رهينة الألم،حالات سردية تستسلم لأمر الفجيعة


 

جريدة الأيام

29-8-1999

 

في قصيدتها “رهينة الألم” تقترح علينا “فوزية السندي” كتابة مغايرة ذات شفافية وعمق كبيرين وحزن جاثم  يسربل الكتابة لدرجة يستقيم معها رؤية الذات كما هي في علاقتها وبوحها لأقرب مخلوق و أعز كائن.

 

والنص المنشور مؤخراً في ملحق”رؤى” يذكرنا بقصيدة “محمود درويش” الشهيرة والتي نالت استحسانا كبيراً لدى الجماهير، والتذكير المقصود هنا لا يتعلق الا بالموضوع نفسه في خطوطه العامة، رغم الفاجعه الأقوى حدة في نص “السندي” وقد سبقها إلى ذلك ابنها “وليد” في روايته.

ان رهينة الألم- الأم- يتشكل حضورها على نحو وصفي متتابع، لا نلمح فيه أي افتعال، تدفق، سيل من الأوصاف التي تسبغ على الأم، كم هائل متشظ لا يمعن الا تلمس اللحظات الشاردة، اللحظات الحرجة التي لا تغيب عن الأنظار، لكن الفؤاد لا يغفلها والقلب يحاصرها، والشعر يزيدها قوة ويقلب العملية ليحفظ نضارتها.

ففي هذه القصيدة السردية تظهر الأم الغائبة كالوردة، كثمرة، كالياسمين، كملاك، يانعه، سيدة الحكمة،رهينة الألم، واهية القلب، مليكة العطايا، وغير ذلك.

ان رواية “موزه” التي تسأل أين الجنة؟ تغدو باعثة للتأمل منذ خصال علقت بها، ومنذ مطر غدا رفيقاً إلى مشهد القطاف، إلى الروح وهي تنتزع وصولاً للسؤال السرمدي، هذه الحركات متتابعه تظهر لنا “موزه” بروحها التي تجمع الأفق بين حدقتيها وبين “موزه” التي تفقد كل شيء لتخلف ورائها ما يسد الأفق ويزيد من حنان. ف”موزه” قانعه تاركة ما يشبه الدمع ويملء الكون حناناً.

صور “موزه”-رهينة الألم- المتتابعة والمتسارعة تنقض علينا بوابل يدق شغاف القلب، فهي قد عاشت ببسالة من ينتظر الغيث الذي لم يسقط، ورحلت بصفاء من لا يملك ناصية البقاء. والنحيب الذي يشكل الحركة الأخيرة من النص له وقع الكارثة وهول الوصف في تدقيقه للحظات قلبية ماورائية.

لقد استنطقت الذات الشاعره ووظفت قبل ذلك كل ما يمكن أن يؤسس لرحله سفر زادها فيه العذاب، وأدواتها حفنة عذابات مجسدة في كلمات، وحالات ترنو الألم و تتهيأ ازاحة الفجيعة التي تحاصر الفؤاد وتمنع القلب من الاسترسال في مقاربة الأشياء وملامسة العناصر المحيطة.

فكل الكلمات والجوارح تتوجه صوب استقصاء واستدعاء كل مابقى و سيبقى لنجدة “موزه” في نهاية المطاف:

” وردة عصية على الفقد تضمد راحة الغصون

مغمورة ببسمة غياب يرث العمر

نحو سرير من تراب ؤحيم بما يكفي

ليضم جسداً بمنتهى الورد

حتى آخر الذهاب..”

 

ومن جهة أخرى وفر الإختزال السردي مفصليات سيرية لامرأة احترفت البساطة، ولازمت الحزن سنداً، واحتوت العالم حباً، عالمها الصغير بعناصره التسعه،وبفروعه الكثيره، وللفراق بدوره كانت رهينة، وفي الذاكرة بقت حبيبه، وللذاكرة أمست باعثة ملهمة محركة:

” يانعة كصبية ذات دلال لا ينتهي

مزدهاة  بعينين في سعة الأفق

محفوفة بشعر للفحم غزيراً .. كفيلاً بكسر الكتف

لها بسمةٌ لا تضاهى .. أقلها ضحكة البحر

بياض يلغي غرور الثلج

جبهة تتعالى كقمة لا تدرك كيف يراها السفح

امرأة للورد لا بفداحة العطر

بل بنداوة تلهب الأرض بصراحة المطر.”

هذه هي “موزه” إذا،ً واهبة حب، مقدمة حياة، سالبة لهما، تاركة خلفها نشيداً هائلاً من النشيج، مقطوعات ألم، عاشتها جيداً، تعرفها كثيراً، تصغي لها بينما تفضل التحديق في الفروع الكثيرة التي احتضنتهم متناسية جراحات وعذابات تقصم الظهر، لكن الظهر أبى الا أن يستقيم لكن هيهات بعد أن عانى معاناة ملازمة بين:

” رحم واحد يستبسل

وسيد واحد يستبد.”

لقد أرادت “السندي” في وصفيتها هذه أن تنصف ما غاب، وأن تقيم أنشودة توثق فيها انهيارات وانثيالات للحالة والجسد واللغة كذلك، معالجة ما ظل مكبوتاً وبقى مكتنزاً في حرقة من وجد نفسه في بقعة جرداء، لم يعد يتساقط ذلك الغيث المقوي للجذور، والجذور التي تساند الذات لتملك الأرض، لكن الأرض هرمت فضاعت فكان التعلق على غير نبراس يشع حياة فيملك.

وللقارىء العودة إلى المشاهد السابقه لواقعة الرحيل، ليقرأ حالة الاستنزاف التي حمل أعباءها الجسد اللين، وكيف تهاوت أدوات الحياة الواحد تلو أخيه، من امتطاء السرير إلى انمحاء الذاكرة، ليقرأ الألم ناصعاً واضحاً لا يأتيه الا القلق من أمامه وخلفه فلم يكن المرض بها رحيماً لكن جمال الروح كانت أقوى من كل مرض ومن كل غياب، من كل عذاب و من كل فقد.

الروح الطافحة التي عقلت الدنيا وعقلتها في صورة كيس يتقلص ويتعذب ليجود بحب غامر يكسو الجسد بريش الأمومة، وبلبوس العطف تقوض ليتلاشى شيئاً فشيئاً.

لقد وصلت “السندي” بنا في نصها الى منعطف زاخر بالصورة البسيطة التي توظف  لتصف حالات تنضم في مجملها لتفعيل الذاكرة، وللأفصاح عن حالات “موزه” في منعرجاتها الأخيرة وهي تتلون بالعذاب، وتستجدي الهدوء للتخلص من ارتال الالم وقسوة حصار المرض.

والشاعرة نجحت لحد بعيد في اسباغ هالات الحب، وفي استثمار ممكنات- بعض الممكنات السردية- لمعاينة ما يقع على فوهة القلب، لينفجر سيلاً من الحب، وأمواجاً من العذاب المؤجل والنص خير دليل على امكانات سردية و لغوية في تناسل صوري لا يعرف الا التصوير المقتصد على دفعات ومراحل.

“رهينة الألم” إذاً نص به شحذ للأدوات اللغوية، اسهمت بشكل كبير في ايصال رسالة الحزن ببلاغة لا يعوزها امعان في المداورة والتدوير لحالات الحزن، لها متطلباتها الخاصة، وكلما كان الحزن عميقاً، كلما دنى القلم ورضخ له مصغياً لما يريده، لمتطلباته، ولأمره الذي لا يرفض والذي لا يقبل مساواة، ولا يحتكم لوعي مراوغ.

ولعل هذا لنص دليل يحمل بلاغته باستناده لروح لا تشطح بقدر ما تكبلها الحالة كما اسلفت- وهذا لا يلغي تميزاً ولا يقلل من عميق تقدير.