(1)
آخر الليل، ترتمي نحو سرير هالك لا محالة، وهو يداري شقوة الحياة بمشقة الحلم، هائم تفتش ذاكرة الرحم وتأمل بهبوب الريش، كأنك تسرد لك جناحين ضد الموت، تبتدع ليديك كتابة حميمة تطير بك، ولا تغنيك عن لذة يعرفها الطائر وحده، لكنها على الأقل قد تحميك، وأنت تحاول النوم كل هذا الليل لئلا يصل النهار ويضج بك، تسألك ذات السؤال، الذي اعتدت عليه كل سهرة تفقد فيها عادة سقطة الجفن: لماذا أنت؟
بغتة.. تنهال عليك جنة الغيم، عزف طري يدشن رائحة النوافذ، ماء يزاحم صمت الشرفة، تصغي لسقف يهيم بعذوبة تتساقط لعناق الأرض، بعنف بالغ يهبط شلال الليل، لتسأل النوم العصي عليك: من يطرق باب الحلم؟
مأخوذاً بقلة صبرك، تغادر اللحاف، تنحذف نحو جدار يعرف كيف يحتمل النوافذ، تدير بعيداً عنك مخمل ستائر صالحة للنسيان، لتلقاه وحدك، لتراه حاضناً خوف الزجاج، ينهمر ببطء بارد، هامساً لذاتك المرغمة على مغادرة سطوة السهاد: أهلاً. لك المطر.
(2)
بقطرة تلو أخرى يفاجئ عزلتك، أينما كنت، ساهياً في شاغل البيت، مندفعاً لغربة الأرصفة، متاحاً لحبرك، وحده المطر الرحيم الذاهل الفاتن العاشق الصريع يداهم وحشة تتبدد عنك.. مذ بدا يتهاطل نحوك.
هو الماء غاسل عراء الروح من جور الوقت وجهالة العمر.
هو العارف كيف يفضح قامات الأسمنت في مدن لا ترأف بخطو ينسحل على إسفلت الطريق.
هو العذب المنبعث من بكاء البحر، كل شمس تزدهر بهبوب اللهيب، لترسل سياط من النار تأسر حرية موج مفدوح بجنون الريح، ليتصاعد بخار شفيف يؤلب حزن الملح.
من غير البحر قائد الغيم، مليك يرانا نحفل بامتحان الهطل، ما ينهض منه، ما يتساقط عليه، ما لا يتفاداه.
يرانا المطر: نمشي، مذهولين بأجساد تتعرض لجفاف الطريق وحرارة المدن، نهاتف ما يتأخر من شتاء أصم، بلا مظلات، ولا معاطف كغيرنا من أهالي العواصم الثرية به، ننتظر حدوثه الشقي، كل مساء عليم بأحوالنا، ليعطف على أهوالنا بهطوله الواهب أعمارنا شيئاً من طراوة الوقت الذاهب ضد خديعة مستقبل يجف على مهل.
لأنه المطر، طفل البحر وقتيل البرق يحكي لنا حال الموج، ضحية عشق الرمل، وحال الغيم شاهد الغدر، عادة هكذا يبدأ ليل السرد – لي على الأقل -:
لم تقصد أشعة الجحيم وهي تجر أعطافي نحو الهواء أن تنتزعني من مغبة البحر، عندما أطلقت لهيبها الناري المدوي كل نهار على جسد الماء، لكنها أرادت أن تجنبني محنة الموج، وهي تراه يقذف ذاته المثقلة بهدايا الوله من أصداف منسية وعشب مبلول ونجمة بحر مغوية لرفيقة القلب، تلك اليابسة اللاهية رفيف العشق.
ينداح البحر كل هبوب تشعله الريح نحو يابسة من الصخر لا تصغي لأحد، يابسة صعبة يحتلها قساة من الناس، يرتمون على مشارف رملها الساخن كأنهم يتلاهون عنها، أرض وعرة لا تكترث بانكسار موجات جريئة بالحب تهلك دونها، كلما حاولت وشوشة غياب الساحل بما يعتريها من مهالك الفقد.
هكذا تنكسر موجاته، دون التفات لصمت الرمل، بخجل تنحسر بعيداً تاركة خلف حسرتها، عتاب يتعثر بخطى مريديه.
(3)
أرادت الشمس نهضة الأمل، لترانا نتصاعد نحو قطيع الغيم الهائل، شيئاً فشيئاً نفقد ملوحة التعب والأسر، نودع غفلة بحر يترامى في ملكوت السر بعيداً عنا، نسمو نحو سماء ترحب بنا كطيور من ماء، نحلق حتى يحتضن السحاب ما تجلى منا، لنغيب كأسراب حب في مهب لا آخر له.
كنا غيوماً، نبتهل لمنتهى الأزل.. حتى أنهدر الرعد بغتة، وقصفتنا كهرباء البروق، هكذا بعنف لا مبرر له؟
لم نكن نعلم أن في العالم حقداً إلى هذا الحد، كدنا نهيم في فضاء شاسع لم نختر وصاله، لم نفعل غير ذلك!
فجأة، كالقيامة انتفض الملاذ على آخره، انتثرت أوصال السحب، لننهال لأسفل حقود، لنهب لسع لم نعرف منه غير عواصف تصفع السماء من كل صوب، لنسأل ونحن نصطدم بعبء الأرصفة: لماذا أخذونا من جموح البحر، ليرسلونا ثانية لجحيم الأرض؟
(4)
أوان المطر، كل قطرة منا:
داوت جراحاً ترسم سهاد الجسد.
دارت جفافاً صارماً يكبل العشب كل مساء أخرس.
صارحت بيوتاً من الآجر مثقلة بقرميد للوحشة يصطف.
رأينا ونحن نحتضر:
أشجارا تهزهز الغصون لتنهل من عذابنا العذب.
أطفالا يتصايحون وهم يتراكضون كلما شاغبنا هلع طفولة لا ترتد.
ورداً يرتوينا.
عشاقاً يدفعون الزفير لحنو زجاج يغمر الضباب، كلما انحدرنا رأفة بقلوب كادت تتخلع.
جذوراً ترتشف نداوة التراب ولا تيأس.
ثماراً تتحلى بلمعة الندى، وهي تنهل انهيارنا السخي.
صحراء وحيدة تحتمي بحدة الصخور وعرد النبات، تبتهل إذ ترانا.
كل شيء يسكنه اليباس، كان يترقب انحدارنا.
أن تنهض من ملوحة لا تراك، لتحلق نحو هواء ليس لك، لتحيا قليلاً وتموت واهباً حياة أخرى لكل شيء، هو ما نهفو إليه.
كلما طاشت حموة الشمس، وأنتهك الرعد بسيوف البرق رحم عزلتنا كنا نسأل: لماذا يفعلون هكذا بطفولة تشبه الماء، لماذا علينا أن ننهار.. قطرة.. قطرة حتى آخر الماء؟
(5)
حتى المطر لم يغفل عنه أحد، وأنت كغيرك من رفقة الحلم، من أصحاب الحياة، لا تنام كلما هطل الليل وحده، تترقب طرقة الماء كل نافذة تنبئ عنه، ساهراً.. تقرأ درس المطر، لتتقن غاية هذا الإبداع.. كل هذا العطاء الذي رغماً عن كل ألم.. يأتلق وحيداً.. زاخراً بالهبات..
ولئلا تنساك، تسأل مثله:
لماذا يفعلون هكذا وكل ذلك بك؟