– 1 –
أثق كثيرا بدرس الطفولة، كمنهل أولي وقويم لتعلم ماهية الإبداع كهوية وجودية، وقلق إنساني تجاه غموض أسئلة الكون.
في غابر تلك الطفولة، كنا أحراراً بما يكفي، لننقاد لمقترحات جنة المخيلة، بل لنتحاور معها، نبالغ في هيمنتنا على مقدراتها اللعوبة والمبهجة، نعيد من خلالها صياغة عالمنا الصغير ليتحول الى فضاء أو حديقة أو نهر، كل ما نشتهي يتحقق في لمحة مكر طفيف، صغير لكنه ثري بمعطياته الحالمة والرحيمة بصغار يتحسسون عطف الهواء ليتعلموا كيف هو الطريق.
في ذاك العمر الوديع، كانت كل الأعضاء تشتغل معاً، لتصوير مدى قدرة المخيلة في إمتاع الجسد بما تختزنه من حركات وألعاب وخفة وتصاوير لا تنتهي، لم نكن حينها نكتب ما نراه، بل لم نكن نحتاج الى ذلك الفعل التدويني على الورق، لنثق بما نرى أو لنبلغ الآخر عنه، لأننا كنا نحياه بمتعة لا توصف، وهذا يكفي، أن نحيا الحياة بكل همسة فيها وحنو أيضاً.
كانت الحرية هي قدرتنا اللامتناهية لاستخدام وتطوير حواسنا البكر، وهنا نعني تحديداً تلك الحواس التي تفوق قدرة الخمس الحواس التي علمونا إياها في ما بعد، بل حتى هذه القليلة علينا تعمدوا تخريبها وتنضيدها وأسطرتها وتقويمها لتعمل وفق منظور محدد، شديد الثبات، هو الأصلح وهو الأكمل وهو المنجي من شرور الذات، للأسف العميق، ارتهنا- دون دراية تامة- لفتاوي علومهم وشروحاتهم وتربيتهم، لأنهم كانوا أكبر منا، أكثر خبرة في الحياة كما علمونا أيضاً، وأخيرا هم أهلنا الذين أصغينا لهم أكثر مما ينبغي، هم مدرسونا الذين لقنونا قيد الدرس، ونحن في طراوة الملائكة، نصغي لهم بخرس لا يطاق، كتبوا على اللوح، ببياض الطباشير لنحفظ الوصية: من علمني حرفا صرت له عبداً، هكذا تخرجنا عبيداً، لمن علمونا كيف نصغي لهم.. لا لذواتنا، علمونا كيف نشذب مخيلتنا، نحولها من حديقة إلى مقبرة.. نقهرها، لتتقلص وتعجز عن الفعل الإبداعي، تعلمنا كيف نحتكم لوهم حكمة العقل وحده، علمونا كيف نصير عقلاء، نعرف ما ينبغي وما لا ينبغي، صامتين على الدوام.. صاغرين، كالكبار، نتمتع بأهلية كاملة، مواطنين صالحين، نعمل ونحيا من أجل سيادة الآخرين على الكراسي، وقبلها على أعناقنا، نتحول الى رعايا منقادين لعصا الراعي بطاعة القطيع، نقضم تاريخ القمع العربي المتاح.. بصمت تام.
– 2 –
منذ البدء.. تحددت أوليات علاقتنا مع العالم عبر هتف الحواس، تلك الآليات المتصلة بمكامن الجسد الفاعلة، منذ سقطتنا الدموية من عنف الرحم، تعرفنا الى رائحة الأم ومذاق الحليب، تلمسنا حنو الأيادي، أنصتنا لنسيم الهواء ورأينا هبوب كل هذا البياض.. من المهد حتى شراشف الأحلام، كلما كبرنا تنامت حواسنا معنا، برفق غريب، كانت تراعي وتحمي انحدارنا الأول نحو الحياة، هناك حيث لا رقيب على ما نرى، في الحجرة ليس لنا أن نرى الأهل أو الأثاث، كنا نرى ما نريد، المتعة هي سيدة المكان، كل الأشياء تتحول إلى دمى ذات قدرات عجائبية بفعل سطوة وقوة المخيلة، كنا نصغي لذواتنا فقط، لحوار داخلي يحوك خطورة الحكايا المتخيلة، نرافق الحواس كلها وهي تترجم وتحور يباس المكان والوقت لحدائق نلهو في حناياها كل عمرنا الصغير.
عندما يجتهد المجتمع الإنساني لتثبيت نواميسه وقوانينه ويعمل على تعزيز مكامن سطوته عبر تابوات تنظيرية تتوالد وتتحكم في مصائر ناسه-لضمان دوام حكامه- لابد له من تقويم -كما يدعي- ذاك النسل الجديد المتفلت بحرياته، يبدأ في تمرينه وتدريبه وتربيته على حياة محددة سلفاً، يبدأ بقوة العصا لمن عصى، على تكسير جنوحه ومقاومة شغبه البريء، ترويضه بالفعل بسياسة العصا والجزرة، كما يتم ترويض الفرس الطليقة، العابئة بحرية المراعي وهي تقتحم بجرأة الحوافر نداوة العشب، وهي تنهدر نحو البراري، معلنة صراحة الصهيل الحر، ببطش بالغ.. تراهم يطاردون حريتها المستمدة من هبوب الريح، مطاردة عنيفة، لا تهدأ حتى يلجموا نواجذها الأليفة بكلابات حديد تنتهي بسرج جلدي صلد، تتدلى منه شرائط جلدية عديدة، لربط الصدر بإحكام، حتى تتحول شهامة الفرس أو جهامة الجواد الأصهب، الى عربة طيعة تنتهب الطرق.. تحت امرة السوط الذي ينهب أعصاباً تصهل بالألم بدلاً من صرخة حنجرتها بحرية الصوت.
– 3 –
وحده الابداع بجموح رؤاه الإنسانية، يقاوم تشذيب الحواس، يعمل جاهداً على استعادة نقاوتها، على تخليصها من شظف التقليم والسجن والتشطيب والقسر، نراه عبر الشكل التعبيري الذي لم يختره حقيقة بل تشبث هو به، عندما بدأ يشعر بحاجته الى التمرد على هذا اللجام الصعب، أراد أن يفر من ليله الطويل نحو موج البحر أو حرية المراعي أو هاوية المنحدر، أراد أن يتخلى أو يتخلع من صرامة القيد ويحيا حياته كما يراها أمامه لا كما يراها الآخرون تليق به.
تخريب الحواس مهنة صعبة، أصعب من الابداع ذاته، لأنها تبدأ من صعوبة الصفر، تبدأ من إعادة الأسئلة والتريث كثيرا أمام حقيقة الأجوبة.
– 4 –
“ما لذي يمكن عمله مع شخص عنيد قد وقع في براثن هاجس معين استحوذ على فكره؟ كلما مر الوقت، ضاق صدره. مع ذلك، فحينما حلت ساعة الوداع الأخيرة لم يكن يتمالك دموعه، كان يعرف أن هذا هو الوداع الأخير، وأنه لن يرى أمه أو تلك المدينة الملعونة “روش” من جديد، والتي كان يترك فيها قطعة من روحه. قالت أمه: “أبق هنا. سنعتني بك”
فقال لها الشاعر (رامبو): “كلا.. يجب أن أحاول كي أشفي نفسي”.
5-
“كان من الأفضل لي لو مت منذ فترة طويلة”
آرثر رامبو
6-
تخريب الحواس هي وصية الشاعر الفرنسي “آرثر رامبو”، أو بالأحرى رائعته التي اكتشف من خلالها الشعر الذي اغتال عمره القصير (1854 1891)، بعد أن أنجز إبداعه الشعري خلال سنوات، قضاها كلها مسكوناً بحاجته “للبحث دائما عما وراء الأفق”، موهبة الطفل رامبو دعته وهو في الصف الأول، أن يكتب:
“حيثما وجد الغنى وجد بجانبه الألم”، أيضاً:
“كانت الشمس دافئة،
لكنها الآن تضيء الأرض بصعوبة”.
عندما أوصى “رامبو” بأهمية تخريب الحواس، التي تم تطويعها، وتقليمها لتتناسب وهيمنتهم، كان يدرك أهمية هذا المطلب، ومدى صعوبته، لإعادة قوة الحواس لما كانت عليه عبر تخريبها حتى تنساب بعذرية وبراءة تامة، تعبر عن بلوى الصوت وعذابات الجسد دون كابح أو صد أو كبت من أحد.
اعتنى هذا الشاب اليافع بصوته الشعري، وبحرية انفلاته، كما لم يفعل أحد من قبله، اهتم بحبره بطريقة مريبة، ليستوي له تمرده القاسي على كل القوانين الجائرة، بل لتتوازى تجربته الشعرية مع تمرده الشعري، كان كالصهوة، متفلتاً إلى أبلغ حد، لا يعتريه أي شيء يجابه حريته، حرية “رامبو” كانت طليقة كالريح، بل أكثر من ذلك، عندما كتب قصيدته “الديمقراطية”، كان ذلك ليعري بشاعة الاستغلال الذي تشنه الدول الغربية التي تدعي التحضر والريادة يقول:
“في البلدان المبهَّرة والمنقوعة! في خدمة أبشع أنواع الاستغلال الصناعي أو العسكري”.
حتى عندما اتجه وحيداً نحو القطار كتب لنا “ذكرى”:
“وحاسرتاه،
كان مثل ألف ملاك أبيض يفترقون على الطريق،
يرحل خلف الجبال!
في حين هي تعدو، مترددة وكئيبة! خلف الرجل المرتحل”!
هذه الكلمات كانت تطرز سيرة الوداع لأمه وأختيه قبل ذهابه لباريس.. ذاك الذهاب الذي لن يشفى منه.
7-
بدعة “رامبو” تتجلى في ريادته الفعلية لخطى الطريق، بمعنى ارتياد الوعر، اكتشاف المجاهيل، لا على الورق فقط، بل على الطريق الترابي ذاته، الذي علمه صعب الشعر، مما دفع الشاعر فيرلين ليكتب له: “إنك مسلح تماماً لخوض المعركة بطريقة مذهلة”.
كتب رامبو في رائعته الخالدة “المركب السكران”:
“لكنني، في الحقيقة،
بكيت كثيراً،
إن الآصال محزنة،
كل قمر مبرح،
وكل شمس مرة”.
ضمن هذا المنظور لواقع الحركة الثقافية التي لم تهتم بنبوغه الشعري، صار “رامبو” يقول لصديقه “ديلاهاي” بعد أن صعقت قصيدته الأوساط الشعرية في باريس:
“آه نعم! لم يكتب أحد قصيدة مثلها من قبل، أعرف ذلك.. لكن.. ذلك العالم من أدباء وفنانين! تلك الصالونات الفخمة! لا أعرف كيف أتصرف هناك، أنا سمج، خجول، لا أعرف ما أقول.. لكن حينما يتعلق الأمر بالفكر، لا أخاف أحداً.. لكن.. آه! ما الذي سأفعله هناك”.
أمام سيرة رامبو احترت كثيرا فيما ينبغي إيراده، لكون هتفه كله مهما بل بليغاً، كأن هذا الصبي أينع على هذا الكون، ليعلمنا معنى ومهوى موهبة الشعر معاً، بل أصر في وصيته الجليلة، بأهمية تشويش أو تخريب الحواس، إعادتها لبراءة الطفولة، تدريبها من جديد، للعودة للبدء الذي تم تدميره، وتهذيبه، وتحويره نحو عبودية لا توصف، وهذا ما تجلى في كل “إشراقاته” الخالدة.
8-
“في كل دقيقة تتحول شعرة في رأسي إلى بيضاء”
هكذا كتب إلى أمه وأخته وهو على هاوية الفقر والمرض، ذاك الذي أودى به نحو الجزع والعجز كله:
“مامن فائدة في إخباركم عن العذاب الفظيع الذي تجشمته في رحلتي، لم أستطع السير خطوة خارج محفتي، كنت أرى ركبتي تنتفخ، والألم يزداد باستمرار”.
في رحلته المريرة نحو فرنسا تجرع “رامبو” العذاب كله، وهو يعاني من ورم ثقيل في إحدى ركبتيه مما دعا الأطباء هناك لبترها حتى أعلى الساق، ليساق مرتكزاً على عكاز خشبي يواسيه في طريق المجاهيل، مصاباً بالحمى وبدء الاحتضار، لدرجة أن الاستقبال الذي حظي به ومناشدة الأهل نحوه، دعاه ليصرخ بهم:
“أنتم تظنون أني جئت إلى بيتي في فرنسا هذا الصيف طلبا للزواج! وداعا أيها الزواج! وداعا أيتها العائلة! أنا لا أكثر من جذع شجرة ميتة”.
حتما كان كذلك، شاعراً تهدم في عالم لم يكترث لوميض موهبة تجلت له، عالم مهزوم، بل ميئوس منه، أمام كل قطرة دم جفت في وريده، وهو ينتحل حتى مشارف غيبوبة رحيمة أمضاها في هلوسات وأحلام وهذيانات، كانت أكثر رأفة به.
مات رامبو.. وعاد بعد سبع وخمسين عاماً، حينما وضعت اللوحة النحاسية التالية في الساحة الرئيسية “هنا 10 تشرين الثاني 1891 عند رجوعه من عدن.. الشاعر آرثر رامبو واجه نهاية مغامرته الدنيوية”.