دجلة والفرات وبدر شاكر السياب


(1)

“آهٍ على بلدي.. عراقي: أثمر الدم في الحقول

حسكاً.. وخلَّف جرحه التتري ندباً في ثراه

يا للقبور.. كأن عاليها غدا سفلا، وغار في الظلام

مثل البذور.. تنام في ظلمِ الثمر ولا تفيق.

جثث هنا.. ودم هناك..

سقف يقرْمدُهُ النجيع..

و في الزوايا.. صفر عظام من الحنايا”.

(2)

“حدق الشاعر المفجوع، لاح له

نعش عليه اصفرار النور منكسر

تلطخت بالدم القاني جوانبه

ولم تزل قطرات منه تنحدر”

تحت المطر، الشوارع خالية من الخطى، ينتحب الصديق الشاعر علي السبتي قادماً من الكويت، مترنحاً من الفقد، حاملاً جثمان بدر.. نحو البصرة، تحت أنشودة المطر الأخيرة، كانا معاً، يبحثان عن قبر حنون له، وحين وصلا إلى بيته لم يجدا أحداً هناك، لأن الأمن السري أخرج عائلته عن دارها في ذلك اليوم، لنصغي لنبوءة تفتت الكبد: “يتمهل لا يقرع الباب: من ذا يؤوب/.. من سراديب الموت عبر الظلام”.

دفن جثمان بدر في مقبرة الحسن البصري، ولم يحضر جنازته إلا عدد قليل من الأصدقاء، واليوم كما اعتدنا كل شاعر عربي بعد الموت، يقف لبدر تمثال شامخ في البصرة وشاهد على مرارة القتل.

مرايا تاريخنا العربي، تعرضنا كل شاعر، لحياة حافلة بالقسر والقيد، تدلنا عليها جذوة الكتابة، وخطى كلمات انحفرت في الصخر لئلا يمحوها الصد، كتابة ترشدنا لإرث إبداعي يعاود الحدوث بعنف مأساوي، حتى يكاد الماضي يبدو أكثر وضوحاً من عتمة حاضر تلغي وميض المستقبل، ثمة إرباك هائل ويأس لا يغادر.. يتخللنا، نحن الممهورين بشهادة الشعر، منذ سجع الجاهلية حتى سيادة الجهل.

(3)

“أرأيت قافلة الضياع؟ أما رأيت النازحين؟

الحاملين على الكواهل من مجاعات السنين/آثام كل الخاطئين.. / النازفين بلا دماء/السائرين إلى الوراء/ كي يدفنوا هابيل، وهو على الصليب ركام طين!”.

طيلة “صوت” تغاويت كثيراً عن الكتابة عن “بدر”، بصراحة لم أقوى على الكتابة عن شاعر يترجم ألم جسده ومحنة شعره في آن، شاعر فريد في إدغام الدم والحبر معاً، لكنه.. كما الوحي راح يستحث الحرف نحوي، وأنا أتغاضى عن حدوثه كلما ارتأيت تأجيل نزف جسدي وإهدار روحي، ثمة صعوبة بالغة في مقاربة بوح السياب، لا لكونه رفيق ذاكرتي، ولكن لفداحة الحدس الذي تعتمل به موهبته الفذة، كتابة لا تسرد لك ماضي العراق فحسب بل تفيض بك حد البكاء، وأنت تقرأ ما يحتدم من مشاهد شعرية، رأيتها – بالدمع – قبل قليل من الوقت على شاشة فضائية لم تكترث بنفضة أحداقك:

“فذكرني بماض من حياتي كله ألم: طفولتي الشقية، والصبي، وشبابي المفجوع/ تضطرم مشاعري البريئة فيه: كيف يجوع آلاف من الأطفال ملتفة بآلاف الخروق/ تعربد الريح الشتائية بها / وأظل أحلم بالهوى، والشط والقمر؟”

لقد أسهب السياب في تحرير كلمات لجسد جاهر بكل ما سوف يتحدر نحو شعب العراق وقتلاه، حدس جنائزي، أتاح لنا محاذاة رؤى شعرية، ترى بوضوح ما سوف يصول من ألم وحصار وأنين لشعب أعزل إلا من الهواء، ولأرض مجبولة بحكم الحديد منذ خلافة الأرض: “أنا أيها الطاغوت مقتحم الرتاج على الغيوب/ أنا قارئ الدم لا تراه.. /وأنت. أنت المستبيح” “أبصرت يومك وهو يأزف.. /هذه سحب الغروب”.

(4)

بالرغم من الريادة الإبداعية التي ساقتها تجربة السياب، إلا أن ما تعرض له من عنف لا يطاق، اكتمل بانتصاره على الموت، بانتحاره البطيء، بموته وحيداً في الكويت وهو يهمس للدمع: “أنا ميت مازال يحتضر الحياة/ يا ليل.. أين هو العراق”.

من رهافة روحه نال كل الشعر ليحتمل جسارة تاريخ بدأ منذ اليتم، حين فارقته روح الرحم “كريمة”: “هي وجه أمي في الظلام/وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام” التي كان طفلاً يناديها كل ليل، لتصله كلمات أقلها الصعب:” ستعود بعد غد”، داهى الحياة بجرأة صوته، لتتالى عليه النوازل، لازمته الزنازين ليغدو ضيفاً شبه دائم على سجون العراق منذ 1948-1959، فارت به المنافي حتى أستبد به داء دمر ما تبقى منه:” كذاك انكفأت أعضُّ الوساد/ وأسلمت للمشرط القارس/ قفاي المدمى بلا حارس- بغير اختياري، طبيبي أراد! -”، “يكاد يحس التماع الحراب/ وحزاتها فيه.. يا للعذاب!!”،” ويمضي بالأسى عامان، ثم يهدني الداء.. / تلقفني الأسرة بين مستشفى ومستشفى/ ويعلكني الحديد/ ومن دمي ملأ الأطباء قناني، وزعوني في قناني: تصبغ الصيف دمائي والشتاء”. لقد أتقن حصار المشافي التي استعصت على براء جسد لم يعد يحتمل الحياة:” كان جسمه يضمر ويضمر. القروح تأكل ظهره وحين جربوا معه العلاج الطبيعي، كسرت عظمة الساق لهشاشتها، لذوبان الكلس في العظم.” ليتذكر السياب.. ساحلاً يأسه كل حرف له:

“آه، يصك أسنانه الجوعى ويرنو مهدداً. يا إلهي ليت أن الحياة كانت فناء/ قبل هذا الفناء، هذي النهاية، / ليت هذا الختام كان ابتداء.”

(5)

“وعدت إلى بلادي. يا لنقالات إسعاف حملن جنازتي!!

متمدداً فيها أئن رأيت” غيلانا” /يحدق، بانتظاري، في السماء وغيمها السَّافي. /وما هو غير أسبوعين ممتلئين أحزانا/و يفجأني النذير بأن أعواماً من الحرمان والفاقة/ترصد بي هنا،

في غابة الخوذ الحديدية.”

24-12-64 – في الكويت: الشاعر قد مات بذات الرئة: بذات الحسرة بعيداً عن “بويب” ماء جيكور، بعيداً عن الحرف بهزال يضعف الأبصار، بجفوة منفى أذاب الحنين كله، ميت ومنبث نحو فقد أهلك الأهل، جزع أرجف قلب “غيداء” و“آلاء” ووطن الحب” وفيقة”، جسد وحيد ليموت طغى بآه لقلب العراق:

“كم من ليلة ظلماء – كالرحم- انتظرنا في دجاها/نتلمس الدم في جوانبها، ونعصر من قواها.. /شعّ الوميض على رتاج سمائها مفتاح نار/حتى حسبنا أن باب الصبح يُفرج، ثم غار

وغادر الحرس الحدود/ واختص رعد في مقابر صمتها.. بعد القفار/ثم اضمحل إلى غبار بين أحذية الجنود..”.

انتحر ببطء لئلا نقول كان يحتضر، فالفرق عميق بين حياة تأتمر لغدر الموت، وموت جسد يتحدى الحياة:

“أعلى من اليباب يهدر رغوه ومن الضجيج/ صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى عراق/ كالمد يصعد كالسحابة، كالدموع إلى العيون والريح تصرخ بي عراق/ البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون، والبحر دونك يا عراق”.

 

كم من المحن يأويها تاريخنا العربي، وهو يبدع في التنكيل بمؤصلي ذاكرته الإبداعية، بدءاً من أول شاعر جاهلي بكى واستبكى، من غير أمرؤ القيس “فيالك يا ليل كأن نجومه بكل مغار الفتل شدت بيذبل” حتى آخر شاعر طالته رماح اليأس.

بدر شاكر السياب، ذاكرة اتقدت لتشعل كتابة انضمت لسلالة تهب الروح ولا تتنازل عن حرية الجسد.

سيرة السياب داومت تسائل عراقاً يغتلي بشفير المهج، رغماً عن الموت تاه بالصوت، ما على واستعلى على قمم العذاب، تجربة نحت حبرها على ورق شاغر آنذاك من جرأة شاعر يوصي الحراب ألا توغل في الطعن، والنوائب ألا تتمادى تنكيلاً بمصاب الناس، لكن المجازر تعالت وتمادت ما أحتمل الشاهد آنذاك، حتى طوح بارود العسكر بوطن بابل وعراقة آشور ولم تجئ عشتار.. لتر كل هذا الدمار: “بعد أن سمَّرُوني.. وألقيتُ عيني نحو المدينة: / كدت لا أعرف السهل، والسور، والمقبرة: كان شيء مدى ما ترى العين.. كالغابة المزهرة.. / كان في كل مرمى – صليب وأم حزينة.. /قدِّس الربُّ هذا مخاض مدينة”. جابه بدر كل ما هنالك، من جيكور حتى القبر في بوح حر، عليم بحال ألم اعتري ليل العراق، مصاب اغتال عينيه من عنف الرؤى. كما باح لنا:

“إذن ها هو الشاعر العربي، يتخطى بدوره زمن العافية والانسجام، ينوء تحت عبء الزمن الرهيب، يشرع في تمزيق أقنعة المنطق والمتعارف عليه، يطمح لأن يثقب جدران المعقول، يسمر عينيه على وجه الواقع العاري، ليبصر بالخطايا، وهي تطبق على العالم كإخطبوط هائل.. فتفترس الرؤيا عينيه”.

(6)

بدر شاكر السياب حرية لها المجد، هكذا أتاح للخليج نبوءة تحققت وأذهلت الدهر:” جلس الغريب/يسرح البصر المحّير في الخليج/ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج.”

هكذا. أباح للعراق موته النبيل:

“متُ.. كي يؤكل الخبز باسمي، لكي يزرعوني مع الموسم،

كم حياة سأحيا.. ففي كل حفرة. صرتُ مستقبلاً.. صرتُ بذرة

صرتُ جيلاً من الناس.. في كل قلب دمي

قطرة منه أو بعض قطره..”