شعر يلقن الوحشة درساً في الحياة


 

المحرر الثقافي: ي . أ

مجلة الشروق 8-14 -10-1992

 

للبحرين حال شعرية متفردة بين الساحات الثقافية العربية والخليجية، لغة، ورؤى، وأساليب، وجملاً شعرية.. ومن حق الساحة البحرينية أن تتفرد على هذا النحو، ومن حقها أن تطرح نصها الابداعي بالسبل المختلفة عما هو سائد أو معمم، ذلك أن البحرين هي الأسبق في التأسيس التعليمي والثقافي من بين دول الخليج بخاصة، ان لم تكن تلك الاسبقية مدونة تأريخاً وتوثيقاً حتى بين بعض الدول العربية الأخرى.

أسوق ذلك لأشير الى هناك قاعدة واثقة مفترضة لكل نتاج ابداعي يصدر من البحرين.

هناك تقاليد وقيم ابداعية راسخة أدت بالتجربة والتجريب والتوق الدائم الى الابداع الى ما يشبه التيار الابداعي البحريني بكل ما يحيط بهذا التيار من شروط الخصوصية والتفرد، وذلك لا يعني ان النتاج الادبي البحريني منغلق على نفسه أو انه نتاج يدور في محدودية جغرافية. بالعكس، فقد اتصلت الرموز البحرينية المبدعة في البحرين بمختلف الرموز والساحات العربية واثرت فيها كما تأثرت بها.

في ظلال هذه المقدمات نستقبل الشاعرة فوزية السندي في مجموعتها الشعرية الجديدة الثالثة”حنجرة الغائب”. نستقبل الشعر وهو يمجد الغياب، ويحكي سيرة الروح. الشعر وهو يروي كل أشواك العزلة، يحكي تعميد قلب الأنسان بماء العين. شيء قريب من الابتهال أو الصلوات في صوت فوزية السندي، ربما كانت طهارة الكلمات التي يشيع نورها هنا وهناك. ومن اللغة حياة.

في”حنجرة الغائب” شعر يلقن الوحشة درساً في ضرورة الاقتراب من الحياة، وفهم مكونها المحير الغامض. كل ما هو غائب يحضر، ولكن ذلك الحضور المستدعي من بعيد. كأن الشعر في هذه الحال هو استرجاع ابتهالي لعالم طاهر، ومعتق، ومفقود، لهذا السبب يمكننا الاصغاء الى أصوات، وجلية وضجيج كذلك آت من بعيد، تسبقه الكتابة وتتوسل اليه كي لا يجرف كل شيء، كي يبقى ولو على قشة واحدة في المرعى.. لو على جدار واحد لا يثقبه الدمع، ولا يتلطخ بالتعب والدم:

” تخترق الهواء الواقف وحدك

تتسكع خلفك قبائل لا تغادر رماد أسلافها البارد

تقايض الغزاة بخلاخيل تاريخها

وأقنعة راعياها

وعذراواتها المسرجات في هودج جامح

تقايض القوافل بحرية دمك

وفحم أحفادها الغائبين”

 

فوزية السندي تلوذ بالقصيدة كلها. بالمشهد كله. وسقف العالم واسع أبداً، كل شيء أمامها متسع، ومفتوح الذراعين، وشاسع، لا صورة مقربة في”حنجرة الغائب”. ولا تفاصيل، ولا ماهو يومي أو عابر، وربما يؤكد لنا ذلك خلو المجموعة من النصوص القصيرة على سبيل المثال، تلك النصوص التي تهتم بالتفاصيل الصغيرة، وتجعل من القصيدة لقطة يومية قوامها العابر اليومي.

لا يوميات في شعر فوزية السندي، وانما، هناك شرح لهذه الحال، وهكذا قد يكون في وسعنا ان نضع وشماً على “حنجرة الغائب: وهوالشرح.

شعر يشرح، ويتداعى، ويتكاثر، شعر له اشتقاقاته، وتفرعاته، وانثياله، وهذا كله، لا يصدر ، بالطبع، الا عن حنجرة غائب، جعلت منه الشاعرة حاضراً، ومتكلماً، وراوياً كان قد رأى العالم لكنه لم ير الغرفة في العالم.. كان قد رأى الحمى، ولكنه لم ير مريض الحمى.

بهذا تحاول فوزية السندي أن تدخل الحياة، أو المشهد الى القصيدة أو الى عنق القصيدة، وهنا نصل الى “عثرة” ” حنجرة الغائب” نصل الى المأخذ.. وكل شعر لا يخلو من مأخذ.

في اختصار، فان الشرح في كل شعر يؤدي بالضرورة الى خلق جملة شعرية تبدو كأنها” مقيدة”.

كيف؟

بالعودة الى قصائد “حنجرة الغائب” نجد أن قيدها هو في التكرار الظاهر لتركيب المضاف والمضاف اليه، فان المجموعة حاشدة بمثل هذه التراكسب التى تعيق”سلالة” اى شعر ان لم ترهقه اوتتعبه، لكثرة ما يتكررتركيب الاضافة لدى فوزية السندي يشك القارىء في ان الامر مقصود لبعد فني يقوم عليه النص الشعري، ولكنه عند تقليب النص على اكثر من جانب نجد ان لا قصدية من وراء استخدامات الاضافة الكثيرة في ” حنجرة الغائب” وانما يتعلق كل هذا بأمر آخر هو الايقاع.

لقد بدأت قصيدة النثر بترسيخ ايقاعها، والذي سيكون “تقليدياً” في مرحلة ما.. بل، سيكون” نمطياً”

و بوسع القارىء المدرك ان يستدل اليه بسرعة لافتة.

امر آخر نود الأشارة اليه، وهو أن تركيب المضاف والمضاف اليه يبني صورة شعرية ناجزة وسريعة، بمعنى ان هذا التركيب يخدع الشاعر، ويتسلل بكثرة الى قصيدته من دون ان يعلم، غير ان اذن القرىء تستطيع الاستدلال اله بكل بساطة لانه شديد القرب من ايقاع التفعيلة التقليدية في شعرنا العربي، ربمل كان في هذه الملاحظة بعض التنبيه الى شاعر”قصيدة النثر” بأن يكون حذراً، أولاً، وان يجعل من الكتابة شقاءه الابدي، اخيراً.

كمثال على ذلك تكرر فوزية السندي المضاف والمضاف اليه.. عشر مرات في الصفحة 26 من مجموعتها بل في معظم صفحات ” حنجرة الغائب”: صهيل السطوة، حرية الكائنات، قوارب العبيد، راحة الفجيعة، خلاخيل الجواري، مقصورة للسبي، صندل العرس، شهوة الهوادج، فيض المواكب، غبار عطاياك.