“رهينة الألم” لفوزيّة السندي أمـهــلــونــي يــا ســــادة العــشــيــرة


 

 

الكاتبة/ مي منسي

” جريدة النهار”

29 تشرين الأول 2005

 

“رهينة الألم” هو أكثر من عنوان لديوان شعري، انه الوجه الأوحد للمرأة العربية تبرزه البحرينية فوزية السندي راية منكّسة في انتظار ريح تنهض بها عالياً:

“ارتعدوا

ثمة كلام لا اقوى عليه

بدا ينسرح…

كيتيم مبهوت من شفرة الذبح”.

 

شعرها ليس تأملات في الطبيعة، وليس حواراً مع الاشجار. انه الهواء يحرك كلماتها، يهيّج ما في داخلها من وجع وتساؤلات. عجيبةٌ هي المرأة حين تكتب شعراً. لكأنها في مخاض الألم، حبلى بالحياة، تطلقها بصراخ مستتر، فيه لبس، وكتمان وتردد.

هي تروي بالشعر حياة، ، ومأساة. بالشعر تروي. والشعر هو هذه المادة الصعبة التي ترفض الاسترسال والاطالة. الشعر المكسور على شفة كاتبته، المشقق كتربة جافة، المختصر في صور تلوّنها عمداً بألوان مغبشة حتى تتماهى المعاني الحالكة وترتد المشاعر الشائكة الى داخل الذات.

جريئة لغة هذه المرأة الصلبة كشجرة هرمة، شفافة كزجاج هش، تستفز الوجود لكنها مستسلمة لسفنه. وتبقى الكلمة ممتلئة بالاعتزاز، بالحزن الذي لا يلوي حتى في اختراقه لهب النار، بالرؤية الواعية نهر الحياة الدافق من نبعه حتى مصبه وكل قشة او جذوة تعترض دربه.

جريئة هذه الكلمات المصنفة، المختارة. فكمن ينقّي الزؤان من القمح، تفكك فوزية السندي حروفها وتحوك منها نبرات صوتية خفيضة كألحان المأتم، كئيبة كدعاء الطيور في اقفاصها، كالغضب الجوّاني الذي يرشح خارج الذات مراسيل إن اتقنّا قراءتها دلّتنا الى سيرة، الى ولع ممزق، الى قدر مفكك. اسمع داخلها يغني رثائية حب:

“كيف لي

أن انازع دماً عصيا اهتلك جنازة روحي

أجابه ذخيرة حياة تستولم بي

وهي تنضج وقيد الفحم

حتى أخر جثة ادلهمت بي” (ص89).

 

الورقة التي تكتب عليها حروفها، كلماتها، هي وطن يحتويها، وعزلة تتوق اليها. هنا على هذا البياض تدعو روحها للبوح، بدون خفر، بالاسلوب الذي نستشف منه ملامحها، بريق عينيها، كآبة شفتيها، ثوبها. اسلوب صحراوي يخبىء تحت كثبانه كنوزا لا تمس، الى ان يتخم البطن الحار ويتفجر انتفاضة وتبقى ساحة معركتها الورقة الاليفة:

“هكذا كل ليل ما ان اشرع في تلقين الورق غمرات هلعي،

حتى تتأسس لي شراهة آهات ساهرة تكتويني كما الكنز”. (ص108).

والمتلقي اذن صاغية الى تلك التي عندها الكثير من امتحانات الحياة لتقوله، وفي كل كلمة سهم تصيب به ذاك المنصت باهتمام اليها. وحين تتعب الشاعرة من ترصيع ورقتها بالارتواء والجفاف، بالصحو والموت، بالليل وما بعد الليل، تترك على طاولتها وديعتها وتأوي الى سرير تظنه الراحة، وتنادي الليل:

“لا تتأخر ايها الليل أكثر

لئلا اخسر النهار ايضا”.

الألم القاسي قلمها، متين لا ينكسر. صورها ترسم بالفحم واقع حياتها، بالدم النازف من شقوق ذاكرتها، ولا تسعى اندمالاً. فمن تلك الشقوق النازفة نسغ للكتابة. ولا تخشى هذه المرأة أن تنقلب عليها الكلمات وتعاديها:

“نلني

لأعوي كذئبة تنحت البدر.”

“ندهت قتلي

قبل أن أترنح من صعق ساعديك”.

يا لها عبارات مدوية، هذه التي تتفجر في احشاء الشاعرة المولودة من الياف الميثولوجيات، المرأة المناضلة، القاتلة والمقتولة، الحبيبة والمغدورة، الثائرة والمقيّدة.

نساء ونساء في امرأة واحدة. من كثبان الصحارى هي، من صخور المرجان غلاتها، عبرتُ مساحاتها قبل ان اتهجى كلماتها. غريبة هي عن المرأة التي فيّ، تناولت بأصابعي من مذاقاتها المرة، الشائكة، اللاسعة، لأدجن طعمها، كنواة التمر، السكري كلحمه، حتى تمكنت من ازاحة الغشاء الكامن، بينها كشاعرة وبيني كقارئة. وترددت مرات في الكتابة عن الكتاب، وشعوري انه كالسراب الذي نظنه من البعيد ماء حتى يدرك القارىء ما في روح شاعرة “رهينة الألم” من مغامرات في صحار ظننتها ماء، الى ان ثارت على المرأة التي فيه، على الرجل الذي اكتملت به، على الاسف والندم والرجاء.

صوتها جارح، يمزق الورق ليعلو في المدى لا مرتعشاً، لا مرتبكاً، بل حادا كالسيف.

“امهلوني يا سادة العشيرة

لأكسو الخيمة جسدي

وأجلل صبر الوتد بعبء روحي” (ص33).

 

هذه النمرة التي تقف في وجه القدر، تبارزه، ترتد الى حال من العطف في هذا التناقض العجيب الذي يجعل منها فعلاً امرأة في نساء:

“امهلوني… قليلاً

لأتوارى بخجل حرف

يحيا حرية الهواء اكثر مني”.