دون أن تتحرك من حديقتها


(1)

“يقيدونني في النثر

كما كانوا يقيدونني، وأنا بعد صغيرة،

في الخزانة، رغبة في هدوئي.

“هادئة “آه لو تمكنوا أن يروا

كيف تتفاعل الأفكار في دماغي،

لكانوا يسجنون الطير لخيانته

وهم عندها يكونون حكماء

يكفيه أن يريد ذلك

ليحتقرهم على سجنه، وهو في دعة كالنجم

وليضحك منهم

وهذا شأني! “

اميلي ديكنسون

(2)

“لقد نوديت”

تلك كانت آخر كلمات كتبتها الشاعرة الأمريكية “اميلي ديكنسون” يوم موتها بالذات، في الخامس عشر من مايو 1886، لتدفن في حفل كبير، وقد حمل نعشها طلاب كلية “أمهر ست” مدينتها التي رأت النور فيها، بعد سقطتها من ظلام الرحم في عام 1830، حتى مرورها بعزلة فريدة، لا مثيل لها، أمضتها تصغي لروحها الوفية للشعر وحده حتى الموت، تحلق، وكلماتها تحفر طريقا قصيا لرؤاها، لتصل أول الحياة بآخرها، ولم تصل خطاها دربا أبعد من سور حديقتها.

“من لم يجد السماء

وهو على الأرض

لن يجدها في العلياء.”

عنها كتب “توماس هه. جونسون” عام 1955:” ارتفع لمائة عام مضت صوت قد يكون أجمل وأوضح صوت في تاريخ العبقرية الأمريكية: هو صوت شاعرة كانت تعيش في وادي “أمهر ست”، نذرت حياتها للدين والأسرة والحب، وكان لها من شعرها وصداقتها وحبها ووحدتها ما يؤكد لنا إنها لم تكن بحاجة إلى المجد: إنها اميلي ديكنسون.”

المجد

“المجد هو ذلك الشيء البراق الأسى

الذي يعني السيطرة لحظة ما

فيدفئ أسما مغموراً

لم يعرف حرارة الشمس،

لينقله بعد ذلك

برفق

نحو العدم! “

كانت كالحديقة التي تحتمي بها من شرود الوقت وشر الآخرين، كلاهما يكتشفان قدرتهما على الحياة بحب، ويترجمان ما يحتدم في متاهة الذات من شفافية قادرة على درس فنون الشقاء الذي يتعرضان له معا، هي تكتب جواها على الورق، والحديقة تبدع براعمها على الأرض، بلا اكتراث لأدنى اهتمام من أحد، لذا كانت “أميلي “ضد نشر قصائدها:

“إن نشر الأفكار يعني طرحها بالمزاد العلني “وقد طلبت من أختها، أن تتلف جميع مراسلاتها، لكنها لم تشر إلى تلف قصائدها التي لم تنشر إلا بعد موتها.

“تزاحمت الغيوم كتفا على كتف

وهبت رياح الشمال متدافعة

واهتزت الأشجار وسقطت

وانصبت الصاعقة، وقصف الرعد،

وانحدر كالأنقاض أشبه باليرابيع الهاربة

كم يكون المرء مطمئنا في حفرة القبر

حيث لا تقدر عليه غضبة الطبيعة

ولا يبلغ الثأر منه مراده.”

ببلاغة عبر “هرمان ملفيل “عن عظمة إبداع ظل حبيس البيت حتى حان موت جسده وبدء روحه في آن:

“وهكذا رأينا في الولايات المتحدة، منذ أن أصبح لديها أدب مستقل عن الأدب الإنجليزي، قد أنتجت ثلاثة من كبار الشعراء وهم: ادغار ألن بو، ويتمان، وأميلي ديكنسون التي نظرت في أعماق النفس، فكانت نتاجا للحضارة الاميركية وأتت قصائدها حاوية عصارة ما في الإنسان من معان وهي في مجموعها رسالة اعتصرتها من ذات الإنسان.”

رسالة إلى الملأ

“هذه رسالتي إلى الملأ الذي لم يكتب إلي:

أخباري هي أخبار الطبيعة، قالتها لنا بجلال وحنان

هما يدان تحتفظان بهذه الرسالة

ليس في وسعي رؤيتهما

أيها اللطفاء من الخلان

احكموا علي بحنان

رفقاً بهما.”

النقاد وحدهم، لم يتعاملوا برفق يكفي، لتلمس تجربة شعرية فريدة، لا تبتعد عن سائد الشعر الأمريكي، بل تتحداه وهي تعتمد على استقصاء الوعي، وتصعيد ذروة الحساسية الإبداعية، لكشف رهان الذات، وحدهم النقاد، لانحيازهم لدورهم الرادع ضد أي تفلت فني لا يخضع لشروطهم النقدية، لذا لم يهتموا نقديا بكتابة نشرت في نوفمبر 1890حتى عام 1924، حيث كتبوا فيما بعد بخجل لا يقل عن سماحة روحها العصية:

“الأصالة في شعرها انه بدأ حديثاً “.

كتبت “اميلي ديكنسون “عام 1862إلى الناقد “توماس ونتورث هيغنسون” تسأله عما “إذا كان في شعري روح، فلقد تجسمت فيه أفكاري، بحيث لم أعد أميز بينها وليس ثمة من يقول لي “الحقيقة “فهل تقولها لي؟”

فكتب “الحقيقة” كما يراها:

“إن أشعارها واقعية أصيلة لكنها لا تنطبق على قواعد النظم، وهي قد أرادت ذلك كي يكون في نظمها روح.”

قدرة “أميلي ديكنسون” تتبدي في طبيعة انطلاقة طاقة الروح التعبيرية، جرأة الكتابة، تحديها لقانون للنظم مقدس لا يمس يدعي حماية الشعر، كانت تزدريه، وتثق فقط بكتابة حالات الجسد، بما يتلوه عليها من غرائز للتعبير، هذه الفرادة كانت لها قبل ظهور مدرسة التصويريين بثلاثين عاما، حيث لا يكاد الآخرون يتألقون، كانت هي لاهبة وعزلة بدأت منذ عام 1862 هي وبيتها وحديقتها، مرتدية الرداء الأبيض دوما، لا تغادر الشعر إلا للعناية بأمها المريضة وبالزهور ندامى عزلتها.

“لماذا أحبك يا سيدي؟

لأن النسيم لا يسأل العشبة أن تجيبه

لماذا.. عندما يمر

لا تستطيع أن تبقى واقفة في مكانها

فالبرق لم يسأل يوما

العين ابداً

لماذا تنطبق عندما يحصل

لان البرق يعلم

إن العين لا تستطيع أن تتكلم

ولأن هناك أسبابا لا يملكها الكلام

يفضلها أناس عِذابٌ رقاق! “