(1)
أحيا في يدين تلتحمان بهيبة البياض أحفر بطيئاً. بطيئاً – كمن تغتال الهواء- عتبات طرية تغوي غنج الكلمات المختالة بعريها الضاري، مثل كواسر تقتنص بهاء البصر، لتنهار مناجم الكتابة، تفيض بحيرات الوحشة..
فأرى وأترقب كطلقة نفاذ الألم.
فوزية السندي
(2)
التحديات الكامنة أمام التجربة الإبداعية تتعدد وتتوعد بذات الكاتبة التي ما أن تقارب الورق حتى تتيقن من مدى هذا الوعيد، بالذات عندما يتقد هذا التحدي الرؤيوي والإبداعي في كل نص لنصرة الأمل الذي يعتريها: تحقق كتابة تليق بخفق القلب واحتمال الذاكرة، كتابة لا تؤجل ما اعتراها من محن تتصاعد، كل عمر يمضي ليحتويها بما تستحق من مدى قتل هذا الوريد، نثر حبر الكتابة ليتعالى وهو يشافه رهو الروح.
هذا هو الإشكال الأبلغ، الذي يستفحل لإهدار كل عنف يجاور كتابة المرأة، والذي احتدم به كل ليل يطغى بنفوذ نبال الحروف، لكونه التحدي البليغ أمام كل كتابة تحتد.
ولكن لمنحى الهجس الراهن الذي يتحدر كل الوقت، وهو يقلق النفس، مصراً على محاورة بلواه، السؤال الملازم لطبيعة الصعوبات التي تتعرض لها الكاتبة فيما يتعلق بشأن الأسرة ورعاية الأعباء، من هموم يومية وتفاصيل حياتية تتعلق بالبيت وحده، وما مدى اصطدام كل هذا بمدى مداومتها على الكتابة؟ هكذا يستغيث السؤال.. كل حوار أتعرض له.
أبدأ مداولة هذا المحور باستنهاض ذات الهجس الذي بدأت به الحديث، لأسأل: كيف لمن تتحدى النص الشعري وتسعى كل الوقت لإتقان مدى قدرتها على نحت فرادة البوح، مكاشفة المسكوت عنه، إعلان مرام الشغاف على الورق كل ألم.. أن تُهزم أمام معترك وعبء لا بد منه، وهبته أياها بداءة الحياة كل عائلة، أسأل: كيف؟
هنالك صعوبات لا بد منها، لكن.. لا يمكن لها -و لا أبالغ في هذا الشأن فيما رأيت من وقت صعب- أن تقف حائلاً أو أن تتحول لمسعى تدميري لنبض الكتابة، لكون هذا الخلل – الابتعاد عن الكتابة-لا يحدث من مداهمة التفاصيل التي تحدثها مهام العائلة ولا حتى الحياة ذاتها التي أراها تشكل أقسى التحديات التي لا يقوى عليها الجحيم ذاته، حياة صعبة تجابه الكاتبة في سعيها للشهادة على ما يهديه لها العالم من مخالب وهزائم ويأس يستبد، الخلل يتأصل عميقاً كالصدأ الفاعل على تفتيت حديد الروح، لإحداث القطيعة بين ذات الشاعرة والورق لعوامل ذاتية أخرى، لا العائلة ولا الآخر ولا الأطفال ولا العالم ولا الكون كله … قادر على وأد صوتها أو كسر حرية حنجرتها، لا. ليس هذا ما يشرخ ذاتها ويصدع انكساراتها، ويدعها لتنحاز لانكفاء يبتعد عن مهاتفة الذات، ولكن الخلل يكمن في حدوث قصور ذاتي تنصاع له: انشغال عن الكتابة للإلهاء بروح لا تشعل التحدي ولا تقوى على حتم التصدي والتصدع كل سطر، لا يعنيها النهل المعرفي، لا تديم التحدي الذى تستدعيه الموهبة على محاورة عماء الورق بذخيرة الحبر، مرتابة بانكفاء عن استنهاض رجفة تنير الحواس، روح لم تعد تأبه بما يحتل غوامض الذات ولا خوافي النفس، مصابة بجسد لم يعد يعتمل بجذوة الشعر كما تبتغي له حفاوة الذاكرة التي تكاد تذبل من وطأة النسيان وسهو الغفران عن طغاة يستهوون تدمير رهاوة الإنسان بسيل الرصاص، من غير سادة هذا اللغم، هذا العالم.
(3)
عندما تلتحم المرأة العربية بالكتابة كشرفة لتسريح المكبوت وكسر فخار الذاكرة، عليها ألا تتوهم بطريق كالبحر يحتفي بخطاها، ولكن لها – كما الموج-أن تحتد على كل صخر صعب، بما لم تتخيل مدى قسوته، لكونها
آن الكتابة تستطلع شأن الخافي من لا عدالة هذا العالم، تدين الحاصل من نبذ مجرم، تشعل الورق بما يشهد على زمان ذكوري أصم.. حتى آخر اليأس لم يتوصى بمستقبل للأمل قد تراه لها.
الأمومة واحتمال عبء العائلة، أراها التزام إنساني تجاه شغاف القلب، تتعلق بأقل القليل نحو دورها الأنثوي في هذه الحياة، حنان أزلي زهاء ينوع النبت وطلوع الورد كل طفل يتأهب لوقت قد يراه. العائلة رغم كل المصاعب التي تعتريها، تظل تجربة ليس لها أن تؤجل الكتابة أو تقصيها.. بل جمرة رغماً عن الرماد … تشحذها حتى آخر حرف كالفحم.
للطفولة نعمة لا يستهان بها، هي المعلم الأول لرهافة الخلق، تجربة الحمل والولادة ومراعاة براعم تشهق حتى تتورد، أراها المنهل الأهم لتخليق أتون الشعر، لبذخ حساسية للهتف، كل طفل احتمى بي تعلمت منه فداحة الحرف.. براءة القول، حتى وإن ارتخت الأصابع حين ينوعه بعيداً عن الكتابة، وهذا ما حدث لي طيلة وقت تحصين الرحم وإشعال الحضن لصبية فداحة الحرف مازالوا يراوغون حب الكتابة، طيلة ذاك التمهل العذب عن تدوين الشعر، لم يغادرني الوله لحنان الورق ولا خفة الحبر. لحظة واحدة، كنت أكتشف كيف يتهاطل ينوع الخلق وتبزغ الأعضاء آن الحمل وتعالي الرحم، كيف تبتهل النفس وهي تشرف على براءة رضع يحترفون يباس الخطو كل أرض تبدو رحيمة بخطاهم، ثمة شعر لا يوصف، بدا ينحت لي غمر الهواء كل طفل يحبو ويلتاذ ببسمة الهمس، زخم تجربة لا أواري الدمع الذي يتأهب كلما تذكرت نقاوة وشقاوة حلولها، لذا تيقنت من أن المبتلى برحمة البوح وملاذ الشعر لا يلهيه عنه أي شيء، حتى آخر نبض يتشبث بخلعة الروح ضد نزعة ملائكة الموت، ولي أن أبعث الشك أيضاً.
(4)
ليست العائلة وحدها من يسرف في هبوب الأعباء والتفاصيل التي تزاحم زمن الكتابة ولكنها الحياة ذاتها الأدهى بما لا يوصف، بقدرتها على بعث هجمة كل شيء، لمداهمة امرأة وحيدة توصي الوقت ليبدو رئيفاً بحروف تكاد تصل رفيف الورق، لذا للذات الشاعرة أن تتحدي قدرتها على التشبث بها وحدها، لتستحث الضيم الكامن في تاريخها، وتستدعي ذاكرة إرثها العتي المحكوم بسوط لا يراها إلا مسبية أو من ذوات الخدور، لتجابه رئيف من أصدقاء يستولي عليهم مصاب الكتابة مصير من يكتب في زمن عربي يمتاز بانهيال صدوعه، وتتالي رماحه التي تتصاهل كل هزم.
التحدي الكامن أمام كتابة المرأة العربية يتصف بتقصي رهان المخيلة، بالعزم الجليل الذي يستحث كل ما يتقد آن الحياة لدوام نهضة الكتابة، تدبير الوقت الصعب عبر مفاضلة تتم بوعي صقيل، للتخلي عن زائف الهدر الاستهلاكي المتمثل في كل ما يعمل على التغييب الفعلي لحضورها ودوام انهمار اللغو، التغاوي عن هيمنة سيادة التسليع لكل مظاهر الزيف، وكل ما يبتغي الإسراف وهدر ما لا طائل له من نفيس الوقت..
أخيراً تعريف الحياة والعائلة.. بأن ثمة هواء للكتابة لا ينبغي تخريب حريته، هنالك امرأة تحدق في ليل يتيم لتحتمل فضاء الورقة، امرأة تجفل بجسدها كله. لسقطة الحبر كل حرف يجتبي تركة العزلة ليدون معترك الجسد ورعدة الروح…
لا عذر لأحد ينتهك رهان وحدتها.. ليس لأحد أن يوقظ حلم الحرف الحاضن رؤاها، دعوها وحدها،
دعوها لتكتب ما تراه:
منذورة لمهاوي الممالك التي لا تفيق من الغدر، تقيس الوقت المفعم بطعنات الحناجر وصفعة الرئات.. ومالها غير رحم وارف يفيق على رائحة النسغ، يحبو في رعشة الدم، لتحرث وجنة المحن برفيف بكاء أخرس كلما غادرتها نصال الأحبة، كأنها الضحية تستبد في حلبة النحر ولا تيأس من فرار الأمل
لتمحو ماء المذبح كل مساء وهي تفاجئ العصافير بأحضان الريش، تداعب أغصان الضوء بوحدتها وترضع القمر بياض القلب.