(1)
“ماهية الإنسان هو العلم والعلم هو المعلوم من جهة وهو غيره من جهة أخرى فإذا جهل معلوما ما فقد جهل جزءا من ذاته وإذا جهل جميع المعلومات فقد جهل ذاته فنفي هذا العلم عن الإنسان هو نفي علم الإنسان بنفسه لأنه إذا انتفى عن العالم المعلوم من جهة ما المعلوم والعلم شيء واحد انتفى علم الإنسان بنفسه.”
“تهافت التهافت لأبن رشد”
(2)
“من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك لأن الله خلق الإنسان حراً قائده العقل، ففكر وأبى إلا يكون عبداً قائده الجهل.”
“طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي”
(3)
لقد تأسس الاستبداد، كمنظومة قمع لا توصف، طيلة تاريخنا، ماضينا العربي وحاضرنا المرتهن له، على العديد من التداعيات التي مهدت لنفوذه، لمداولة اجتهادات “عبدا لرحمن الكواكبي” ضمن كتابه” طبائع الاستبداد”، لنا أن نستنير بأقسى تجربة قمعية، نافية للآخر، تجربة لازالت تؤلمنا، كلما قرأنا ماذا فعلت بنا سطوة الاستبداد، عندما تمثلت في أعنف تجلياتها، المستندة على سلطة الفقهاء، ونالت من الفيلسوف “أبن رشد”، لتحرق منجزه الفلسفي وتنفيه، بل تجتث جثته من قبره، لتنفيه مرة أخرى.. هكذا:
“ولما جعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وأنا ومعي الفقيه الأديب “أبو الحسن محمد بن جبير”، كاتب السيد أبي سعيد “الأمير الموحدي” وصاحبي “أبو الحكم عمرو بن السراج”، الناسخ، فألتفت “أبو الحكم” إلينا وقال: ألا تنظرون إلى من يعادل الأمام “ابن رشد” في مركوبه؟ هذا الأمام وهذه أعماله-يعني تواليفه! – فقال أبن جبير: “يا ولدي، نعم ما نظرت! لا فض فوك! “..فقيدتها عندي موعظة وتذكرة.”
هكذا أختط الشيخ “محي الدين ابن عربي” في كتابه العريق “الفتوحات المكية” تدوينه البالغ التأثير لحادث إبتلت به ذاكرته، وهو يرافق جثمان الفيلسوف “ابن رشد” في شهر آذار سنة1199م من “مراكش”، حيث تم نبش قبره، وطرد موته بعيداً عن أفريقيا، ليدفن مرة أخرى، بعد أن قطع وعر الطريق كله، ممتهنا مشقة السفر إلى “قرطبة” عاصمة “الأندلس” التي دفن فيها “أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد” الفيلسوف الذي أثرى تاريخ الفكر الفلسفي الإنساني كله، ولم يزل يعمل فيه كل محاورة تستنهض مستجدات الاشتغال الإغريقي، الملتحم باستدعاء محنة التفلت العربي الفكري، آنذاك من مقاصل السفك، هذا المفكر الذي نال من الهجوم ما لم يقو عليه أحد، ومن التمجيد ما لم ينله أحد مثله.
لقد انشغل” أبن رشد” طيلة حياته بتحدي التفاسير لأساطين الفلسفة الإغريقية وعظماء الفكر اليوناني، من تلخيص أرسطو طاليس، حتى تفسير كل عبارة أنهى بها عمره. هو من لقن علماء الكلام آنذاك درسا في سبر قدرات العقل ومجابهة النصوص، لا في التفذلك البلاغي كل بيان يتماهون به لمديح ذوات الجاه من سلاطين الوقت، وحواشيهم الذين لا يقلون غدرا عنهم، لذا تم نفيه إلى “أليسانه” وهي على مقربة من “قرطبة”، بعد أن أمر السلطان “ أبو يوسف يعقوب المنصور” بإحراق كتبه وكل كتب الفلسفة، وبعد أن حظر الاشتغال بالفلسفة وبالعلوم عامة، “و حسب أقوال من ترجموا له فقد كان يخصص الليل للنظر والقراءة إلا ليلة وفاة أبيه وليلة زواجه” وللمفارقة المؤلمة نرى أن من سوف يشهد له على عظمة آخرته هو “ابن جبر”، ذاك الذي ساهم بفعالية عمياء في اضطهاده والنيل منه، بل نظم الهجاء ضده:
الآن قد أيقن ابن رشد أن تواليفه تَوَالفْ
يا ظالما نفسه تأمل هل تجد اليوم من توالف
(4)
موت “ابن رشد” وتهجير جثته إلى الشمال لا يعني سوى ترحيل الفلسفة العربية واشتغالها الفذ نحو مدارس وجامعات الغرب، إرسال فكره إلى الشمال الأوروبي الذي اعتنى شديد العناية بمكتشفاتها الصادمة، وهو يتمحص الأثر لفكر صعب، ناهز الفلسفة اليونانية، تهجاها حرفا حرفا، استنطق مدلولاتها، لذا نهلت جامعات الغرب في “باريس” و“أكسفورد” و“بادوفا”، ترجمت كتبه إلى العبرية واللاتينية، تعالى حواره المبدع مع مؤلفات “أرسطو” وشروحه لتغمر مناهل الدرس الأكاديمي هناك.
إن أثر “ابن رشد” في فلسفة العصور الوسطى والمعاصرة لا يكف عن الجدل كل كتاب فلسفي تنتقيه، لالتحام اجتهاداته الإبداعية في تنقية الشروح الفلسفية “لأرسطو” وإمداداته، بحضور التفاسير الراهنة للفلسفة الأرسطية، التي سميت “بالرشدية” في أوروبا المسيحية، ضمن قرون تتالت لتشهد له على عمق تأثيره البالغ على سعي تلامذة يتسعون وهم ينهلون من غور موهبته الفلسفية: تحدثنا د. زينب الخضيري الباحثة في شأن موهبة “ابن رشد”:
“وكان في استطاعة العصور الوسطى المسيحية أن تتجاهله تماما، لولا أنه كان أعظم شراح “أرسطو” ذلك الفيلسوف الذي أقبلت عليه هذه العصور إقبالا عظيما على يد مفكريها سواء كانوا من علماء لاهوت أم فلاسفة، لقد فعل “ابن رشد” لأرسطو ما لم يفعله المؤلفون المسلمون إلا للقرآن، فبدا في معظم الأحيان وكأنه يريد التفكير لحساب “أرسطو” أكثر مما يريد أن يفكر لحسابه، مما جعل فلسفته تمثل عودة للأرسطية الأصلية ورد فعل ضد الفلسفة الأفلاطونية المحدثة”.
(5)
والماضي يمضي، يدعونا بحنان لنقرأ موعظته. ألا نذهل ونحن نراه يعود لنا ببسالة المنتقم، ليرانا أكثر فزعا؟!
كان تاريخا مكتظاً بمواهب لا تؤجل المستقبل بعيدا عنها، مواهب تستند على سعير ذاكرة تدون حروف الحبر، ترسل أبيات الشعر، تكتب رحى المواعظ والأحاديث، ترسي رسائل النثر، تاريخا صعبا، صار حاضراً واهناً يدمينا بتقصف الجثث كل حرب أو نصر لا يهم، بل يكتوينا بالمهج لأصوات تلهج بأتون الحراب.
“ابن رشد” لم يكن وحده…لي أن أتقصى منذ آنذاك حتى الآن: ألاف الجماجم التي اكتوت بسعير استبداد خلافة العرب، الألوف من الرئات التي اغتصت بقليل الهواء كل حكم عربي استبد، ضد كل حرف عربي حر، لي أن أحصي مالا يحتمل من الرقاب التي اندكت كل سيف أخرس، تولته قبضة القضاة، لي أن أفضح كل حديد يصدأ، وهو يجرجر كل قدم تمضي لزنزانة عمياء تماما من الضوء، تلبية لحنكة كراسي الحكام، لي أن أمسد كل قلب عربي تعرض لجمارك المنافي، تجازى ببحثه عن لقمة الهواء بأن يبتعد عن حضن يرفل برائحة أمه، حنو يستبد بعضل أبيه، ليراه في بيت بارد بعيدا عن دفء أخوته وضفائرهم التي تشبه أنهار بلاده، بعيدا عن حنان بيته المكتظ بدوي كتبه، غرفته الشغوفة به، جيران وقته، حبيبته التي تكاتب الدمع الكفيل بإسراج الحبر نحوه، وطن لا يفارق حواسه وهو يتنفس عطر ترابه في ليل الغربة.
هذا والاستبداد العربي الراهن يتصاعد، أسأل: لماذا لم تزل المنافي الصعبة، تنهل من أراضي العرب، مواهب لامعة، مفكرين، مبدعين، مئات الألوف يتعرضون لرحى الغربة ومشقة المنفى.. يا الله، لماذا يبدو الغريب أكثر رأفة وحنوا تجاه من يبدعون؟!
من الملام في هذا المصاب؟ من الملام غير تاريخ عربي راهن وواهن لا يتعب من إلغاء حرية الأجساد والعقول..
غير حاضر مغلول، تبدى لنا منذ ماض مثقل بالقهر والسطوة والقتل.. ماض أعلن حاضراً سوف يرث مستقبلاً لن يرأف بنا أبداً.
(6)
بعد هذه الشرفة التي دعتنا، لنستشرف أهم المواهب الفلسفية العربية، من غير ”أبن رشد”، لنا أن نستطلع ذاكرتنا، ونرتاد ورق تاريخنا، لنصطدم بالعديد من الاجتهادات الفكرية التي كانت تتعامل بحصافة ومسؤولية بالغة، تجاه خطورة وحلول النهج الاستبدادي الذي تعرش في ظلال خلافتنا العربية الإسلامية، بل أخذ في التنامي والتصاعد ليطوح برقاب الفلاسفة والمفكرين والشعراء، ليؤسس لتاريخ دموي، أعتاد أن يواجه بوميض السيف والسم والسكين، حناجر تصطلي بلغة الكشف، الفضح والجرأة التي كانت تتضامن وتاريخها العربي المستنير بأواصره الفكرية والفلسفية والإبداعية.
تتالت تلك الاجتهادات طيلة تاريخنا، لامتلاكها الوعي المعرفي الكافي لإتقان دورها الكفاحي هذا، ممتهنة حبرها الفاضح ضد توالي أنظمة القمع، التسلط، الهيمنة الاستعمارية، التي توجت انهيارات لا بد من حدوثها، لحضارة عربية إسلامية، لم تتقن المحافظة على ثروتها الحقيقية، ومكنوزها الحضاري المتمثل في إبداعات شعوبها، إنجازات عقول ومخيلات مواهب عديدة، نالها النفي والقصل والقتل بما يكفي لتنهار الأمم من بعدها.
أبان غلبة أجهزة الحكم العثماني الباطش، شكلت تجربة “عبدا لرحمن الكواكبي” وميضا خاصا، ذلك لدوره النضالي في مقاومة الهيمنة الاستعمارية الفرنسية في سوريا، تحريضه المستمر لشعبه لمقاومة نفوذها، دعوا ته المستمرة لعقد مؤتمرات إسلامية لتوحيد مشاريع النهضة العربية وتنظيم مجهودات المقاومة المتسلحة بالوعي والفكر ضد المستبدين من الحكام، المتواطئين مع المستعمر، كل هذا التاريخ الوطني، عمده” الكواكبي” بقراءة حصيفة لمسببات الانحطاط والهزائم التي ابتلت بها حضارة العرب، لقد أستطاع أن يحاور العديد من المعضلات، أهمها مداولته لمفهوم “الاستبداد”، ذلك ضمن دراسته لمؤثراته وقدرته على مواكبة تحولاته، بل تجليه في استيلاد صيرورات طبائع الاستبداد، في أغلب كتاباته ومكتشفاته التحليلية، لاسيما في كتابه “طبائع الاستبداد”، لم يكن غريباً، تعرضه لغدر القتل أيضا، ولينال منه المستبد مثلما نال من مجايليه، رواد الفكر النقدي المقاوم، من العلماء والفلاسفة والمفكرين، عندما قتل متأثرا بسم دس له في فنجان القهوة عام 2091، ليدفن في القاهرة، يعتلي قبره شاهدا آخر وليس أخيرا على مدى العنف التسلطي الذي لا يرحم أحداً، حتى مبدعي ذاكرته الحضارية الوحيدة التي يتباهى بها أمام العالم.
استطاع “عبدا لرحمن الكواكبي” أن يشخص سبب الانحطاط الذي تفشى في مجتمعه، ذلك طيلة بحث أستغرق الكثير من روحه، طيلة ثلاثين عاماً، أمضاها في البحث، وهو يرى” أفكار سراة القوم في مصر” تتخبط، وهي تبحث عن مسببات الانحطاط الحاصل، منهم من تداعى لكون أصل الداء هو الابتعاد عن الدين، آخرين شخصوا محدد الجهل كمسبب أساسي، لاستشراء ظواهر التخلف الحضاري، لكنه لم يتهاون إطلاقاً، في إطلاق كلماته، بجرأة تدين المرتكزات السياسية التسلطية، التي عملت على تخريب الوعي الحقيقي، مصادرة تمثلاته المبدعة، لذا كتب لنا:
“وحيث إني قد تمحص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية، وقد استقر فكري على ذلك-كما أن لكل نبأ مستقراً-بعد بحث ثلاثين عاماً.. بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم الباحث عند النظرة الأولى، إنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء، أو أن ذلك فرع لأصل، أو هو نتيجة لا وسيلة.”
هنا يكمن اقتدار “الكواكبي” في مداولة هذا المنحى الإشكالي، لكونه بالرغم من بحوثه المتعمقة، إلا أنه كان يدرك تماما مدى الاستيلادات الحاصلة من هذا المشكل البنيوي في التاريخ التسلطي العربي، بمعنى آخر أن اجتهاد” الكواكبي” بالرغم من تعمقه في مطارحة تحولات الاستبداد وتعدديته التي أسميها “إستيلادات الاستبداد”، إلا أنه أصطدم بصعوبة قدرة هذا الداء على استنهاض التحولات، التي تشكل المعضلة الجوهرية، الإشكالية الكامنة في مواضينا وحاضرنا، والتي تتقدم نحو مستقبلنا أيضاً، أصطدم بفعاليتها، تتاليها، وتعقدها إلى الحد الذي استعصى فيه البحث ذاته عن القدرة على رصد تجلياتها.
أهتم” الكواكبي” في بحثه الفكري، بأن يورد مفهومه للاستبداد أولاً، شارحا ماهياته، أصوله، مراتبه، التلفيق الذي تحقق ليستنزل له مرجعيات دينية وقرآنية، ليستخلص من بحثه:” والخلاصة أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة!”
لقد عمل” الكواكبي” على تعميق مقارباته في حقول معرفية أخرى، مثل الاستبداد والدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والتربية والترقي، لينتهي بدراسة مقترحاته حول سبل التخلص منه.
كل هذه البحوث المعمقة بالدلائل، حرص على استنفادها بتحليله لطبيعة الواقع الاجتماعي والسياسي السائد آنذاك، بل أستطاع بجرأة لافتة، أن يحاور مكامن التابو الاجتماعي، بالذات عندما تعرض لمحور الدين وعلاقته بالاستبداد، لقد كاشف طغاته بحرية بالغة وأستعرض ما يحدث من أإتلاف مفضوح يوظف الدين لمصالح الطغاة، نستطيع أن نقدر مدى جرأة” الكواكبي” إذا تداعينا لمعاينة تلك الفترة التاريخية-المأزومة بحضور ديني لا يستهان به، بل لتسلط مؤسسي في كل منابره- التي كتب ضد التسويف والتزلف لولاة الأمر فيها ما يلي:
“الأمر الغريب، أن كل الأمم المنحطة من جميع الأديان تحصر بلية انحطاطها السياسي في تهاونها بأمور دينها، ولا ترجو تحسن حالتها الاجتماعية إلا بالتمسك بعروة الدين تمسكاً مكيناً، ويريدون بالدين العبادة، ولنعم الاعتقاد لو كان يفيد شيئاً، لكنه لا يفيد أبداً، لأنه قول لا يمكن أن يكون وراءه فعل، وذلك أن الدين بذر جيد لا شبهة فيه، فإذا صادف مغرسا طيبا نبت ونما، وإن صادف أرضا قاحلة مات وفات، أو أرضا مغراقا هاف ولم يثمر، وما هي أرض الدين؟ أرض الدين هي تلك الأمة التي أعمى الاستبداد بصرها وبصيرتها وأفسد أخلاقها ودينها، حتى صارت لا تعرف للدين معنى غير العبادة والنسك اللذين زيادتهما عن حدهما المشروع أضر على الأمة من نقصهما كما هو مشاهد المتنسكين.”
بالرغم من جرأة مشروع “الكواكبي” الفكري في تعقب ظاهرة الاستبداد، وتجلياتها المستولدة من صيرورة قسوته، وعنفه كمنظور سلطوي يستوجب التغلغل في كل شيء بلا منازع، بالرغم من كل ذلك الاستشراف الشمولي نسبياً، إلا أن هناك توصيف مهم للصعوبة التي أصطدم بها، تلك التي لم يستطع معها متابعة الكثير من الإحالات التي تعقدت لديه، ضمن محاوراته المتخصصة التي انتقاها لكشف علاقتها بالتسلط، هذا الأمر عبر عنه بموضوعية الباحث والمفكر في مقدمة هذه الكتابة، حسب تعبيره:” لكون القاريء لا يلبث أن يكتشف أنه لم يظفر بشيء. أو أن ذلك فرع لأصل، أو هو نتيجة لا وسيلة”، لا ترجع هذه الإشكالية كما يرى البعض لمحدودية الحركة الفكرية التي عاصرها ”الكواكبي”، بل أراها رغم ما سمى بعصر “الانحطاط”، وحدوث الهيمنة الاستعمارية، كانت مرحلة نهضوية، فيما يتعلق باختراقات اجتهادية فكرية، مهمة وجريئة، يشكل “الكواكبي” أحد محاورها الهامة، الإشكال هنا يتعمق ضمن خطاب الاستبداد ذاته، لكونه يشكل حضورا لمفهومات سحيقة حول حلول السلطة بمستحقاتها العنيفة، علاقتها الرعوية المقتادة ”لرعاياها”، منذ بدء الخلافة العربية، تخلق الاستبداد السياسي، المرجعي، الطاغي، ليكون رهناً بتاريخ مثخن بحدوثه، واستمرار نزوعاته التسلطية والقهرية، التي صاغت عمر أجيال من البشر، بل عمرت قرونا من الوقت، كلها تعرضت لتحطم طموحاتها، تكسر أحلامها، لتخضع لمراهنات الاستبداد، بل لطغيان شروحاته التي تناهض لتعميدها العديد من دهاقنته، كما يحدثنا الكاتب “عبدالفتاح كليليطو” في حديثه عن الجرم الذي تحقق لا لغاء ومحو إبداع ”الحريري” وتضييع أغلب منتوجات ”الواسطي” الفنية: “ سأل رسام فارسي ابن عباس: “ألم يعد بإمكاني أن أرسم حيوانات؟ ألم يعد بإمكاني أن أمارس مهنتي؟” فقال له أبن عباس:” بلى، لكنك تستطيع قطع رؤوس الحيوانات حتى لا تبدو حية، واجتهد في أن تشبه تلك الحيوانات زهوراً.”
ليعلق الكاتب “كليليطو”: محو الرأس، هو محو إشارات عديدة عن العمر، والجنس والأصل، وطبع الأشخاص المرسومين، ومؤشرات عديدة نمطية ومزاجية. وهو بالخصوص محو النظرة، لأن الصورة أكثر ما تؤثر على من يراها بالنظرة، قطع الرأس يعني قطع الكلام. لن يمكن للصورة أن تغري، وتسحر، وتصبح بريئة وغير موجودة. ذلك ما حدث لمنمنمات مخطوط إستانبول، لقد قامت يد كارهة للصور بمحو الرؤوس من كل صورة.”
ضمن إستلابات قهرية وتسلطية تصل إلى هذا الحد، أو بمعنى أشد قتلاً، ضمن استبداد لا حد له، لا منتهى يتراجع البطش فيه أو يتراخى الخنجر فيه عن سفح الوريد.. على الأقل، كيف لنا أن نستحكم رصد تداعياته التي تعيد صياغة مبتكراتها على الدوام.
قدرة” الكواكبي” تبدت في خلق حالة حوارية بين إعتمالات متعددة لصيرورة القمع، من الطبيعي أن تتماهى بخصوصية المرحلة التاريخية التي يهتصر بها روحيا وجسديا وفكريا، بل ليخضع الى حد ما، لكل ما تم تداوله من رؤي نقدية لهذا الواقع الذي يحتضر على مهل، تلك المداولات تعرضت لصعوبة الكشف، لكنها على الأقل استطاعت أن تعري وتفضح ما حدث.
كخلاصة يراها” الكواكبي” لمقاومة الاستبداد، أو كمقترحات للحل كما يرى، أكد على ضرورة مقاومة الاستبداد بالحكمة والتدريج الذي يصفه:
“أن الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقي الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. ثم إن اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفة، لا يتأتى إلا في زمن طويل..” “ومبنى قاعدة أنه يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به.”
لقد ناصر” الكواكبي” المواقف الفكرية لأغلب مبدعي موروثه وراهنة الثقافي أيضاً، ذلك بإضاءة دور المفكرين من الفلاسفة والمبدعين لمناهضة هذا الإستشراس التسلطي، بالمزيد من الجرأة النقدية الفكرية، النهوض الاستشرافي الإبداعي، بل الأدهى من ذلك، كونه لم يعول إطلاقا، على غضب الناس وانفلات مشاعرهم نحو الشارع، الذي كان يراها تعبيرا عن تنفيس مؤقت، لا يرمم طبيعة هذا الخلل، بل أكد على أن يتم مقاومته عبر:
“تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية السياسية المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها، والأولى أن يبقى ذلك تحت مخض العقول سنين بل عشرات من السنين حتى ينضج تماماً، وحتى يحصل ظهور التلهف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتمني في الطبقات السفلى. والحذر كل الحذر من أن يشعر المستبد بالخطر، فيأخذ بالتحذر الشديد والتنكيل بالمجاهدين.”
تلك المعطيات التي ساقها “الكواكبي” في تقديره للحلول التي يراها للتخلص من الاستبداد، هي ما يؤكد عليها حاضرنا العربي المبتلى بشرور أنظمة مستبدة، تجز رعاياها على صوان البيعة، يعبر عنها بأهمية أتقاد الرؤية الفكرية السياسية، لتشخيص طبيعة راهننا المجتمعي، ثم الاستدلال منه ببرامج تشكل البديل الحداثي عن تردي هذا الحال الفكري، الانحياز لدور الوعي القائد لم تكن بدعة تكشفت “للكواكبي” بل هي للأسف، شكلت صرخة احتزت حناجر كافة المبدعين من فلاسفة ومفكرين وشعراء، طيلة تاريخنا الإنساني الفلسفي الفكري، شكلت هذه الصيحة، عتادا، وذخيرة رؤيوية، لأغلب شراح إشكالاتنا الفلسفية الإنسانية، دوما كانت تشكل الاشتغال الواعي في تصديرها لنقودات تسهم في تشريح هموم الأمم وملماتها، بل كانت تعبر عن مواجهة حقيقة، جذرية المنجز، تلتاذ بمعارفها السحيقة والمعاصرة، ضد الطغيان الطاغي على مقدرات شعوبها، هذا، بالفعل، ما يسترعينا عند مقاربة كتاب “الكواكبي”، لقدرته على تفحص طبيعة المسببات وعلائقها، وأيضا لتخليصه لدور الوعي النقدي الحداثي على التصدي ضد انهمار حريات كائنات لا تستحق ما تحياه من حياة ملغاة تماماً.
عندما يمعن التسلط في مراوغة ضحاياها، ليحولهم بجهنمية الإذلال، لجلادين يعيدون صياغة الأغلال، أيضاً، عندما يتقن الاستبداد تعميد القتلة، تمجيد الجلادين، تجميل الذبح العلني والجماعي، هنا يتوسد الطغاة عروشهم باطمئنان بالغ، لاستمرارية مسارات سيوف العنف، وتسيد الإلغاء الحتمي لحرية شعوب، بتحويلهم لرعايا يقضمون العشب المتاح بصمت، تخجل منه القطعان السادرة، المعتادة على الثغاء بجرأة حناجرها، المهتاجة بحرية الرياح..
ليس هذا فحسب.. بل بتعويد الشعوب على أن تحيا هذه الحياة، كضحايا يؤجلون الموت..