درس الطبيعة


(1)

أًقبلُ يدي،
أقدُ لي ذراعين من عظم التناهي
وأدير أقداح العوادي.

قبل أن تزهر أصابعي،
تفرعت روحي بضلالي
قبل أن أستبشر بملامح العماء العليم،
تنضدت أعطافي بشراهة زمني
جاورت لجة ليل لا يصغ
للفجر عريف الحفل،
تناويت تكسير المعضل
أعرفُ،
قلمي: خشبة خلاصي المثقلة بغوامض أقداري
طاولتي: رعونة عذابي البارد المستتب
أعرفُ،
ليس لي،
غير أكتاف مجرجرة وأعناق مدماة من شدة النيل.
هل أعرف؟

اغمرني أيها العشب الهاطل بنواهي عطوفك
لأرتضي ما يمنحني الدوام الرحيم،
ولا تذلني بحنوك،
ولا تضعفوني بحبكم،
أيها الأدلاء البكم
ما عدتُ بعد،
من طواف النجباء الراتقين جروف المنحنى
بوفير المفر الصعب،
ولا من حرير الرنين الدامغ أعلى الرأس.
أجيروني بحلولكم
لأجير مقتبل هذا العناق القليل.

(2)

للطبيعة قدرة لا تحد، حكمة لا تطال، لكننا للأسف الذريع لا نتمهل امامها، بل نغترف منها أقل الصفات بما تيسر للبصر، كل عناصر الكوكب تتوافد نحونا بمشيئة الخلق، بصمت عارم تتأمل ضجيجنا ولا تسأل، بل تمهلنا الوقت لعلنا نرى ما يرانا ننشغل عنه.

الغبارُ حكمةُ الصحراء
به تداوي غرورَ تلالٍ تتصاعد.

الصحراء وحدها تهب وعر فنونها بصمت ولا تدين الجفاف، بل تتباهى به، حينما يحتمي منه نبت الصبار بأذرعه المهيبة وشوكه النافذ بصلادة صبره على ندرة المطر، حينما ترتمي الرمال كحقول من فضة الألق على مدى النظر صانعة سرابها الرحيم، تكتسح الصحراء هيبتها من صمتها المباح لكل ساكنيها وصبرها الواجم على وعر تشتهيه كائناتها العزل، نهب صقور تكسر أقاصي المدى، خفر نياق ضالة ترتوي أمل السراب.

هنا الصمت هو سيد عزلة الخلق.

تورق الحدائق وتبذل الغابات روعتها، حيث تتعالى موسيقى الخلق، ثمة غناء شفيف ترفل به العصافير في غيبوبة العناق، ذاك الرنيم الذي يعتصر الصدوغ نحوها، أصداء نحيب وعويل تبذله كائنات الغابات آن الخطر، وما عدا ذلك.. سكينة تصوغها أقدار الزرع، يبللها انهيار الغيم برذاذ المطر، ويرنمها الشلال بانحدار عذاب الماء نحو بسالة صعب أن يحتويها الكلام.

نتأمل مفردات الطبيعة وهي تعزف رتم تحولها ببطء رهيف، كمن يرقب نهراً تلهو فيه أسماك صغيرة ملونة تتقاطع ومرونة الماء بزعانفها بين الأعشاب وخبايا المرجان، كمن يتعرف على اوركسترا مزودة بسادة الوتر، تنفرد بتصاعد هارمونيا لحنية تبالغ في حيائها.

 

بقدر ما تأسر الطبيعة الناس، بقدر ما يتغافلون عن تعاليمها، ثقة منهم بمدى العماء، غرور يستحوذ على يقين الوهم، كلما ترهلوا أكثر بمكتشفات معدنية تسخر لهم الصعب، كلما التحفوا ببيوت تحوطهم بقسوة الإسمنت، استقوا عنيف القيم التي نراها تتناسل وتحاصر جموح أحفادهم، ثمة حديد يتصاعد من حولهم بمعزل عن حضور الأخضر الطاغي، ورواج البحر، وسحر جنيات الورد.. بعيداً عن حنان الحب وعطف اليد.

(3)

عندما تتعثر في الطريق بحجر ما، ما عليك إلا أن ترفعه وتراه، لتتعلم من انحناءاته ونتوءاته الصلدة وترف الرمل المتحدر منه، تتعلم ما يجمع كل هذه التضادات في حجر مهمل، استطاع أن يضلل خطوك لتتعثر به وتسأل.

الطبيعة شاعرة تنتضي منصة الحقل وتقرأ شهوة الأخضر، لندرك ما تحتويه من الزهور النبيلة التي ما أن تنشق عن غصونها حتى تسمو. لتسهو عنا..

رفقاً بنا، تتألق بعطر فريد يحرض المساء لينتشي على سهاوة العشب، قرب بحيرة طاغية بأزرق الدفق، لترانا ملتفين بهواء بارد، وحدنا نرسو على همس يرتشف الأفق العليم بحال أرواحنا، نلملم أوقاتنا الشقية، لنشهد على بلاغة غيم لا ينسانا، ثمة مطر رحيم ينهال بغتة ليغسل جفوة لا تطاق..

عندما ينهمل المطر
ليجازي صبر نافذتي
أكسر أسيجة قلبي
لعناق قتل لا يستوي لسواي.

أمهلوني سحابة أخيرة لأباغت الرعد
لأكأد كالمطر،
أباري صعقة الذات
كل هطولٍ أفيض به وجداً.