دم يرصد النشيج خفيفا خفيا، كالخلية الخرساء التي ترخيه في حسرة الروح، محتدما لا يذعن لوصايا المذابح التي تحتل بمخالبها ذاكرة الهيكل، بل يمعن في سرد خفاياه في هواء يرسم البحر، ومن جرح لآخر يخضب سيرة الجسد، بزيت يكتشف مسارب الأمل ويداهمنا موجة موجة، تفاجيء تعب القلب بذريعة الخفق.
(1)
هل تعرف بماذا تصاب وأنت ترى بحرك الحنون الرحيم بموج وديع يرتل رتم الماء بخجل عميق نحو جفاف يابسة حليمة بحبه الغريق ببوح القلب، هل تدرك كيف سينتفض جسدك كله وأنت تراه مثقلاً بالموت… هذا ما حدث.
انفجار مهيب سحق الحديد، دوي أجج جزيرة المحرق، ألقى بسواعد صبية من رعايا القرى القريبة من البحر نحو أقاصي الموج، بعناد داهموا مجزرة حديد أعمى أودى بجثث لا محد لها، كلها تعرضت لتقصف لم يقو عليه الحديد الذي تلاشى، هكذا أصطبغ الأزرق الرئيف بحمرة أطراف مجزورة من الوريد إلى الوريد، بحر انتهل مصب الدم ومناب الدمع الذي جاء بعد هول المصاب لتبدو البحرين جزيرة تلتهب بسخاء الدم الشهيد ونشيش بكاء ما أن يلامس وجنات الأهل حتى يحترق الهواء.
(2)
بلادي جزيرة صغيرة جدا لدرجة لا تراها في ساحة الخرائط، لكنها ممتدة إلى أعمق الحدود، بتاريخها الدلموني العريق وبساطة الناس، بلاد ازدهت بالحرف منذ “طرفة أبن العبد” حتى أحفاد لا يقلون عنه خروجا وإبداعا، جزيرة صغيرة لكنها مأهولة بتراب الحب حد بحرها المنسرح، جزيرة تحتد بجزر تتعدد، كلها تحتضن زرقة الأفق، أرض تضم شعباَ يرسو علي يابسة صغيرة ترعى شأنه، ببساطة هي وطن للقلب وهذه التعرفة التراثية اشتهرت بها البحرين بين جيرانها من أثرياء النفط، اشتهرت بتراب يلتحم بدم واحد تتوازعه عائلات تتعدد، لا أحد في هذا الوطن الصغير لا يعرف من يستوطن آخر اليابسة، كلهم جيرة يندغمون معا بخفق الحب، هكذا تحيا البحرين بقلب واحد.
(3)
كيف لها أن تقترب من مساء قاس يدعوها على حين غدر، لتشهد البحر مقتولا بدم فتيتها، لتراهم جثثاً منحورة الروح، يرتمون على ماء يهدهد أطرافاً تطفو على بحر يلهث بحريق الدمع من هول ما احتواه. كيف لهذا البيت الواحد القريب من البحر كما القلب أن ينزف آخر الدم لغاية ارتياع الجسد، كيف له أن يحتمل شهامة بحارة عراة ألا من سواعدهم راحوا يقذفون بأرواحهم نحو غياهب الأمل، عندما تفزعت حواسهم لأول الانفجار، ليهرعوا وحدهم نحو قوارب خشبية تدار بمحرك واحد.. تضام وهلعهم الذي باغته الهدير العصي، بحارة صغار اندفعوا ليستجلوا عبء المصاب.
حين استشرفوا حطام الحديد، أوقفوا محركات القوارب الخشبية لئلا تعلك براءة اللحم أكثر، أغلقوا نهب الكهرباء عن محركات كادت أن تجهش بالبكاء، ليسقطوا في عمق الماء المنهار وهم ينتشلون ذراعاً هنا وجمجمة هناك، اندفعوا بذعر كبرياء فاتك وهم يفتحون حزام الأمان عن “..” ليخرجوا ما تبقى من أجمل جسد لأطيب امرأة على الإطلاق، امرأة ماتت القلوب كلها وهي ترثيها لملائكية معدنها الأصيل، لا.. لن أحصي ذبائح البحر، كلهم راحوا لموت لن ينتهي، كلما رحنا لنرى البحر.
لن أحصي مالا يحصى من صيرورة غصة شهدت فتية أشداء جاورا حتف الكارثة، راحوا يشدون الجثث وهم يخوضون دم البحر، بحرنا السماوي الهادئ الذي تغار منه السماء، لمدى وداعته ونقاوته، هسيسا ليس بحراً، ماء غاف، مصاب بملح وفير يدفع موجاته لتهمس لرمله المعشوق بشفيف حب يتأوه..، يا الله.. صار جبانة مهتاجة بأفئدة الناس، صار موجا يتردم بأعضاء أهالينا ويتهالك بحشرجة أصدقائنا الذين ارتطموا هناك، كانوا يحلقون كالغيم. هكذا.. بغتة دون إنذار يلهم الرئة لترتشف قليلاً من الحياة، لا لم يرتدوا سترة النجاة، لم يتدل لهم الهواء ولم تفتح مخارج الأبواب، بل انسحقوا بدم عانق المعدن الأليم في هبوط مفاجئ ذريع أفرغ الهواء من رئاتهم وعراهم تماماً من أي ثوب أو قلب ليتقصفوا بلا قبر حنون غير حضن البحر.
(4)
رثاء أهل البحرين آن الكارثة التي أشعلت الجثث لا يوصف، كل جسد حي فيها بكى قائمة استهلمت أشلاء الضحايا كلهم. لا لم نكن نبكي جثث أهل احتواهم ملح البحر ولكنا كنا نمتحن العيون لتترمد على ذكراهم.
من الصعب وأنت في البحرين أوان الكارثة.. أن تصطبر أو تسيطر على قلبك ليكون رحيما بك، كونك ترى كل أهلك وهم يفتركون التراب في المقابر حين انحدار الجنائز نحو قبور فارغة، سوف تلتئم على قطعة لحم واحدة فقط لم يشظها عنف الحديد، تستبسل بجذوة الروح لتصمد أو لتحيا أوان صراخ النسوة حين هبوب عويل التعازي التي لا تكاد تسعف امرأة هنا حتى تتهاوى امرأة هناك، وأنت تصغي لأهل الجثث الذين تعرضوا للتعرف على أرواحهم، أشلاء مرقمة، مصورة في كتيبات تحوي آلاف القطع المجزورة، مشقة داهمة ابتلتهم وهم يتفرسون في ملامح نال منها بليغ الانفجار وتفزع الدم وطعن الحديد، هكذا كانوا يتعرفون على نواهب القلب وما تبقى من الأهل، لتنتابهم بغتة هستيريا تفوق الوصف وهم يحتارون كيف سيختارون من شظايا اللحم المؤلم ما سوف يدفن في قبر يترحم.
(5)
كارثة بحر البحرين، لا تعني أطلاقا سقوط طائرة، لكنها تعني سقوط كل قلب ألتحم بدم أهل البحرين، هبوط كل نبض أصغى لقائمة الأسماء، لهجمة الجثث، تحطم كل روح راحت تستجدي الإله ليسعف بعض الأرواح.
فجيعة خلطت الحديد بالدم ولحمت الوجيف بالبحر، كيف لنا أن نحتمل أطفالاً احتلوا أغلب الطائرة، لنراهم عراة فاقدي الأعضاء، كيف لنا أن نرثي أهلاً وأصدقاء تهادروا نحو فجيعة لم تترك أثرا لنتعرف عليهم، صديقات في عهد الورد راحوا لموت يطحن العمر. منذ تلك الكارثة تحولت بحريني الصغيرة إلى مأتم واحد ومسجد واحد. توالت عليهم المواكب والموافد، كلها ترثي نسلها الفقيد، مغمورة ببكاء لم نشهد مثله، كلها تبكي ملائكة ماتوا في انفجار لم يشفق عليهم.. هكذا ماتوا دون أن يلتاذوا بعد مشقة الهواء الصعب إلا بملوحة البحر.
(6)
أرى الموت أول الكائن،
أرى الجسد ملاءة السر
أفضُّ هيبة المشهد
عند أول عتبة من عطايا الألم أحدقُ
فلا توقظ اليأس وأنت تصعد الدم
حدق في نار تطفئ هواء العالم لتراني:
أداوي ترانيم الأرامل
وأطعم المأساة خميرة السلالة.
سلاماً..
لكل قطرة دم انهدرت من سماء البحر
لكل قلب أكتوى برعدة البكاء أمام رجفة شاهد القبر
لكل شهيد أغمد جمرة الروح ليعانق حسرة الموج
لكل وردة غادرت تراب الوطن
لتنحدر في عناق موت كالمطر..
كيف ننساكم
نحن الذين لا نرى غير هذا البحر