(1)
“عرفت أنني قتيل:
فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن،
سرقوا ثلاثة هياكل عظمية لينتزعوا أسنانها الذهبية،
ولم يعثروا علي!
ألم يعثروا علي؟
نعم.. لم يعثروا علي!”
فيديريكو غارثيا لوركا
(2)
هكذا، تنبأ “لوركا” بمقتله الغامض، ليموت دون أن يعثروا عليه، وحده في عراء يجلله غدر الرصاص، قتل “لوركا” عام 1936، ولم يبلغ من العمر سوى تسعة وثلاثين عاماً، قتل ذات ليلة ماطرة، أمطرت حرية جسده ببالغ الرصاص الذي انهمر من بنادق الشرطة السرية التابعة لتعاليم الفاشية، تلك التي أسس لطغيانها الغادر، الديكتاتور “فرانكو”، خلال الأيام الأولى للحرب الأهلية الإسبانية، حيث اقتيد عنوة، على غفلة منه، مع رفقة من شعبه نحو مكان مظلم مجهول، تم دفعه، بقميصه الأبيض الذي يضاهي ورق كتابته، ليقف شامخاً مع كتيبة من الأجساد، قتيلاً يقف أمام رصاص يتساقط، لتسمو روحه على روابي”فيثنار”، تلك التلال القريبة من “غرناطة”، ما أن انطلق الرصاص عتياً نحو صدورهم الراعشة حتى تهاوت كل الجثث، محتضنة بظلالها جسد شاعر، أدمانا بنبض حبره، بكلمات توصينا بنهل الأمل من مدى يأسه.
(3)
لقد قتلوا شاعر اسبانيا، الذي أمضى سنواته الأولى، وهو يعاني من مرض خطير أصاب قدميه عقب الولادة، حتى فقد الطفل”لوركا”القدرة على المشي لسنوات أربع، بعدها تجاوز معضلته، ليمشي بعرج أثر في طفولته التي تركته وحيداً لا يلعب مع الأصدقاء، بل وحيداً يلتاذ بعزلة مبكرة عليه، فيها يتأمل طفولته وهو يعمل على تنمية مخياله ومشاعره البدئية، يصنع له عرائس تنتمي للمسرح، يقيم الاستعراضات للدمى التي يصنعها بنفسه، هكذا أمضى “لوركا” طفولة تتعثر نحوه، بين عشق المسرح الذي كان يكتشفه، وبين اللغة التي تعلمها من أمه، وكتب حروفها بسر غريب. كل ليلة دامت له، حتى توسد ظلام قبر مجهول.
(4)
عندما ذهبت إلى “غرناطة” لأشارك في مهرجان “الشعر العربي الاسباني”، أكثر ما كنت أخافه، ذهابي لبيت “لوركا”، لا أعرف لماذا؟ غير دوامي على قراءة هذا الشاعر الذي استهواه قلبي تماماً، بل استرعى انتباهي البكر، لأعشق شعره، وجرأته التي أدت لمقتله، بعد الانتهاء من تلك الأمسية التي استحضرت فيها ذاكرتي، لأقرأ قصيدة مهداة لروحه المدماة، فيها استدعيت حواسي، لأتلو نصاً فيه عذب العذاب، الذي قارب قتله.
صرت أنتظر زيارة بيته، بل أرتبك كلما تذكرت انه هناك ينتظر، مجللاً بدمه، يترقب كل محبيه.
حين آن الأوان، توجهت لبيته، برفقة صديقتي الشاعرة الاسبانية”بيلين جيزار” كانت طوال الطريق الصعب، تحدثني عنه، بتفاصيل لم أكن أجهل أغلبها، بل كنت خلال حديثها، أحاورها، لأستهيم بشغف اطلاعها المحموم عنه، في البدء تعرفت على مسار حديقة شاسعة، ارتأت عائلة “لوركا “بعد مقتله، أن تحولها لمزار مذهل، حديقة مترفة بالورد كله، مزدهاه بنوافير تعزف موسيقى الماء كل الوقت، كأنها تبكي موته، ماء عليم ببكاء “لوركا” آخر الليل، ماء يسرد لنا كل شيء.
بيت “لوركا “كما غادره، كل شيء في مكانه، حتى أصيص الزرع الذي يكمن في زاوية الشرفة، نراه في التصوير السينمائي بالأبيض والأسود في مكانه تماماً، و”لوركا”يقف بقربه، بعد ذلك نراه ملوناً – كأنه الآن- لكن دون لوركا.
في بيته ثمة مكتبة تعرض كل تذكاراته، كتبه المترجمة لكل اللغات، صوره المنسوخة في كل أنحاء بيته، لوحاته، خطاباته وصور أصدقائه “بيكاسو”،”سلفادور دالي” وآخرين، كتاباته المصورة بخط يده، كل ما تم الاحتفاظ به، ليتذكره الأصدقاء قبل الرصاص الذي انتاب قلبه.
(5)
تدخل غرفة الضيافة، فترى أصابعه المنسية على خشب البيانو، المؤلم في الأمر، كونك تراه في تصوير فوتوغرافي يعزف على البيانو، ثم ترى ذات البيانو يمضي العمر وحيداً دونه، كذلك تراه محتضناً أمه في صورة فوتوغرافية، ثم ترى المقاعد ذاتها خالية منه، ثمة تداخل غريب بين الصور المعلقة التي تحتفظ بذكرياته وبين المكان، تداخل مؤثر يدعوك لتهمس وحدك: لم لهذا البيت كل هذا الألم؟!
عندما ترتقي بقدميك السلالم، تصل لغرفته، تتعرف على سرير مغطى بلحاف قديم، نافذة تحتضن حديقة بهية، طبيعة عذراء تماماً، يراها “لوركا” كلما فتح زجاج شرفته، هناك لك أن تتعرض لصمت طاولته، طاولة أليمة لأبلغ حد، خشب مثقل بمخطوطات شعرية، كتابات معلقة على الجدران بخط يده، مقعد فارغ منه، جوارير فارغة من أوراقه، طاولة باردة كجثته، تراها وتسترق الدمع نحو عينيك، لتكون لائقاً ببيت “لوركا”، وروحه الهائمة هناك. حتماً.. كان هناك.
(6)
بعد أن تذهب بك قدميك للخارج البارد، تصل لرواق قديم، فيه تستميت لتدعو خطاك أن ترحم ذاكرتك، لما تعرضت له من ذاكرة شديدة البأس عليك.
قبل أن تغادر البيت.. لك أن ترنو من بعيد. لك أن ترفع عينيك.. لترى “لوركا” وحيداً، متشبثاً بحرية شرفته، يحدق في عينيك من هناك:
“أغلقت شرفتي
لأني لا أود أن أسمع البكاء
لكن خلف الجدران الرمادية
لا شيء يسمع غير البكاء
ألف كمان يهتز
غير أن البكاء ملك كبير
البكاء كمان كبير
الدموع تبرقع الريح ولا شيء يسمع غير البكاء”.
حتما وأنت تغادر بيت “لوركا” لا تسمع غير أصداء هذا البكاء، غير صوت الحب الموصول بالدمع لشاعر لا مثيل، بكته اسبانيا كلها ولم تزل تبكيه:
“وداعا يا صبيتي الحلوة،
يا وردتي النائمة، أنت إلى الحب ترحلين وأنا إلى الموت.”