليلاً خلف أغراض فكريّة أخرى تستوجب اللّحظة تمريرها. وهنا سأوردُ مثاليْنِ سريعيْنِ مصداقًا على ما أدّعي من حيث استخدام اللّغة لأجل اللّغة واستخدام اللّغة لأجل الشّعر، وبجوارهما انطباعي: «حنكةُ الوردةِ؛ عطرُها الغريرُ» ـصفحة 24)؛ (لغةٌ وشعرٌ). «القشّ لا يعلّم الحقلَ؛ إنّما بقدرةِ القمحِ يتعلّم منه»
33) ؛ (لغةٌ). هكذا يمكن القياس على بعض مساحات العمل؛ ويبقى أنّ الفكرةَ برمّتها مجرّد انطباعٍ شخصيٍّ لحدود ما أراهُ شِعرًا. بين الحواسّ والحدوس:
أمّا (الحدوس) ومفردها (حدس) فهي «أدنى مراتب الكشف» (6). وها هي الشّاعرة تتقصّد إحالتنا إلى أجواء التّصوف مرّة أخرى؛ إنّما بطريقتها. فهذه الثّنائيّة المتناقضة ترد – كما أزعمُ – بشكلٍ غير عفويٍّ، أي تردُ كجزء من مُناخٍ أو فحوى يجب أن تعلق في ذهن القارئ. أمّا كيف جاز لنا القول بذا؛ فحين نستعرضُ بعض الأمثلة سيتكشّف للمتابعِ الحصيفِ علامَ بنينا زعمنا: الحواسّ: «تسربلتُ بهتفٍ يُلغي الحواسَّ» (صفحة 104). «من سبي الرّنين لتعطّلِ الحواسِّ» (صفحة 120). «خرسٌ أكيدٌ للحواسِّ» (صفحة 129). الحدوسُ: «آخر الجسد حدوس لا تتدارى» (صفحة 26). «حدوس اكتست بملامحَ خرّبت أعذارنا» (صفحة 150). «هطول السّياط لجرف أنّة الحدوس» (صفحة 155) . = إنّ «الحواسَّ» تأتي دومًا ملغاةً و معطّلةً بل وخرساءَ، فيما تجيءُ «الحدوسُ» واضحةً لا تتدارى وبملامح تخريبيّة، بل أنّ ثمّة مظاهر لها يجب إخمادها بالسّياط؛ حتّى وإنْ كانت على صهوة طليقة.. لا غير. نحن أمام نزوع عارمٍ إلى عالم الإيهام والتخيّل والافتراض ثمّ الشّك المريب.. الشّك الجميل، في مقابل التفريط بجوهر المدارك والتجربة المحسوسة ثمّ بالفكرة الماديّة برمّتها. بين النّور والعَتمة: خلافًا لـ (بورخيس) الذي يرى بأنّ الكلماتِ سحريّةٌ، وربّما كانت هناك لحظةٌ، كانت كلمة (نور) فيها تبدو ضياءً، وكلمة (ليل) ظلمة (7)؛ تقوم الشّاعرة بحشدِ اللّدوديْنِ معًا دون أن يعنيها المعنى القريبُ مطلقًا، حيثُ تعربُ عن علاقتها الوطيدة بكلٍّ منهما؛ إنّما تميّز واحدًا على آخرَ بدرجاتٍ.. فكأنّ الصوتَ الممسكَ بلجام القصيدة يريدُ القول: أنا الّليليُّ المحضُ! إنّ هذه الثّنائيّة واحدة من أمتع المقابلات التي تقصّدتُ إجراءَها يومًا؛ ولا أقولُ بقطعيّة صوابها ولكنّني أؤمن بمغزاها الأكيد والرّاسخ. لقد كنتُ – ومعي النصّ طبعًا – أمام نسفٍ كاملٍ لمعاني الكلمات المعتادة، حيث تمّتْ إعادة ترتيب اللّغة وفق لحظة (الإشراقة الشّعريّة)؛ تلك التي لا تعترفُ إلاّ بذاتها خالقة ومدمّرة في آن. وكي نفهمَ هذه الثّنائيّة.. علينا أن نطالعَ هذه الأمثلة: الأنوار: «ثياب النّور تُضني من يغشاها» (صفحة 20). «قنديلٌ خالٍ من اللّيل» (صفحة 22). «غير وميض ماضٍ.. تبدّد» (صفحة 63). “النّهار تكدّس بصحوهِ الشّقيّ” (صفحة 90). العَتمة: “أفيق كلّ ليلةٍ لأرى الليلَ” (صفحة 37). “اللّيلُ معي؛ أعرفه ولا أعرفني” (صفحة 70). “قبل أن يستنيرَ المساءُ” (صفحة 97). “نورٌ صافٍ؛ ما يُشبه اللّيل قبل الأوان (…) اللّيلةُ موغلةٌ في النّهار” (صفحة 148). في الواقع؛ نحن نلمسُ بأنّ “ثياب النّور” مُضنية. فيما يتمّ تدجينُ أحد أهم رموز النّور “القنديل” وجعله ابنًا أبكمَ في حضرة أبيه النّاطقِ: اللّيل. حتّى “الوميض” الـ كانَ يومًا.. ها هو قد تبدّدَ. أمّا “النّهار” فرغم إشراقته إلاّ أنّه ليس أكثر من “تكدّسٍ شقيٍّ”. وفي المقابل؛ نجدّ بأنّ صوتَ النصّ يهفو ويرفو ليطوي المسافة نحو لحظات العَتمة المُنيرة، تلك اللّحظات التي ينتظرها بصبرِ وشوق المريدينَ.. فثمّة من يفيقُ من نومه – هذا إنْ كان ينامُ باستغراقٍ أصلاً – ويحدّق في الحالِكِ، في الرّئيفِ الذي “نعرفه ولا نعرنا”، في الذي يشرقُ حتى لو كان مغزى فعلِه “مَغيبًا”. إنّه “النّور الصّافي” الذي يوغلُ في الشّقيّ.. أعني في “النّهار”. لذا علينا أن نفهم معنى أن يطلب هذا الصّوتُ وبجسارةٍ: “قُدني أيّها الأعمى!” (صفحة 22). تلميحات: أوّلاً: جاءتْ عناوينُ القصائد لافتةً ومحتفييه بذات الأجواء الرّوحيّة التي سادتْ غالب الدّيوان؛ كما نرى في: (تأبين المحبّة) (مسجد الجسد) (آماد) (جاهُ المسرّة) (مهاد) (حتوف الجرائر) (ابتهالات المحن) (شكايا اليقين) (مسرانا) (لها السرّ) (مِشكاة الكون). ثانيًا: بعضُ المقاطع والسّطور جاءَ كثيف المعنى والمبنى؛ راسخًا في أجواء الحكمة والتجرِبة الحياتيّة، محيلا أبدًا إلى المُطلق.. كما في: “معضلة المعرفة؛ تعاظم الدّليل دون يقين” (صفحة 24). “ما من حجر لم يسند القتلى بعدُ” (صفحة 116). “كلّ صمت داوٍ” (صفحة 117). “يئنّ كلّ بابٍ من غُصّة لا تزال” (صفحة 160). ثالثًا: ثمّة إيمانٌ واضحٌ بالشّعر وفعلِ الكتابة عمومًا؛ إنّها رسائل مُرّرتْ ضمن سياقاتها التي أثارت عنايتي.. كما في: “للشّعر قدرةٌ على التناهي” (صفحة 36). “قلمي: خشبة خلاصي” (صفحة 58). “كم كان الورق حديقة قلبينا” (صفحة 93). رابعًا: استعملتْ الشّاعرةُ صراحةً بعض الأسماء التي لها حضور هامّ (روحيّ أو أسطوريّ) في وعي البشريّة كـ (غاندي) و (شهرزاد) و(بنليوب)، وكان الاستعمال الرّمزيّ موفقًّا وخادمًا للمشهد بشكلٍ عامٍّ كما لمستُ. خاتمة: يرى (باشلار) ما روحه لا نصّه: أنّ الصّورة الشّعرية تنتمي إلى الكينونة، وأنّ الخيالَ هو ما يضعنا في قلب الطبيعة البشريّة، وأنّ الشّعر في إجماله ظواهريّة الرّوح لا الفكر، فيما تحليل كلّ هذا يخضعُ إلى طريقتنا في الإصغاء إلى العالم (8). وهذا تمامًا ما نجحتْ في فعلِه الشّاعرة (فوزيّة السّندي) حين أطلعتنا على كينونتها وفطرتها وقاسمتْنا أسرارها وعالم مخيالها وشاركتنا في محاولاتها لإدراك السرّ وما تهمسُ به الرّوح وما ينوءُ به الفكر. وهذا – أيضًا – ما اجتهدتُ أنْ أفعله أنا حين أخضعتُ كلّ تلك المعطياتِ إلى أدواتي وطريقتي في الإصغاء إلى العالم. يبقى أن أشيرَ بتجرّدٍ إلى أنّنا أمام كتابٍ يشعرُ المرء بامتنان بعد أن ينتهي من قراءتهِ. ثمّة حلم وخيال وواقع يستمدّ العمل مادّته البكر منها جميعًا، ليقومَ بطهوها على مِرجل يحلو للبعض – وأنا منهم – تسميته بـ (نموّ العلاقة)؛ وحين تنضجُ (طبخة النّص) ستخرج إلينا عاريةً من لعنة المفهوم وحرّةً إلاّ من سحرِ اللّحظة. هذا الكتاب أحد الأجوبة الممكنة على التّساؤل الخالد لـ (أنسي الحاج): “هل يمكنُ أن يخرجَ من النثر قصيدة؟” (9)، ونجيبُ: نعم يمكنُ.. جدًّا.