(1)
أصعب من الطريق
خطوي الكفيف.
بلادي رملة لا يراها المحيط
ولكن إذ تزدهي بمجد الحرف
يتعوذ العالم من رعدة تعتري آخر البحر.
دون هتف حرير دمي
أكاد كالغيمة أجف
دون هتك بروق حبري
أكاد لا أكون.
(2)
دوماً.. كنت أرى الشعر بطبيعته الحنونة والرهيفة ملاذاً رحيماً لكريستال الروح، تلك الغفلى التي تداهم كل هذا الوقت الراهن بخدوش وانتهاكات، لا تتريث في نزوعها نحو تدمير شفافية الذات، كلما شفت النفس أكثر، كلما تصدعت بقسوة تشتد، وهي تشهد تصاعد عنف يغالي في إلغاء الحياة وتدمير بهاء كائنات لا ترجو من الكون غير شهقة الهواء.
تتتالى مشاهدات العنف، بحتم عسير على النفس، صعب على الذات التي تقارب بياض الورق كل فقد يسري، روح محمومة تلتهي بجموح الحبر لتعبر عن غدر مبتلاها كل ليل.
أي ملاذ مليك قادر أن يحتويها في ظلام الأسر، غير جرأة حرف يشعل عصف الشرفة ولا يرى غير جناح الشعر؟
من يصغي لعذابات أحداق تتأسى بعزاء الدمع.. غيره من؟!
لذا أسميته ذات شعر: توأم الأم، لكونه الوحيد الذي يجرؤ ويليق به أن يستعير منها رائحة الحنان، دفء المهد، كل حضن رحيم يغمر فيه جفاف الجسد بعطر الطفولة، بالذات عندما تتهدم الذاكرة بفقد الأم ذاتها، الشعر ملاذ الروح، كما الغيمة ملاذ المطر، ملاذ يغري الحبر بمداومة هطوله أكثر، رأفة بجسد لا يحيا بسوى ملاذ يحميه. لا هلاك يلغيه.
(3)
حين الكتابة، امهل اللغة رئيف الوقت، ليتسنى لها بأن تبوح بما أتأسى به، لا يعتريني أي ملمح آخر يهتم بتقنيات أو مهارات ما، غير ما ينبعث بصدفة بالغة، لا أقلق حين الكتابة بما يتبدى نحوي من تقنيات، لا وقت لدي -حينها- لحيرة تبدد هتفي إطلاقاً، أو تثير الشك نحو فعل الإضافة التي سيضيفها هذا النص لتجربة الكتابة لدي، لكوني أعتمل بعنف لأنتحل ذاك الوميض الساهم بسجدة الليل…، غائمة بما ينتاب حال الروح، منهالة لنحت آخر: يعول على نقد الألم، يشعل بهجة تهيل القلب كله، للقلب سخاوة يعتاد عليها الحب وقساوة لا تكتمل إلا به، متاه رجفة تتحول فيها اللغة ليد تحنو، لغة تغاور برد البلاغة لتكتوي بجمرة الحب، كل ما يهتويني حين الكتابة هو تحدي قدرة الروح على تحقيق رعدة الطاقة التعبيرية التي تحتلني، ترجمة جنوحها على الورق، دون أي إلتفات لشكل التقنية البلاغية والإيقاعية.
تتحقق الكتابة كتصدير للمحن، من قدرة البصر على التحديق وتأمل خوافي الذات، وأنا أحدق فيما مضى، يتراءي لي أفق النص، ثمة حالات شعرية تهيم برؤى النصوص التي تتحول لأصابع تضم الروح، تتناهى الحروف لتشهد على فضاء يتحول فيه الشعر لمتاه للقلب في تقصفه الجسور.
احتمالات عديدة تأتي تلبية لإعتمال الذات الحاضرة بتلك الأخرى، الغائبة، الغائرة في حنايا الخافية، خفوت يؤرقني وحين يتخفى.. أنتظر حتى يبوح لي عن غيابها، بصوت يعلو قليلاً.. قليلاً.. بصراحة تهيل حنجرتي.
(4)
“ فيما أحسه أو أحسبه الشعر” لقد شكل هذا النص محاولة لإكتشاف ماهية الشعر، رجفة همسه، مس جوانية عذوبته، لمعرفة مدى تماس الذات به، حصل هذا القلق لدي، لحلوله الدائم كل نص، بشكل يبتغي تحريضي للكتابة عنه، تعريفه، لي أولاً ومن ثم للآخر، ثمة غيرة تحققت لديه كنص -و هو العارف أحوالي- كل كتابة أحاول فيها مقاربة شغاف أخرى تصطلي بوهدي، كان يتملى حضوره بإلحاح غريب، كأنه لا يريد لأصابعي أن تكتب عن سواه، لذا – لأتلو مبتغاه – بدأت الكتابة عنه ولم أنته بعد، كما أشرت في آخر النص، جاء لي هبوب مريب، ضمن تعريفات متشظية.. هكذا:
“حمى، بلاغ غامض، تهويدة تغتال ذاكرة مشحونة أكثر مما ينبغي، انزياح كلي عن غفلة الجسد، ترويح للحواس، مجاهدة للنفس، طاقة للخوف، فروغ الروح، صلة بتاريخ يتحدى المجد، طريقة لتعريف الجسد وتعريضه في آن، كالهواء حر لا مرد له، مارق إلى أبعد صعلوك، عار من القبيلة، حلول نوراني يبعث للأصابع دهشتها الأولى، غرق لا يليه الموت، نوبة الورق، مناب الألم، ما لا أحيا دونه، غالب الأسر، مدار السماحة، ما لا أقدر عليه دوني، دفين الذات، تراب القبر: من يواسي روحاً للهلكة ويضم جسدا للفزعة من بعده، القاسي حين لا يصل، كاره المجد، الآمر وحده، ما لا براء منه، المستفحل وحده، غريم الصعب، موهبة الهول، موت مؤجل، غيبوبة ترخي الماحول وتوقظ الماوراء، صبر الثواكل كل يوم يأتي دونه، بأس اليتامى كلما مضى لساحة النشر، مرام العاشقة من بهجة القلب، كيد اليد، عزوف الأوصياء، نفضة الورق أمام اندفاع القلم، قدرة البكاء على نسج أمثولة له، المصير العظيم لمأوى السرد دون تفصيل، جسر بين الكون وجسد الأخرس، كل شيء، فتوة اللغة، فتك الصريح، صديق الدم، ضد كل سلاح يضيء عنف الحياة، الخالب أناي، ما لا أنساه، آمر ساعدي الذلول، راعي جثتي آن الغسل والماء يبكي، حامل النعش المصاب بي، خليلي في خلوة القبر، نفوذ اللامرئي وحصول المعارف، نمرة المخيلة، النابذ جسدي حين أعزف عنه والناده مبتغاي حين أعزف عني، نجل النهايات العاق، وصيف الكبرياء، النبيل غاية الرفعة، هديل العمر، تورية الموت. لم أنته بعد.”
هذا المقطع يشكل تمثيلاً قليلاً عن هذا النص الشعري الطويل جدا، الذي حاولت من خلاله إيراد تعريفات شعرية للشعر، أو بالأحرى تجسيد حروفي لغوره أو تشبيه صوري جمالي لطبيعة إحساسي وتماسي به، إيراد عناوين تجاربي الشعرية ضمن هذا النص، لا علاقة لها، ببيان شعري أو ما شابه ذلك.. ولكن لاحتمالها أيضاً على تعريف يقترب من هتف قلبي تجاه الشعر: هو “آخر المهب”، “ملاذ الروح”، “حنجرة الغائب”، “إستفاقات “، وهو صاحب محنة السؤال الذي داوم هلعي كل كتابة: “هل أرى ما حولي هل أصف ما حدث”..
في هذا النص هنالك صدى لصوت يحاول مشافهة سمو الشعر، عبر محاورة ما يتصف به من سحر قد يجلو أسره.
دائما يتوق الشعر لأن يتحقق بفرادة لا تشبه شيئاً، بمعنى أن يدون حضوره عبر ذات تحترف اشتغاله برغبة ساحقة على التمرد والتفرد.. رهان لا يشبه أي رهان آخر، يجلوه المبدع وحده.. كل ليل له وحده، يعتاد فيه على إعادة صياغة هدايا الحياة بداخله – كل التجربة الإنسانية والحضارية بمعناها الكوني-ليصل إلى بلورة جنته وبذل حلمه ومشافهة الأمل الذي لاح له بمتعة طاغية، وهو يعتني بمزاولة مذاق الشعر، هذا الحلم أراه طريقاً صعباً..
لكن لابد للقدم من أن تحترف وعورة خطوه..
لا بد للأصابع وهي تكتب من دحرجة خطاها على برد بياضه، أن تصل أو لا تصل.. ليس مهماً، دامت تحاول أو تسعى للتعرف على غريب غوايته، وتتذوق ببهجة الغارق:
أول الطريق إلى غيبوبة موجه.. إلى لا منتهى عذبه..
(5)
وحدي كل خضم أليم
أحرض إنتحاري
العصي على غفلة البشر
والسخي على حنجرة تحترف حتم نزفه.
يا قادة الحديد
يا المعتمرين صهوة الضد
لنصاب معاً بمجد الرصاص
أفشيكم طلقة. طلقة.
من ينسى جرأة حديد
استفرد كل قيد بعظام طرية
تتذكر وطناً لا يبرح؟!
(6)
امرأة تنام في الكون وتفتش عنه.
أفتش عن كل شيء، فالكتابة محرض عظيم لدهشة الذات التي تتداول أليم الحياة كل نهار لتجلوه حرفاً، حرفاً كل ليل، للكتابة مسٌّ، يكتسح النفس، يغريها لتقرأ مقترحات الكائنات الإبداعية الأخرى، تراقب ما يحدث لها وما ينقض عليها، وهي تجترح نرد الخسارات، تتلهى ببسمة تهب الحب هنا كوميض يضيء أمل القلب هناك، كل هذه المهاوي لا بد لها أن تستثير جموح الأسئلة كل كتابة يورق فيها البياض.. ذلك بفعل تصاعد حمى البحث ومحاورة الذات كل حبر لا يرى إلاي.
لكوني امرأة ولهذا الإشكال دلالة مضنية، امرأة وتحيا في زمن عربي بامتياز الهزائم المثخن بها، لأنام في هذا الكون الذي أرعى فيه يأس المستقبل، وأحيا حاضراً يبالغ في قسوته البليغة – بالذات حين القتل والتدمير كل حرب، تجفل فيها حتى الجثث من هول ما تلاقي من بطش، في هكذا مكان وزمان.. لا بد لي أن أفتش عنه.. لأكتب ضد من يعمل على تحييد القاتل فيه، يهادن شفرة السكين، لأدين من يفسد نقاوة الحياة، من يكسر أمل اليأس، لذا لزاماً على أن أفتش عن كل شيء يقتحم بقبح زناده، طراوة ذاكرتي وهواء ذات لي.. أشتغل نحو غموض هائل، لا يفسر لي: لِم ما يحدث لي؟!
(7)
لدغة الحبر.
للإبداع لغة، لها نفوذ انتقام مهيب لا يوازيه أي شيء آخر، بمثل عنفوانه وقدرته على اختراق جبروت عصا التواريخ، اندفاع كالرمح.. هكذا. للمثول أمام كل العصور، كشاهد حي، يسرد ما حدث ويتقصى ما سوف يحدث، شاهد يستمد طاقة التعبير، ما أسميها كهرباء الفضح.. من جسد وحيد، تماهى بقدرة الحياة على الخلق، منذ أول المهد حتى آخر القبر، لغة تشبه سلاح القتيل، هي الوحيدة القادرة على مجابهة كل ألم استبسل ضد ذاكرة الدم، الإبداع في شتى أشكاله المتقنة، يتحول، يتقد بقدرة لا تجارى ولا تبارى للدفاع عن إنسانية الناس والذات معاً، هذا ما أتوق إليه كل شعر، أن أتقن كتابة كلمات تحتوي تعب قلبي وتحتمي بنبض دمي، كلمات تقوى على مكاشفة الآخر ومحاكمة العالم على ما يبديه نحونا من قسوة لا مبرر لتصاعد دخانها هكذا ولا لإشهار أشلاء عراياها هكذا أيضاً، كلمات ضد ما ينحز من حزن نحوي، بالذات عند كل انتهاك لا يرأف بي، بل يتمادى كثيراً في الإسراف بهتك حرية روحي، كما كتبت ذات حبر:
أينما طعنوا حافة حلم لي
طغوا بفأس ليس لي
ارتعت، لأتقن لدغة الحبر.
أما كيف هو ذاك الحلم وما مستوياته، تراكماته، طبقاته؟
فلا أعرف منه، غير احتداد حلم الكتابة كل ليل، غير مشارفة ذاك الحلم الأكمل المشمول بكل شيء، حلم يدعني أكتب ممهورة بيراعة الحرف ودم الحبر وشرفة تتسع كثيراً.. لبوح حرية ريش يؤرق جسدي، لأعلو.. وحدي.. كأنني متاحة لهبوب ريح تحرض هواء الورق.. ليعلو نحوي.
(8)
للقلب ولِما تبقى من الليل..
هذه الكلمات شكلت طبيعة الإهداء في كتابي “ملاذ الروح”، حينها، كنت أسألني: لماذا؟!
بعدها أدركت، كيف يستوي الليل لي، بمعزل عن صوت العالم، بمعنى خفوت الوقت والضوء عني، حيث لا مليكة إلاي ولا سلطة علي، غير بوح نفوذ وحيد يستحق كل هذا الظلام الساحر، من غيره ما يواريني ويتمرأي بي؟ من غير جمرة الشعر أو مهب الحلم أو شهقة الحب؟!
دوماً كنت أتوق لكتابة ترحم سهو الليل، لترجمة تحترف ما يعتريني من شقاء بعد كل نهار أضناني، بضوءه الساطع، ذاك الساطي الذي بالكاد انحدر بعيداً عني، أهوى كتابة الليل.. ربما لسيادة الهدوء التام، غواية الغموض المتفحم، المتلمس هبوب الظلام، حتى حين ألوذ كسيرة بصمت يستولي على ولا أكتب شيئاً.. أحيا.. لأنحت فداحة الهواء بما يستبيني منه، أسهر ليل الشعر ممتنة لهديل شمعة تتكفل بي، مستهامة برفيقها الخجول، أرى ليلاً.. لا يكفي.
(9)
الشعر تجربة نحياها وهي تشافه خفايا النفس، بدربة تتلقاها قدرة المخيلة كل كتابة، ذهل موهبة تتحقق، ثمة فعالية خاصة تنتقل بحرية بين ضيق الوعي وفضاء اللاوعي، لتكشف لنا، ما يحدث هناك في غوامض يجلوها الشعر عبر طاقة الكشف التي تتصاعد لتمس أعتى مجاهيل الدماغ، هنا يجلو لنا النص الشعري بذاته عن مدى تصدع ذواتنا أو إندغامها معه، تختلف هذه المسألة من شاعر لآخر ومن نص لآخر أيضاً.. لكون حدوث هذا التجلي الشعري خاضع لمدى حساسية التجربة الشعرية والحياتية، أحياناً يستوي للشاعر شيئاً آخر غير ذلك، كما لاح لي ذات كتابة، عندما بدأت الكتابة بذاكرة كائن آخر اغتليت بخرسه، كالحجر مثلاٍ أو الحب أو البحر أو الجمر، لا أعرف أيني تلك اللحظة وأنا أتمثل تفاصيل ينوء بها هذا الآخر الذي يفعمني بصمته وهو يرسل لي كل هذا الونين الذي يدلل على روحه العصية. أيضاً ثمة منازعة تستولي على النص ذاته، أكتشف معها فعالية التصدع التي تثخن روح الشعر، كمثل دوي الحياة المتصاعد الذي يشظى بذات الشعر ويعتري بمهاوي
الألم.
للكتابة تهمة؟ هكذا بحتُ:
للكتابة تهمة لا يجلو همها غير سعاة اليأس
بجدارة القتلى آن الحرب
بهول الجثث كل قبر واحد.
كتبت هذه الكلمات في استشراف لمدى المسؤولية التي يتقدم نحوها من يكتب، من سعاة اليأس، من محترفي فضح التواطئات التي تؤرق مستقبل الأمل، حينها تغدو الكتابة المحتملة جرأة الفضح: تهمة!! لكونها تمثل خروجاً على حديد القيد الذي يدرز حدود الدرب لمستقبل الأحفاد، تستوي خطيئة تلك الخروجيات الرؤيوية والإبداعية لكل من يكتب الشعر، سواء كان رجلا أو امرأة، تبعاً لمدى حضور نصه الإبداعي وقدرته على تعرية المسكوت عنه.
فيما يتعلق بكتابة المرأة، هنالك خصوصية يتقنها واقع الاستلاب الإنساني الذي تحياه المرأة /الأنثى كل نبذ، كل إرث ثقيل يعتني بأثقال الغبن الذي تنوء به، هذا التمييز الجنساني يضاعف من تهمة الشعر ويحولها لجريمة لا لمعصية، بل جريرة لا تغتفر، لكونها تحولت من مكانة الصمت، من سكون البيت حتى فسيح الصوت، تحولت لتهديد خطير قد يقوض سلام الصمت الراهن المتسيد عبر إلغاء حضورها المخرب، لذا يتعرض صوتها لمساءلة لا تغفر لها حرية القول وبذل الكلمات، بالذات تلك الكلمات التي تدين كبح التاريخ الذكوري لها، وتشير بأصابع تمتد وتحتد كما النصل لقساة يدمرون هواء حرياتها، هذا العسف تجاه كتابة المرأة في راهننا العربي ساهم في تمويه وإلغاء احتمالية الآخرين من عموم هذا الشعب لاحترام صوتها والإصغاء بحرية لبلاغة جرأتها الشعرية، حدث هذا الجرم، كمحاولة لاتقاء ما في هذا الشعر من قدرة على مواجهة التفكير والقسر الذكوري واستكناه الخافي من مشاعر الكبت والنفي والوأد الذي رافق تاريخها، يشتد النفي حين بلوغها إعلان حرية الحب، لذا تتكالب التهم، تتعالى المقاصل، وما تفشى في آخر هذا الأوان، وتبذل في الصحافة الثقافية العربية من مصطلح مشين، مستخف، استشرى في مصطلح “الأدب النسائي” ليس إلا معولاً صدئاً يراهن على إقصاء كتابة المرأة وتحويلها نحو قيد الهامش، المغبر، مرة أخرى.
(10)
الشعر حصاري الوحيد الشاسع.