(1)
أعرفُ
ما للهوى جوى إلاي
تميمة تؤله حبر الذات
ما يسردني أتقصاه
كورقة في مهب الحرف:
أكتب لأغار من فراشة تستظل بهوى المصابيح
لأحار من شأن سلاحف تتخندق بصلادة المأوى
لأراني، ساقية أراقتها الحياة
أقف، بمهابة ريشة عمياء
أمام عدالة القنص
أتباهى برحب الرصاص.
(2)
وحيدة إلا منها، هكذا ترعى عزلتها، تدون ما ينتابها من حريق النهار على حرير الليل، وحدها.. لا سلاح لديها، غير عنف كلمات يتقاطر منها الحبر..
تبدو حزينة.. وغريبة عن يباس هذا الكون.
كلما نحتت كتابة.. وضعتها في قنينة فارغة وزجتها بحب بالغ نحو جنون البحر.. من سواه؟! رفيق خطوها البهيج وهو يضلل قدميها على عبء رمله الوفير، هذا الأزرق العليم بحال كل نفضة ترتجيها هيجة الروح، هو الوحيد القدير على سرد نبض هذا القلب بما يهتويه من رعدة الحب، هو الحنون المالح الذي يحتضن كلماتها، ويرميها نحو موجة تتصاعد تلو موجة أخرى تتكسر.
هكذا، وحدها، تداهم ذخيرة الحياة.. تكتب ما تراه.. بحبر روح تشهق أمام ظلال جسد يتهدم، مذبوح بذاكرة دم لا تغفر.. امرأة تكتب وترمي ما احتل وحشة روحها.. لهاوية الماء الوحيدة التي ترأف دوما.. بها.
وحدها، في جزيرة تكاد ان تنتحل من ضيق حدودها وعنف مراسيها، لتكاد ضفافها تغيب من سفور الملح وهيمنة الموج، وهي منكبة على طاولة خرساء، تتسع لحروفها السخية، مرتخية على كرسي شرس، تدون على بياض الورق مبتغى هذا الألم، لا تكف عن انهمار الكتابة، تكتب وتثقل القناني الفارغات بعبء الورق، لترمي- كل ليلة- بعنف ساعديها ما أنجزت نحو غفلة الموج، حتى يزدهر البحر بقناني مرسلات هنا وهناك.
ليغدو البحر ماء مشتعلا بزرقة مريرة من زجاج الحبر.
امرأة تستبسل وهي تكتب نحو هتف الحب وتكره افتراس اليأس كلما لملم خطاه العنيدة نحو شرفة ترفل بليل وحيد.
(3)
وحده الكاتب العربي، يحيا بلا حقوق محفوظة له كل كتاب، وحده لا يقارن بأحد على صعيد الكبت الذي يستبد بحريته والكسر الذي يلغي حقوقه المعلنة والملغاة والمهدورة معاً التي يدعون حفظها له، كل كتاب.
وحده المبتلى في بلاد العرب باغتيال شرس لحقوق الطبع الذي لا يراعي أي حق له، أمام نحت الحرف، أو حرية الصوت، حتى القليل من الهواء على الأقل.
عاق ليس لأنه ولد كذلك، لكنه وجد نفسه في قبيلة منذ قرون مضت تعتقد بكونه كذلك، لذا اعتادت ان لا تثق به بل تخاف من قدرة الفضح لديه، أيضاً، فيما بعد وهو يكتب في وطن لم يختلف كثيرا عن طبيعة بطش العشيرة، كلهم، كانوا يظنون أنه كذلك، لذا راحوا يعتمدون القيد نحوه منذ الطفولة، بصرير السلاسل، لينمو في ضيق أخرس وليتعرف على حقيقة حرية الرسغ، على مهل صار يتيقن من حريته الملغاة حد الموت.
بل اعتاد أن يعترف وهو يكتب أن لا حرية له غير ضيق القبر، لا أمل أمامه غير هذا الموت المؤجل على الدوام، غير هذا المعصم الذي لا يعتصم بسواه، معصم منتهاه أصابع تشغف بحرية الكتابة، ذات مفاصل عنيدة، ترتد كلما دنا منها حديد القيد.
له رئة تهب الهواء حرية الزفير، كلما انحنى على حجر وتأمل وعر راحتيه بقلب مرتجف على الدوام، مذعور من فأس قد ينقض..
(4)
عاق منذ بدء التاريخ..
كان ينزوي في ظلمة الكهوف، يرفه عن وحشة قلبه بحفر طلاسم روحه علي صخر صلد، بدا له أكثر حنوا من معدن الناس، راح يرسم او يكاتب الجدار، لينال من عشيرة باطشة لم تحتمل فراشة قلبه، لم تحتمل طبيعة روح تهديه عذوبة المطر، بل راحت بنبال الفرسان وصخب الرماح تلتذ بنحز الجراح. لتدعه وحيدا يتردم بين عويل الليل وضراوة النهار..
عقوق لا يكف عنه.. يتمرد من خلاله علي رحمة اولي الامر، ولاة ليسوا له بل عليه. حين يتكالب النبذ نحوه، قسوته على الورق لا تطاق ولا تماثل قسوتهم عندما يشيدون منصة للشنق.
هل يكفي.. ما نفعل بهذا المهتال بجمرة الموهبة؟
كلما أعلنا على الملأ الأصم: ان هنالك قانونا يحمي حقوق المؤلف، صاغه النص، استوفاه المشرع الأعلى من كل شيء، دفعه صيت القانون نحوه، لحماية منجزه الابداعي وممتلكه الفكري والرؤيوي وحتماً…سوف تدافع عنه عدالة ما، عدالة تمتلك مطرقة القضاة.
نعرف كل هذا وهو لا يجهل كل ذلك.
لكنه كالغريق يرى قسوة الوقت تخنق هواء حنجرته، يشهد على ما يحدث لكتبه كل الوقت من مهانة، وهي ترنو اليه من رف منهك، مترب، بعيد ولا أحد من ذوات المكتبات يكترث بحقوق تتسرب كالغبار ولا تلجا له، يرى دور النشر كيف تتكالب على طمس حق الحبر وهي ترفع سعر الحرف وطباعة الورق وتنحر سعر موهبة دمه التي لا تساوي في بورصة نقدها غير ارتعاش الرميم وهو يحلم بجذوة الرماد.
هكذا يبطش راهننا العربي عبر مؤسسات للتجارة والترويع يسمونها للنشر والتوزيع، هكذا تحز بوقيد لسعها على أصابع موهوبة لتشريف حضارتنا وطمس اليأس عن جبهة تاريخ تصدع من غلو الهزائم كل حرب.
(5)
.. لكنها امرأة.. لا تندم على وقت منحته لحرية البوح، على ليل أشعل مواضيها كلها، على متعة كالجنة كانت لها وحدها، لا تكترث ولا تحتمل غير بسمة تحتل ملامح ترتخي لأول مرة.
لا تفعل غير ان تنسي كل زجاجة القتها لفيض الماء، لا تتعب من نشر عذاباتها على الهواء، لا تيأس من علقم وقت مهدور ومنذور لليباس.
مذهولة بفداحتنا، تمور كنمرة في فصاحة الذبح العلني.
لا تري ولا تهتم إلا بهتف دمها الذي ينهمر ببطء يشبه صبر السيف.. نافضا عبء هذا الزمان.
امرأة في هواه تضمخ جسدها بعطر روحه، تنداح نحو المدى كله.. كأنها تنتحر كل بحر.
(6)
من يكتب لا يموت..
للحبر ذاكرة كالدم لا تجف،
فاحترسوا من زرقة كلمات كالبحر تهدر، تصونها مقابر الحاضر وتحتفي بها محابر الماضي..
فاحترسوا. لان ما حدث فيما مضى سوف يحدث الآن..
للكلمات ذاكرة تشتعل ولا تنسى أن ترسل عذاباتها كل ماء..
ها هي تتذكر وتراسل رعدة البحر..
من سواه..