هو شيخ الوقت “أبو يزيد البسطامي” المتصدر لمعارج الحكمة والرؤى التي لا تضاهى، في وقته حيث عمت الفتن والمهالك، وفي كل الأوقات حيث لا تزال، هو العارف المفتتتن بالمجاهدة الغنية بالوصل، كما يصف درجة العارف حين سئل عنها فقال: ليس هناك درجة بل أعلى فائدة العارف وجود معروفة. العابد يعبده بالحال والعارف الواصل يعبده في الحال، كما قال عنه ” الجنيد بن محمد”:
الناس يرتاضون في ميادينهم،
فإذا بلغوا ميدان أبي يزيد هملجوا
قول فيه الكثير من العمق في وصف حال الشيخ الذي”صارت أنملته عريضة من كثرة ما كتب” في عصر تلاونت فيه الملل والأحزاب، وقت اتصفت فيه الكتابة الملازمة للتجارب الصوفية بالبعد الفلسفي الغائر في تفنيد المعنى، المعنى بمعنى عدم المعرفة (كلية المعنى) وليس المعرفة المجانية المتعارف عليها، اجتهاد نحو البحث عن صيغة أخرى لليقين، مداولة الشك، كشف المستور، تنوير الرؤى الباطنية بالهتك الدائم، هكذا كان الحال، عندما تتحول الحياة بأكملها لأتون حي لصهر التجارب الانسانية بحمى البحث عن النور الأزلي.
كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة.
تكلموا ممزوجاً وأتكلم صرفاً.
الناس كلهم يقولون به، وأنا أقول منه.
من نظر إلى الناس بالعلم مقتهم، ومن نظر إلى الناس بالحقيقة رحمهم.
من باع نفسه كيف تكون له نفس.
العارف لا يكدره شيء، ويصفو له كل شيء.
في رؤى مكثفة، مقطرة بالصبر والصقل المنير، تبدأ الكتابة مسراها، حيث التجربة أزهى من النتيجة والطريق أبهى من الوصول، تجربة الشعر الآتي من حكمة التصوف يتباهى بقدرته على إدهاشنا في كل حين، لا نمل من معاينة تدابيره بل نتواصى على إعادة معاينته، التجربة الشعرية لا تصدر من الذاكرة الثقافية أو الاشتغال الذهني كما يحدث الآن، هي ليست رصف حروف تتشابك في مصادفات الكلمات، بل تجربة روحية عميقة، هي مبتلى الجسد المتشظي برؤى الروح، جسد مهلوك من شدة الحدوس، محنة التصاوير الذي تتوارد على شفتيه ما أن يبدأ تلاوة الأعماق.
كيف الطريق إليك
قال: دع نفسك وتعالَ.
لا يشكونَّ قلب العارف وإن قطع بالمقراض.
كن فارس القلب، راجل النفس.
أنا كل السبعة.
دق رجل الباب على أبي يزيد فقال أبو يزيد: ماذا تطلب! فقال: أبا يزيد. قال أبو يزيد: وأنا كذلك في طلب أبي يزيد منذ عشرين سنة.
إن لوائي أعظم.
البحث الحثيث في أسرار النفس هو مسلك العارف، وهذه التقانة هي التي تنير طريق اليقين والمعرفة المبشرة بالحكمة والمحبة، عندما نقرأ ما كتبوا لنا، لا نتوه في البحث عن المضامين المراد سردها لنا كما نفعل الآن مع الحديث من الشعر أو السرد، لكننا نقرأ.. بصمت الممسوس بالذهل، ثمة كشوفات أنيرت لهم غلفت الكلمات بسحر الرؤية اللامتناهية الحضور:
من تكلم في الأزل يحتاج أن يكون معه سراج الأزل.
سراج، بالفعل، يحتاج الذاهب في طريق المجاهدة الروحية للبحث عن الحقيقة الكامنة في أقاصي الروح عن سراج، ضوء الحكمة، مشكاة النور.. نور بكل ما في القلب من خبرة الروح.
في مقال كالذي نحن ببابه، من الصعب أن اكتب أكثر، من الجلي أن نصغي معاً:
المحبة هي استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك
العارف ما فرح بشيء قط، ولا خاف من شيء قط.
غلّقت الملوك أبوابها وبابك مفتوح.
العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول.
الزاهد يقول كيف أصنع، والعارف يقول كيف يصنع.
لولا اختلاف العلماء لبقيتُ متحيراً، واختلافهم رحمة.
قيل له: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟
فقال: ببطن جائع وبدن عارٍ.