أقبلُ..
محملة بتفاصيل صغيرة
تشعرني بالألفة:
منضدة واسعة، غيمة بيضاء
حروف كثيرة ملونة
وأنا
منفلتة كقارب صيد في ليلة مقمرة.
(1)
هيامي بالكتابة لا يوصف، تدلهي نحو الحبر لا يشبه أي شيء، حتى الحياة ذاتها، كأني أحيا لأكتب ما يرجف في خفايا الروح من رعدة الحرف، أحيا لأقرأ ما يقترب من الخفق من رفيف أصدقاء القلب، منذ طفولة هائمة في ملاذ الخيال، مذ بدأت بصعوبة تجعل الجسد يرجف وهو يحاول أن يتهجى إنحناءات الحروف.. صرت مفتونة بكل حرف يلتحم بآخر ليصنع لي كلمة قادرة على إرضاء تعبي الشاق، منذ طفولة مضت سريعاً لا أتذكرني إلا وأنا ملتحفة بدفء اللحاف، منزوية نحو أقرب جدار حنون، منعزلة تماماً عن ضجيج العائلة وأحاديثهم التي لم تسترعي اهتمامي قط، هكذا كنت ألتذ بعزلتي التي تشبه لمعان الشمعة الوحيدة التي كنت أخفيها تحت سريري لئلا أتلقى تأنيب الكبار حول خطورة وميضها آخر الليل، أبتعد عنهم منكبة على تصفح وريقات صفراء تطوي في بسالتها كل الكلام، منذ الصغر كنت شغوفة إلى أبعد حد بما تطويه هذه الكتب، أراها كأنها الآن، مصطفة على رفوف مكتبة مغبرة، كلها تعدني بقرائتها ذات مساء، المكتبة العامة لم تكن قريبة من بيت العائلة، لكنها كانت على مرمى حصاة في مخيلة تتوق للاندياح نحو رفيف ورقها الرهيف، ما أن أدلف سور مدرسة تحتمي بها المكتبة وأتهالك نحو بوابة كبيرة جداً علي، حتى تنهال أمام عيني الصغيرتين ألوف الكتب.. لأبتهج وأنهال مذهولة لاندفاع قلق يتصاعد يدعني أتشظى وأنا أسأل النفس فيما سوف أختار؟
(2)
للكتابة.. طقس قدسي، لم أجرؤ على محاذة تقواه، كلما احتدمت صدوغي بمبتغاه، كنت أتغاوى عن ذلك الانهيار، كأني أسألني آنذاك: ماذا سوف تكتبين أمام مواهب ألهبت ليلك كله؟ كيف ستتجرئين على انتهاك هذا البياض الجليل؟ لذا كنت ألغي حبري الفقير، وأنتظر كتاباً آخر يلهم ضيق الروح.
حتى إدلهم ذاك المساء الكثيف، ذاك الأزرق الذي غمرني بحريق الدمع وهو يرتشف مبتغى جمراته من حافة أحداقي، حينها تناولت القلم ودسسته بين أحضان أصابعي.. أسرعت بخفق القلب لأول ورقة بيضاء ورحت أنزع عن جسدي كل بلوى ذاك البكاء حرفاً حرفاً.
عند أول الكتابة انهال صمت حزين، لم يره غيري، تداريت بخجله ورحت لأول السرير، مغشيا على من هلع لم يرأف بي، لأحاول النوم الصعب بادعاء اغماء فاشل لعله يحميني من عثراتي المخجلة وعندما استدام سهادي رحت أحتوي يباس قلمي مرة أخرى، لأستريح نحو نفسي، لأقاوم خوفي.. لأستطيع على الأقل أن أسرج سر الحبر لأول أخت لي، أمينة ومن غيرها تلك الحنونة التي علمتني كيف أرى المساء وأنصت لليل، كيف أمشي بصمت وأرقب النجوم وهي تلهث نحو ضوء ينتحر، أمينة الوردة التي لن أنسى ولن أكف عن تذكر طفولتي دونها، أمرأه تحتوي القلب بل تحتضن الكون كله.
كنت منزوية نحو جدار من صخر ناتئ، استند عليه لأخط الحرف، فاقتربت لتقرأ ما كتبت لتهمس نحو حواسي المرتعدة: “هذا شعر مؤلم”، لم أصدق ما قالته، حتى أنكفأت لوقت طويل أرعى فيه حبري وأشحذ دربة أصابعي في عزلة بدت ممهورة لي.. وحدي.
(3)
جالسة على كرسي أبكم، مصابة بغدر الوقت أترقب نصيحة العلم، أنظر لكلام طبيب مختص يحاول أن يغادر شفتيه، وما أن يراني له حتى يختم بتوقيع مؤلم آخر الهواء نحو شغافي، كأنه يقول بصراحة أكاديمية لا ترأف بشأن الروح: دامت عينيك تحت معالجة العقاقير، أنصحك بالابتعاد عن إجهاد الكتابة والقراءة. حينها ابتسمت، كأني أسأله: دونهما ماذا على أن أفعل؟ وأنا منذ الطفولة حتى الآن لم أفعل سواهما.
لم أكن أحيا إلا لأقرأ هدايا حبر الأصدقاء، من يتلون آخر الروح تجاه الورق، من يسرفون في آه الألم، لم أكن أمضي الليل إلا لتدوين ما فعل النهار الجاهل المرير بي، لا أنام حتى يرتاح الرأس من مكابدات إدلهمت على قمم صدوغه، لا يغيب جسدي إلا على بهو سرير يطلق عنان هتفي نحو سحر الحلم أو راحة الحبر؟!
كيف لي أن أمضي الوقت دون صديق القلب” صوت” ذاك اللحوح الذي طيلة الوقت يقترح على كلامه الجدير به، كيف لي أن أبتعد عن جهازي الفاتن وأنا أحفر عليه كل سطر حروفي، كيف لي ألا أكاتب الصديقات والأصدقاء أمام ضوء الورق أو مهارة البريد الإلكتروني، كيف لي ألا أرى كل هذا الهواء؟
بعينين منهكتين، حاولت أن أتعلم فن العماء، على الأقل لأقوى عليه. الفشل كان حليفي الأول كل مرة حاولت فيها الكتابة دون ضوء عيني، قلت لي: اقرئي الحياة بعيداً عن الورق، طبيبك العالم لم ينهيك عن قراءة الحياة كل نظر عليل، فبدأت التوغل في أبهى كتاب، يا له، بدأت بزرقة البحر، كان محمولاً على موج وفير ومهتاجاً يكسر الصخر ويدمي الرمل، رأيت الشمس خجلي من عنفوانه المرير، تغمر رونقها الدامي في سدة حكمه الأزلي، تنتحر عميقاً رأفة بغدره، لينتفض البدر خجولاً يفضض فتنته وهو ينحدر لحلكة زرقاء داكنة أقرب لرماد الليل.
عندما عدت للبيت، قرأت فتوى الباب وهو يفشي لي سر الأحذية التي واكبت عتباته الخجولة، استدرجت صمت الجدران لتبوح لي بسهو الآجر، لهوت بسر الستائر التي تحد من تهور زجاج النوافذ، بدأت أترجم ضحك أطفالي وهم يتعاركون في لهو ينجيهم من عبث الصبا الذي بدا يقترب، لأشهد تشبثهم العنيد بصخب براءة تكتظ ضد مراهقة مرهقة، صرت أمشي في منحدرات بيتي لأقرأ كل شيء خارج الورق البعيد الذي منعوه عني، فاكتشفت أن رحى المخيلة لا تكف عن وميض الثأر ولا عن لمعان الخلق الذي يكاتب كل شيء.
لأنام أبدأ الكتابة، بجفنين مغمضين تماماً، أكتب على وريقات الظلام، تنعتق روحي نحو صفحات بدت تنعس، لتنسكب الحروف كلها، غصباً عني ينحدر نهر الشعر بعذب كثيف لم أعتده، أخاف عليه من المحو، فأفتح جفني وأنسرح نحو ورقة قريبة لأدون مبتغاه بسر يبالغ في الفضح، صعب وأنت لا تحيا بسواك أن تبتر عنك يديك، ألا ترى غير ظلك يتسع ويتسع ولا يراك.
وحيد في هذا العالم من يفتديك.. غيرك من؟!