(1)
1999
من أين يستمد النهب قواه ليستشري أكثر؟، كيف له أن يتغلغل في كل مرافق الاقتصاد، ليحوله بقدرة مستغليه لمهب استهلاكي بشع، لا يشبع من ركام السلع التي تتهاطل نحونا، بل يعمل على تدوير عوائدها بامتياز، وتسويق بريقها، لارتشاف آخر قطرة نقد من قلب المستهلك، الغافل، المطمور بزيف هبات التمدن الذي يعتقد بنشوتها الباذخة؟
كيف لهذا العنف النقدي أن يحول العالم لحصالة واحدة، تستولي على جيوب تذرف الدراهم نحو مصارف المتنفذ، والساعي لتخريب تاريخ من يستأهل بجهله كل هذا الدمار؟! نفوذ يستبد، عبر طمس أسواقنا وناسنا وفلذات أرواحنا، أحفادنا، جيل المستقبل بالكماليات والمستحضرات المبالغ في ترويجها، والأدهى ما يترتب على ذلك من تشويه لثقافتنا العربية، حتى تتلاءم وبنية غير منتجة، بل مبتلاة بشعارات تنموية مؤجلة!!
نهب شرس لا يكترث إلا بهوى التدمير، وهو يخرب حاضر الإبداع ليؤسس لثقافة الاستهلاك، نهب لا يجد من يتحداه ويقاوم نفوذه الشرس، لذلك يستنسر أكثر.
(2
لا يغفل الناظر لمشهد الثقافة العربية وبالتحديد ما يتلاطم منها في عواصم الخليج، عن مدى استبدادية النهج الاستهلاكي، الذي مهدت له، ورعته أرضية اقتصادية، استطاعت أن توائم بين طفيلية الشركات المتعالية الأذرع، اللامنتجة، اللاهفة لخضرة النقد، وبين إستشراس إخطبوط إعلامي مدمر، بدا يغزو بمجساته الألف، كل الحصون الثقافية والحضارية للمنطقة العربية حتى أهلك – أغلب – ما تبقى لنا من شرفات إبداعية كنا نتباهى بمنعتها وازدهار عطاياها.
هذه الكتابة ليست يأساً، بل أملاً يستدرج أسئلة اليأس، هي قراءة تتيح لنا شيئاً من صراحة المكاشفة، هي درباً ينحاز لأقل الأمل.
ثمة خطورة فعلية تشكلها سيادة السوق وطغيان الاستهلاك، على قيم وحضارة الشعوب، هي حرب دون أدنى شك، مموهة بلغات رجال المال والأعمال، وأحياناً دعاة الثقافة، حرب لفعلها التدميري وللخراب الذي عم ولا يزال، لمرأى أنقاض الحلم وخرائب الأمل.. ناهيك عن هول حاضر يكتظ بجثث تمشي نحو مستقبل لا تراه.
لقد تمادت هجمة الاستهلاك بتخريبها العميق للوعي الإنساني، عندما تجاوزت حد دفع الناس نحو مغريات السلع وتكديس البضائع، لتبدأ في تخريب الذات وتحوير المبادئ والمشاعر لتكون قابلة للاستهلاك، حتى الإبداع شرفتنا الوحيدة، تعرض لاغتيال منظم يسعى لتحويله لثقافة للاستهلاك.
لا أسمي ما يذبح عمرنا الحضاري “ظاهرة” لكونها اختلال حضاري، هزم يومي، تخريب متقن لإبداع الطبيعة وفكر الإنسان، مبتغاها إلغاء المنجز الإبداعي بكل تجلياته وتاريخه المشرف، طمس مواضيه، لجم حرية كلماته المراهنة على صرخة صوتها الإبداعي، وسط كل هذا الدخان، أسمي ما يحدث انقضاض تام للخسارات، خلقه فعل الكبت والنبذ، الذي طال بأعمارنا، بما آل إليه من سطوة تتقصد مجابهة حنجرة الصوت المتفرد، المبتعد عن ضجيج صاجات انتهازية تلتهب، وهي تجز جرأة الحرف وتحز حرية الجسد، كل هذه الموانع سعت لصد صوت المثقف والمبدع المندغم بصيت تاريخه، الحريص على الدفاع عن ذاكرته، ليرى ما يتهدم من حلم كان له، وحيداً يجاور حرية الورق، منتزعاً بسالة الحبر لمحاورة روحه، وحدها كمفر أخير.. لماذا ما يحدث لنا؟ هل لنا أن نسأل على الأقل؟
عنف النفط:
كيف أسهم نبع النفط كعنصر بالغ الأهمية لتنمية الكائن المعاصر، رعاية حضارته، تدشين عمرانه، في فعل تشويه وتدمير الحلم، عن أية نهضة نتحدث ونحن أمام هذا المصاب لا نقوى على غصة الهواء لا الحديث عن حرية الشهيق.. وحدها حرقة الزفير أمر متاح ومشروع ضمن مشاريع استنهاض الواقع الثقافي الذي وقع فعلاً.
عندما نبدأ بضخ النفط لنبث الطاقة لبرد الغرب، مقابل فيض النقد الذي أنهال على المنطقة بالرغم من تقافز أسعاره، عندما يغزو الزيت عواصم العالم الباردة بشروط أشد تعسفاً من خسارته في باطن الأرض، حتماً ستتحول كارثية هذه العلاقة الغير متكافئة إلى مصدر تدميري، ينشب بين شعوب تستورد وتنتج وشعوب تصدر نفطها وتستهلك حتى النخاع، كل هذا ضمن معطيات علاقة أخرى مختلة أيضا بين الحكم ومحكومية، بالذات حال انعدام صوت المؤسسات المدنية، وقنوات التواصل الحر لتمثيل صريح الرأي، هذه السمة تستمتع برفاهية كبحها كل شعوب العرب، من لا يتمتعون بحق واحد يجيز لهم مساءلة ما يحدث.
أمام ميزان مختل كهذا، لابد لموهبة إلهاء الشعوب أن تتفنن في تنويع مصادرها، تلك التي يجيد تأطيرها كل دهاة نهب الأموال، ليعم هذا المبتغى لابد أيضا من إثراء أقنيته، ليصل بطشها لكل ملامح الوطن الرافل بشعوب لا تنشغل بتشغيل الحواس ولا السؤال، ولضمان بقاء النهب سارياً لنزف بئر الذهب الأسود بشروط أقسى، لابد لمنافذ القول إن تغلق أو تموه، لتكف عن فعل إرسال حرية الصوت.
هكذا يلعب النفط بمردوده الاستهلاكي دوراً عنيفاً في صحراء كانت ترفل قديماً بكل تاريخ الإبداع العربي، لقد مهدت فداحة “الانفتاح” الاقتصادي الاستهلاكي القادم من وفير النفط أيضاً، لدورها المتميز في تهديم الجسر- على الرغم مما تبقى منه – بين الماضي المبدع والحاضر المرعب في أغلب عواصم العرب، التي كانت تشكل شرفات ثقافية بامتياز، لاحتدام حركة ثقافية تدعمها جمهرة لا من المثقفين فحسب، لكن من جموع الناس التي كانت تقرأ فيما مضى، وتحاور، وتكترث بكل كتاب يصدر، باندفاع كانت تسعى لتتصدر المناشط الثقافية، هذا بالفعل، ما تم تدميره، وتجفيفه من حول ندرة من المبدعين، التي لم تزل وفية لذاكراتها وانشغالها بمنجز جمراتها وتاريخها، رفقة يتوزعون على يباس ما ينهزم من هذا الوطن العربي الممتد من الهجس إلى اليأس.
(3)
ضمن معطيات كالتي ذهبت إليها، تنتوي هذه الكتابة أن تترصد شأن عائد النفط بمردوده الاستهلاكي وكيف أعمل حفاراته الألف، لزحزحة كل برعم أراد أن يتشبث بخصب الأرض ليفضح ما يراه، ليسأل: كيف انهدرت سيول الاستهلاك لغمر حرية الهواء، حدودنا الأبدية؟، كيف طغى حمى الاستنزاف ليشمل كل شيء؟، كيف انهمرت علينا صحافة نسائية أعادت المرأة لمستقبل البيت،و لطنجرة لا ترى فيها غير طهي مالذ وطاب؟، كيف تم تحضيرها وطمسها بالمستحضرات على أبهي زينة لإلغاء عقلها وتاريخها؟، كيف ابتلينا باستهلاك مخيف، استهلاك يعمل علي تشويه المشاعر الإنسانية، تدمير كل ما يتصل بالعائلة والطفولة والقيم والعواطف وكرامة القلب؟
سوف نتقصى كل هذه التحولات لنصل لردم الثقافة، وهنا يتجلى الخطر الشامل، عندما يتم تدمير ذاكرة الشعوب، ليتعرض أتون روحها للزوال ولا يتبق منه إلا رماد يبتر.
للبدء باشتغال يحاور كل هذه التحولات، نتعرف على منشأ أول الشرور: وأد الحرية.
لقد تحققت الحرية من حصيلة دفوعات حضارية تصدت لها شعوب الأرض، احتراب طويل مجلل بكل منشأ معرفي، حضارة الآخر- سمه الغرب أو ما شئت- المتعرش على جلالة الفعل الحضاري المبدع، أستطاع أن ينتزع حرية جسده وحصن روحه، انتزاعا لا يختلف عليه أحد، ليؤسس لحضور قانوني للمواطنية وقداسة الانتماء، حرص واحترام تصاعد مسئولا عما يحدث لهم، كل هذه الحرية جاءت لتتوج قهراً دام قروناً من العمر، تصدت له الشعوب في دفاع أصطرع بدم تعرش على أشلاء أسلافهم، وهم يحتدمون في ساحات تدفع صرخة الجموع وقبضاتهم عاليا، غير عابئة بمقاصل كانت تشيد على الساحات وتشتد على صلافة رقابهم، يشكل غياب الحرية معادل موضوعي لانتهاب الشرور والجرائم والملمات كلها، كونها المحامي الأول عن براءة البشر، يكفينا أنها لغة الأصل، ثغاء الطفل وقد ولدته أمه حراً.
(4)
لتحيا في عالم استهلاكي، لابد أن تكون فيه مذبوح الحنجرة؟، صامت على الدوام، تخاف خارج البيت، تلتاذ بالحلم والحرف: حريتك الوحيدة، علك تنسى أنك كنت هناك، تجهل كوابيس الليل وتهاب نهب النهار، الحبر نارك الوحيدة ضد كل هذا الظلام، تراك كائناً مكبوت العضل، مهصور القلب، لا تعرف إلى أين أو متى وكيف؟!
إنسان مؤجل الأحلام، مقصي عن فعلك الحضاري، لغرض تعمير هذا الكوكب بمكتشفاتك لابد أن تكون كائنا حراً.. لذا لنا أن نرى ماذا فعلت بنا هجمة الاستهلاك مع غياب ذلك؟!
في هوى التدمير
في عنف الاستهلاك
(4)
كلما أنثنى غصن
عرفت أن جيشاً من الرصاص
قد أضاء الحقل.
(5)
ليستبد الاستهلاك ويطوح بسلعه ومنتوجاته الرغيدة أمام أعيننا، لا بد له أن يكتسح عقولنا قبل ذلك، يمسح معارفها ويخل بموازينها الفكرية ويشوه ما تخلق من وعي فطري ومكتسب في آن. ليس لهذا الإخطبوط الناهب حاضرنا أن يتعرش ويستفحل دون أن يبعث مجساته الألف، لتتغلغل وتنخر في كل معطيات وقتنا الراهن، لنشهد على ما نراه:
1- إعلام متواطئ ومبتغى الاستهلاك، يغمرنا وأطفالنا ونحن في بيوتنا بما يبثه من وهم، لغو ينفذ من شاشة العرض التي لا تؤخر كل إسفاف فني وتوليفات منوعة لتلهية الوقت بما تصطخب به، من هواتف لا تتوقف عن الرنين، لتبلغ عن مدى إعجابها بمقدمة البرنامج، كذلك كل ما تصدع به الغرب من مسلسلات مدبلجه وأفلام عنف وكوارث تعمل على تصعيد عدوانية بالغة في طفولة صاعدة، طفولة تراها فجأة تتبنى غرائز وحشية، وهي تساند ذلك المصارع المزمجر الحامل كرسيه الحديدي ضد الآخر المتسلح بمنشار كهربائي.
لقد تحول التلفزيون إلى شاشة لترويج الجهل وبث الرعب، بالذات عندما هلت الفضائيات التي أضحت تروج لأشرطة دموية، كل هذا في غياب كلي محتوم، لأي عرض يحترم أو بالأحرى. لا يدمر روح المشاهد، إعلام فضائي لايعمل على عرض الفعاليات الحضارية التي تحتضنها البلاد، أمسية موسيقية، شعرية، مسرحية قديرة بهذا الفن لا ملهى يقام على المنصة، لقاء فكري أو حتى ترفيهي لائق، عروض المهرجانات السينمائية والمسرحية التي يتم متابعة أحداثها دون أن نتمكن من مشاهدة إبداعاتها، أسطع دليل على التغييب الذي ينتهجه هذا الجهاز، ابتعاده في الآونة الأخيرة عن نقل كل الندوات، المحاورات التي ادلهمت في الأندية وهي تطارح قضايا الشأن العام، في حين تتابع البيوت ما يطلبه المستهلكون.
2- لقد أصطدم الجيل الجديد وهو يواجه الحياة العربية، تحديداً، بقوى اقتصادية تسعى لتهميش الجانب الفكري الجاد وهي تدعوه للاستغراق في المتع الهزلية بكافة تلاوينها، لست ضد تداول هذه الألعاب، لكني ضد سطوتها على العقول بشكل مطلق، الألعاب الإلكترونية تشحذ طاقة العنف في صالات مغلقة ومهيأة للضجيج كله، تحفز الصبي ليغدق النقود وهو يستخدم كل قواه العضلية والذهنية لغاية القتل، القتل ولا شيء سواه، يمضي الساعات وهو يقتل بمكر الكتروني كل ما يظهر أمامه، هكذا يقف-جيل المستقبل- مستنفر الحواس، ينمي مهارات التدمير لديه، ليخرج من الصالة منشيا بعدد قتلاه.
هذا الجيل اليانع أندك أمام قوى لا يشغلها غير مؤشر الربحية، بمهارة اشتغلت على انعدام حصانته الثقافية والفكرية، وهي ترعاه منذ الطفولة على العنف وتنحرف به بعيدا عن أي كتاب أو معرفة، عدا الواهي من التلقين المدرسي المهلك والمكرس لكراهية الكتاب والتعلم، تلقين يعيد إحياء البائد من العلم والمكرس المقيت من الشعر.. مع تهميش بقية الفنون التي تخضع لفتاوى منوعة، أقلها من تحرم الموسيقى والرياضة، الجرم المعاصر تحقق في إغراق هذا الجيل ببدائل عنيفة لتفريغ الطاقة، بدلا من تنميتها بهدف الاستفادة منها لتنوير طاقة العقول، ما يحدث هو خلق تفريغ حقيقي لطاقة فكرية كان لنا أن نتوسم فيها حضوراً إنسانيا على الأقل.
3-أسوأ البدائل الإعلامية الإعلانية المسماة ثقافية بمنظور الحاضر الأصم، هي المجلات التي ازدهرت بتقسيم جنساني، حيث يصدر منها للشباب مجلات رياضية وشبابية وفنية، وللنساء مجلات نسائية مكتنزة بإعلانات لا تخجل.
فتيان في ورد العمر ينهضون لخلق جيل آت، صبية وصبايا يؤسسون جمرات المستقبل، نخش عليهم من مهب تجاري لا يرحم ولا يرأف بضفائر تمنح الأمل، نخاف عليهم ونحن نراهم يتعرضون لكل “مجلة تصدر قريبا” لتتاجر بحرية العقول الطرية وهي تدعي صيانة تراث حواء وإرث آدم، فتية يتصفحون ما يخرب ويضلل الوعي من هيجان استهلاكي لترويج حمى إعلانية لاستضافة بشرة في نقاء العذوبة لطمسها بالمستحضرات وتحويل نضارة في مقتبل العمر لأقنعة مصبوغة بالسموم.
ما تحدثه هذه المجلات بعمومها الغالب هو تشويه للعقل وإلغاء للإرادة، عبر نصائح لا تر في الشباب غير مناخ مهيأ للإثارة عبر ترويج سذاجة وسطحية الأفكار، لتخدير العقل، لا تر في المرأة العربية غير طنجرة لتجهيز الطعام، غير جسد منزوع الروح مكرس لجلوة السرير وكرنفال العطور.
كل نهار تصدر مجلة نسائية أو شبابية لجني المال ولتسويق المنتجات دون الاكتراث بما يتحقق من عنف يخدش ملائكة ترفل بأجنحة الوطن، وليتم ترويجها لا تنس أن تعري الغلاف بفتاة الغلاف، الهدف الوحيد لترويج المجلة عبر تحويل النساء إلى واجهات تثير الجيوب لتغدق على ما تثيره الشهوات.
في الستينات وما تلاها – قبل هجمة الاستهلاك وتفشي الجهل- كانت الأجيال العربية تتعاطى الثقافة من أصولها الحريصة على تأسيس ذاكرة ثقافية وإنسانية طموحة بما يكفي لرصد الواقع وتجديد مآلات الوعي وأيضاً النهوض بعبء الحياة. كانت تستمد من تلك التجارب الفكرية جدلها النقدي والفلسفي، تأملها الإبداعي المحتكم لاجتهادات مفكرين وأدباء لم يكفوا يوماً عن إرسال رؤاهم المحتدمة لنهم المطابع، لذا أكتسب من عاصر تلك النهضة الثقافية المندفعة بما يمور به الواقع السياسي والفكري آنذاك، اكتسبوا حصانة معرفية غير قابلة لغزو ثقافة الاستهلاك بمجلاته الإعلانية المتهافتة.
ولكن هذا الجيل المعروض لسيادة التجهيل وقبضة الاستهلاك.. كيف له أن ينجو؟!
كيف له أن يحترس من طغيان السوق، عسل السلع، وكل هذ الحصار الإعلامي الإعلاني الساعي لإفراغ الصبية من شهامة الذات وتحويلهم للإلتهاء بلهو قبضات تؤصل العنف، تحويل النساء إلى دمى لا تقل بهاء عن “باربي” نموذج المرأة العربية المعاصرة.
يغتالني الأسى وأنا أرى أحفاد رجال استنهضوا الماضي ينحرفون نحو غياب مؤجل، حفيدات نسوة أشعلن التاريخ يترنحن بخواء بالغ هنا وهناك، نسل فاطمة بنت مر، الخنساء، ليلى الأخيلية. خالدة بنت هاشم، زينب بنت الحسين، فدوى طوقان، وأخريات لا يقلن فصاحة وبلاغة وشعرا وكفاحية حياتية، نسوة أرخن لتراثنا والعربي ما أضاء الوقت كله، يستبد بي الأسى وأنا أرى ما أراه الآن.
أطلت في هذا المنحى لكونه يؤسس لتاريخ الخراب، لما سوف يتعاقب من نخر فعلي، عندما يشب هذا الجيل ليرعى مستقبل الأحفاد، لأسأل:
لماذا الآن نكسو صغارنا بزيف وعي يتصدع؟، لماذا نلهيهم بقوارير العطور ومستحضرات لتحضير العقل لحالة محو تام؟ لماذا كل الهم والهجس يتحول لزي هنا وقلادة هناك، ألا يخجلون وهم يسهمون في تخريب جيل بأكمله من الرجال والنساء: معا وبقلب واحد يخلقون حياة المستقبل!
قليلا من الحب لهذه الحياة..
قليلا من الرفق بأفق يؤرخ لتاريخنا.. يا ليتنا نراه!
في هوى التدمير
(6)
فلا تعجبوا فالحّر يشجيه أن يرى
مكانته-من غلظة الدهر- للعبد
ترفعت إلا عن فعال زكية
تبرهن عن فضلي وتنطق عن مجدي
وأوقفت أشعاري على نصح أمتي
ولم أتبذل في مقال ولا قصد
فكان جزائي أن أكون كما أرى
أحاول غرس الزهر في الصخر الصلد
“عبد الرحمن بن قاسم المعاودة”
(7)
تخريب الحصن الأخير: الثقافة هي طريق السؤال، الوعي مرآته الصقيلة والحرف رايته. ليعم رخاء الاستهلاك ولتتعاظم شرور النهب لابد من تعميم العماء، إخراس الصوت، تهديم ذاكرة الإبداع، أهم الحصون الحضارية لهذه الشعوب.
إن ما نشهده من انحسار لفعل الثقافة وتكريس لغايات التجهيل هو نتاج حتمي، لبنية اقتصادية استهلاكية، تفرز مقوماتها الاجتماعية والفكرية على الدوام، لتتوازى ومآلاتها الاستهلاكية، التي لم تكتف بما أحدثته وتحدثه من تشويه، بل صارت تتقصد كل ما يقاوم نهجها الخطير أي تستهدف حرية الإبداع: ذاكرة الوطن.
إن نظرة بانورامية لكل إحداثيات الثقافة وأوجه نهوضها، تحيلنا بالضرورة، لنصطدم بهذا المصير المؤسف الذي آلت إليه حركة الثقافة، بعد كل ذلك التاريخ الزاخر بالعطاء والحفر المعرفي لتأسيس فتوحات فكرية وإبداعية جلية بحداثة الراهن.
عندما تمادت سياسة التجهيل بإلهاء الناس بكل ما هو خارج عن تهجي الحروف، انحسرت بالتالي عادة القراءة والتلقي المعرفي، المصيبة تجلت عندما طالت هذه اللعنة الكتاب والفنانين الذين أصبحوا يتباهون بعدم القراءة لضيق الوقت، بل تمادت لتحول معارض الكتاب الى واجهات لترويج الكتب الاستهلاكية التي تصدرت قائمة المبيعات في أبلغ تعبير عن مدى تدهور الاحتياجات الثقافية والفكرية للناس التي لا تلام، هكذا تنافست كتب الطبخ، الجنس، السير الفضائحية، الأشرطة الغنائية وأشرطة فيديو العنف والكوارث، ليبتعد الكتاب ويلتحف ما تبقى له من غبار.
(8)
عندما يتم تغييب القراءة كفعل حضاري لا تنهض الأمم إلا به، لابد لبواقي الأطر المعرفية أن تتهاوى وتلوذ بصمت الجهل الشامل، هذا ما يحدث بالفعل.
إذ تداولنا هذا الشأن على صعيد الصحافة الثقافية، ذلك الورق اليومي الذي يصل القارئ، ليستمد منه ما تبقى من ثقافته المغدورة، قبل أن يصل لصفحة الرياضة أو الإعلانات أو الوفيات مبتغاه من الصحيفة، فماذا يرى؟!
لقد تم تجنيد وتحريض الحبر كله، طيلة أعوام طويلة منذ “نازك الملائكة” خطيئة الخروج عن الوزنية التقليدية، حتى اليوم، للتهجم على الشعر العربي، مرورا بكبائر “مجلة شعر” التي لا تغتفر. لا تخلو صحيفة أو مجلة أو دورية من مداولة جريرة “قصيدة النثر”، كيل التهم للشعراء وأبراجهم وغموضهم وانعزالهم عن رصاص المعركة ودوي الشارع والجماهير والى آخر ذلك السيل من التهم الذي لا يفرق بين التجارب الشعرية والنصوص الإبداعية، بل يضعها معا على منصة الحكم للطعن في موهبتها ومن ثم تهميشها، واستبدال حضورها بكتابات لا علاقة لها بالكتابة أساساً، مجرد تهريف مطبوع يوهم ويضلل القراء، بحضور الشعر الواضح المفهوم الذي في متناول اليد والعقل.
هذه الظاهرة عمت أغلب المنافذ الصحافية العربية التي تعنى بشأن الثقافة، عدا ندرة منها لم تستهين بدورها الجاد لتأصيل الثقافة وتوصيل الإبداع، هذه الجناية على الأدب العربي أسهمت في تكريس ثقافة استهلاكية عابرة، لا تمت بصلة للإبداع، وفي التغافل عن متابعة كل ما يتعلق بالمبدعين العرب أو أبناء الوطن من إصدارات أو فعاليات والاكتفاء بالترويج لكل ما يصل عبر البريد من مساهمات تصلح للنشر!!
هكذا يسعى الشاعر “سليم بركات” لتوصيف الحال الثقافي الذي أستتب:” حين أجتهد الخيال الشعري في خمسينيات هذا القرن، وستيناته للخروج من نمطية الإنشاء المتشابه للقصيدة العربية، اتخذ سندا لدعواه أنه سيرفد الشعر بعلوم أكثر جسامة من أن تقدر النواظم الرتيبة على اكتناهها، على القصيدة أن تكون ثقافة الجهات، وعيها، انعتاقا من ثورية الخصائص المستنسخة. عاش هذا الخيال الشعري، الحسن النية عقدا ونصف عقد من الستينات إلى أوائل السبعينات، ثم انحدرت القصيدة “الغضة الإهاب” إلى فوضى ثم صارت الفوضى ذاتها نمطاً لها خصائصها التي يمكن ترتيبها تبويبها كما كانت تبوب ”أغراض” الشعر المنظوم: الركاكة، البناء على فراغ، الجهل باللغة كليا، استحسان القطيعة مع قواعد التدوين،الترفع العميم للجهالة عن تراث الماضي من غير تحصيل لتراث الحاضر، التجرؤ على الخفة، و لهذه السخرية من جلال الشعر أسباب في أساسها “موت النقد الأدبي”، بعد موجة هبوب أموال النفط العربي قبل أواسط السبعينات بقليل، فتكاثرت الصحف والمجلات الدعائية للأنظمة. وهذه الكثرة من الأوراق المطبوعة بحبر مدفوع الثمن بسخاء، بات تقليد وجود صفحات ثقافية أمراً على صخب شيوعه. وجرى توظيف عاملين بلا اختصاص، بل من باب إسناد الوظيفة إلى” نشيط” في جمع ما يقدر على ملء صفحاته المتسعة طولاً وعرضاً. قلّ التقويم، قتل الانتخاب المصاحب بوعي نقدي. قتل الاختيار بالتفضيل. أميون في القراءة تداعوا إلى تزوير الذائقة بانطباعات تصلح في لغة التعميم الكسولة على كل نص.
كان ثمة مجلات قليلة جداً، قبل هذا الوباء، تقوم بمهمة “ترشيد” الذائقة بقدر معقول من الصرامة في اختيار النصوص. وكان يقوم على الصحف القليلة أدباء مختصون في مذاهبهم، ما كان يجرؤ المبتدؤون في علوم النصوص أن يحملوها إليهم بالثقة التي يفعلونها الآن، تبعثر النقاد العارفون بآلات لغتهم، انحسروا وذابوا في الحشد المتقدم إلى الحلبة، ساذجين ينقدون الشعر بلا معرفة في العروض ينقدون اللغة بلا فهم وأما الفقه فهو لفظ من علم مقفل.
كيف، إذاً سيميز الخبراء الجدد في الركاكة هؤلاء أن شخصاً ما ينحو إلى ابتكار في علامات اللغة وعلاقاتها؟ كيف سيعرفون أن هذا يخطيء في العروض، وذاك يخضع المجزوءات لفتوح في الأوزان؟ كيف سيعرفون اختلافات البناء اللغوي بين واحد وآخر؟ ومع ذلك هم “نقاد” الذائقة الشعرية و“مسوقو” الجهالات.
في كل عصر، قطعا يتكرر المشهد ذاته، بصورة أو بأخرى، فيكون الجيد الحقيقي نادراً، والنمطي المتوارث سائداً. غير أن الجهل في تصنيف النصوص، راهناً، فاق كل جهالة، إذ بات النشر في المنابر متاحاً بتساهل القائمين عليها في إفراط ما بعده إفراط، وباتت علاقات الشاعر الركيك الشخصية على سعة تؤهل لكتابة المهلهل من مقالات لا تحصى في إفراط عافية نصه. فوضى يصححها، من وقت إلى آخر، قارئ حقيقي، مجهول، لا يشتغل في تدوين مدائح معلنة في الصحائف، يبارك روحه بعناء قراءته الخالقة لنصك المتعطش إليه.”
(9)
لقد تميز واقع الثقافة في الخليج بترسيخ محموم لثقافة الاستهلاك، بقسوة تبدت في تسويق التجهيل، محو اللغة العربية وإبدالها باللهجة العامية، عندما تعالت الأصوات بحتم العودة للتراث العامي تحديداً، ليتم إعادة استنساخ مشوه لهذا التراث دون تطويره، بل إفساح فضاء الصحف والمجلات والإذاعات والفضائيات، لانهيال كل ما يكتب أو يقال بالعامية والنبطية دون تمييز نقدي بين المبدع فيها والمحاكي المقلد المستورد بشكل فج لأدواتها التعبيرية، لذا سادت كتابات تسيء لتراث الشعر العامي والنبطي الذي كانت تفتخر فيه مواضي الخليج فيما مضى، عندما كان يعبر بالفعل عن أصالة تاريخها، لنصطدم الآن بكتابات تعنى بالمديح والنفاق الذي لا آخر لها.
رافق ذلك كله، تغريب حقيقي للشعر العربي القديم والمعاصر عن ميادين الفعل الثقافي الذي يتواصل والناس كالإعلام بتنويعاته والتعليم بمستوياته، لينعكس هذا المنحى بالضرورة على تغييب كل أشكال التعبير الإنساني الأخرى، من قصة ورواية ومسرح وتشكيل وموسيقى، إقصاء حقيقي للفعل الحضاري الإبداعي الذي يصوغ ذاكرة الشعوب، هذا لتعتاد الناس على ذائقية تلقى ومتابعة أمسيات أمراء الشعر الجدد وهم يتحفون الحضور الرسمي والشعبي الذي تغص قاعات الفنادق بالعتاب والغزل وموهبة المديح.
بعد هذا الاستشراف لمحنة الراهن الثقافي، نتيقن من أن رصد كل هذا التداعي في حاضرنا، يطال كل رافد من روافد ثقافتنا العربية، ولنا أن نتأمل في كل شأن على حده، لنشهد على مدى التخريب الذي ينحدر نحونا.