القلب النقي


1-

“إنني مجرد نقطة خلاص في بحر المعاناة”.
الأم تيريزا

2-
من المواقف الجليلة للأم تيريزا أنها عند استلامها جائزة نوبل للسلام حرصت على ارتداء الزي الهندي المتواضع الذي كانت دوماً ترتديه في حياتها، وهو عبارة عن ساري هندي أبيض اللون موشى باللون الأزرق، ويبلغ سعره دولاراً واحداً. كما أنها طلبت إلغاء العشاء التقليدي الذي تقيمه لجنة جائزة نوبل للفائزين، وطلبت ان تعطى المبلغ لتنفقه على إطعام 400 طفل هندي فقير طوال عام كامل.
وعندما حصلت على جائزة نوبل للسلام كان تعليقها:
“إنني لا استحقها”، ولكنها وهبت قيمتها المالية للفقراء قائلة: “إنها منهم ولهم”.

3-
يستوقفني كثيرا مدى الغرور الحادث في الأوساط الأدبية والفنية عند تتبعي لحوارات الكتاب والكاتبات، أو ما يتم تداوله في الأنترنت من مقالات ومتابعات لأخبارهم ونشاطاتهم، لنشهد حجم التهاويل والمقدمات والاستعراضات المخجلة، وكلما مضى الوقت بنا لحظنا تفاقم الأمور، بل تعديها للحد المحتمل من المكابرة ونفاج الذات والنرجسية والأستذة، حتى يكاد الأيجو أن ينفجر بغتة وهم يستعرضون وهم الأمجاد والبطولات برفقة شلة من المنافقين والمطبلين لانتصاراتهم، لنتساءل كل هذا من أجل أبيات شعرية؟ أو صدور ديوان شعري؟ أو دعوة لحضور مهرجان؟

الابداع ليس كتابة مثقلة بالغرور بل بكتابة تخجل من عطاء الحياة وابداع كائناتها ومخلوقاتها، كتابة ترافق القلب بحب ورحمة وحنان يعرف معنى التواضع، هذا هو الابداع الحقيقي: أن يحيا الانسان هذه الحياة برفق كما الفراشة أو الشمعة على أقل تقدير، بحفيف قلب نقي يشتعل بوميض الأمل كلما تقدم الليل.
المبدع من يغادر الحياة بخفة طائر أودع الهواء الكثير من حرية أجنحة تحتمل حنان الريش.

4-
القلب النقي هو اسم بيت الأيواء للأطفال المشردين في كلكتا والذي استطاعت الأم تيريزا بقيمة الجائزة (190 ألف دولار) أن تفتح أبوابه لإستقبال آلاف الأطفال.
“تعاونت الأم تريزا مع السلطات الرسمية في كالكوتا فحولت جزءا من معبد كالي (إلهة الموت والدمار عند الهندوس) إلى منزل لرعاية المصابين بأمراض غير قابلة للشفاء والعناية بهم في أيامهم الأخيرة لكي يموتوا بكرامة، ويحسوا بالعطف والقبول بدل البغض والرفض من مجتمعهم. وتوالت بعد ذلك المؤسسات التي أنشأتها الأم تريزا، فأقامت “القلب النقي” (منزل للمرضى المزمنين أيضا)، و “مدينة السلام”مجموعة من المنازل الصغيرة لإيواء المنبوذين من المصابين بأمراض معدية). ثم أنشأت أول مأوى للأيتام. وبازدياد المنتسبات إلى رهبنة “الإرسالية الخيرية”، راحت الأم تريزا تنشئ مئات البيوت المماثلة في طول الهند وعرضها لرعاية الفقراء ومسح جروحاتهم وتخفيف آلامهم، والأهم من كل ذلك لجعلهم يشعرون بأنهم محبوبون ومحترمون كبشر.
كان عام 1965 نقطة تحول كبرى في مسيرة الرهبنة. فقد منحها البابا بولس السادس الإذن بالتوسع والعمل في كافة أنحاء العالم، لا الهند وحسب. وهكذا راح عدد المنتسبات إليها يزداد وفروعها تشمل معظم دول العالم الفقيرة أو التي تشهد حروبا ونزاعات. من أثيوبيا المهددة بالجوع الى غيتوات السود المقفلة في جنوب أفريقيا، إلى ألبانيا مسقط رأسها بعد سقوط الشيوعية، كانت “القديسة الحية” حاضرة للمساعدة والرعاية وإظهار المحبة الخالصة. ومن أعمالها المشهودة أنها استطاعت خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ان توقف إطلاق النار لمدة معينة إلى ان تمكن رجال الدفاع المدني من إنقاذ 37 طفلا مريضا كانوا محاصرين في إحدى المستشفيات.”

عندما أختار الحديث عن “الأم تريزا” لا أتقصد سرد دورها الريادي النادر في مجال العطاء والبذل والرقي الروحي، بل اشعال كلماتها البليغة بالحكمة والبلاغة العميقة، كلماتها التي تمثل جوهر تجربتها الحياتية المتصفة بالملائكية، من الصعب حصر كل الدلائل التي ترسلها سيرتها الخصبة بالمحبة، المفعمة بالحنان على مخلوقات الله وعلى كل ذرة من هذا الكون.
تشكل سيرة الأم تيريزا درساً لا يستهان به لتلقين العالم كله معنى التواضع أمام أبداع الله والحياة، التواضع أمام المحبة الغير مشروطة، وأن حقيقة الأبداع لا تتجلى بالسعي وراء أوهام المجد والجوائز بل بحضور الحس الإنساني تجاه عذابات الناس، ومحاولة رفدها بالرحمة والعطاء، لذا لم تتخلى عن شرطها الإنساني ذاك أمام لجنة جائزة نوبل، ولم تهتم بالمأدبة بل بمئات الأفئدة المنطرحة على أرصفة الهند وهي تفترك كبدها من الفقر والجوع.

5-
هكذا ترسل لنا كلماتها النقية كما الصلوات:
” الصلاة هي رؤية العالم بعينيّ الله.
ـ الحبّ يقتضي قلباً طاهراً، وسيكون قلبُنا طاهراً عندما نصلّي. فالصّلاة اتّصالٌ جيّد، وعلاقةٌ طيّبة بالله. إننا نسمعُ الله في قلوبنا، ونكلِّمه في داخلنا. ولكن من أينَ ينبع ذلك ؟ من الأسرة. الأسرةُ التي تجتمع لتُصلّي تظلُّ متحدة، وطالما كان أعضاء الأسرة، متَّحدين، فسيحبُّ بعضهم بعضاً، كما يُحبّهم الله فردياً.
كرِّسوا، على الأقل ساعةً، كلّ يومٍ للصّلاة، فتتطهَّر قلوبكم، وفي آنٍ واحد، ستنالونَ النور، ووسائل للتّعامل مع الجميع بحبٍّ واحترام، فالحبُّ العميق، والسَّخاء السَّمح هما، أبداً، ثمرة الصّلاة التي تقرِّبنا بعضنا من بعض.
علينا أن نستعيدَ عادةً تلاوة المسبحة داخل الأسرة، فقد ينجمُ عن ذلك مزيدٌ من الحبّ والوحدة.
إن دخَلت الصّلاة إلى حياتنا، وإن صلَّينا حقاً، حينئذٍ سنعرف الفقراء، الَّذينَ قد يكونونَ من أفراد أسرتنا؛ وإن نحن عرفنا الفقراء أحببناهم، وعمِلنا من أجلهم، فالخدمة هي ثمرة الحبّ.
الفقراء هم صلاتنا، فالله فيهم وفينا، ونحن نلقاه فيهم. الصّلاة هي عمل شيءٍ من أجل المسيح. الصّلاة كامنةٌ في كلّ شيء؛ الصّلاة هي العمل.
أُهيب بكم أن تصلّوا، فبفضل الصّلاة ستشرعونَ تعرفون، قبلَ كلّ شيءٍ، مَن يعانونَ العَوز داخلَ أسرتكم، وهذه المعرفة ستمكّنكم من تحويل بيوتكم إلى موائلِ حبٍّ، وسلام، وفرَح.
ـ الصلاة، في نظري، هي المكوث أربعاً وعشرينَ ساعةً، يومياً، في اتّحادٍ مع وصيّة يسوع بالعيش من أجله، ومعه، وفيه.
ـ قد لا تستطيعونَ تلاوةَ صلواتٍ طويلةٍ، ومع ذلك صلّوا قائلين للربّ: “اللَّهمَّ أُحبّك”.
ـ يريدنا الله قريبين منه، والقدّيس يوحنا يقول: إنّ الله يفتح لنا قلبه. أصبحوا صغاراً. صلاتنا هي دعاءُ طفلٍ مليءٍ ورَعاً رقيقاً، واحتراماً، وتواضعاً، وسكوناً، وبساطة.
ـ تكفي التفاتةٌ فكريّة نحو الله: “يا ربّ أُحبّك، وأثقُ بك، وأومن بكَ، وأحتاجُ إليك”. إنّ عباراتٍ موجزةً مثل هذه، لهي صلواتٌ رائعة.
ـ عندما ننتهي إلى فتراتٍ تتعذّر علينا فيها الصلاة، فلندع، بكلّ بساطةٍ، يسوع يتلو “أبانا” في صمت قلبنا. فلئن عجزنا عن الكلام، تكلّمَ هو، وإن عجزنا عن الصّلاة، صلّى هو؛ فلنُعطِه، إذن، عجزَنا وعَدَمنا.
ـ لكي تكونَ الصّلاةُ خصبةً يجب أن تنبعَ من القلب، وتكون قادرةً على مسّ قلب الله. جميع ألفاظنا ستكون نافلةً ما لم تنبع من الدّاخل. والكلمات التي لا تشيع نور المسيح، تزيد الظلمةُ إدلهماماً.
ـ ليست الصلاة الكاملة في كثرة الكلام، بل في حرارة الرّغبة التي ترتقي بالقلب إلى يسوع.
ـ أحبّوا الصلاة، ولْتُساوركم، غالباً، أثناءَ النّهار، الرّغبةُ فيها. وحينئذٍ لا تتقاعسوا عنها، فهي توسّع آفاق القلب، بحيثُ يتأهلَ لاحتواء الربّ الذي يهبُ ذاته. اطلبوا وابحثوا، وسيُصبحُ قلبكم من السّعة، بحيثُ يتقبَّل الربّ، ويحتفظ به احتفاظه بملكٍ خاصّ.
ـ الأيدي المتشابكة للصّلاة، الأيدي التي تكرُّ حبّات المسبحة، قادرةً على بثّ حرارة الله.
عليكم أن تخوضوا هذه التجربة، فعلامَ لا تحاولون؟
ـ سألني أحدهم: “أيُّ نصحٍ تسدينه للسياسيين؟” وأنا لا أهتمّ بالسياسة، غيرَ أنّ إجابةً قد بادرتني عفواً، فقلتُ: “أظنُّ أنّهم لا يفطنونَ للصلاة بالقدْر الكافي. وإنني واثقةٌ من أنّهم سينهضونَ بمهامِّهم على وجهٍ أمثل إن هم استعانوا بالصّلاة..”. وهذا ما نحتاج إليه، عندما نضطرُّ إلى اتخاذ قراراتٍ بشأن الآخرين.
ـ الناس جياعٌ إلى كلام الله الذي يؤتي السّلامَ، والوحدةَ والفرحَ. ولكن لا يسعكَ أن تُعطي ما لا تملِك. ولذلك يتحتَّمُ عليكَ أن تعمِّقَ فيكَ حياةَ الصّلاة. كن صادقاً في صلواتك، والصِّدقُ كامنٌ في التواضع؛ ولن تظفرَ بالتواضع إلاّ بقبول الإهانات.
كلّ ما يُقال في التواضع غير كافٍ لتعليمكَ إيّاه، وكلُّ ما تقرأ عن التواضع غير قادرٍ على تلقينكَ إيَّاه. ولن تتعلَّم التواضعَ إلاّ بتقبّلك الإهانات، والإهانات ستصادفكَ على مدى حياتك؛ غيرَ أنّ أعظمها هي معرفة أنّك لا شيء، وهذا ما ستتعلَّمه عندما ستجِد نفسك في مواجهة الربّ، في الصلاة.
ـ غالباً ما تُمثَّل نظرةٌ عميقة وحارّة إلى المسيح أفضل صلاة: أحدّق فيه، وهو يحدِّقُ فيَّ. وفي مواجهة الله.. لا يمكنكَ أن ترى سوى أنك لا شيء، ولا شيءَ إطلاقاً.
ـ بعد أن تكون أخواتنا قد قضينَ النّهار وهنَّ يصلّين بعملهنّ الذي ينهض به مع يسوع، ومن أجل يسوع، وبيسوع، يُنفقن في آخر النهار ساعةَ صلاة وعبادةٍ معه. أثناء النهار نكون قد لمسنا يسوع، تحت أعراض الفقير والأبرص الزريّة، وفي آخر النهار نلمسه شخصياً في محراب الصلاة.
ـ لا يمكن أن يلتزمَ بالرّسالة المباشرة مَن ليس إنسانَ صلاة. علينا أن نعي أننا والمسيح واحد، مثلما هو يعي أنّه والآب واحد. ولن يكون نشاطنا رسولياً، حقاً، إلاّ بقدر ما نسمح للمسيح أن يعملَ فينا، ومن خلالنا، بقدرته ورغبته وحبّه.
ـ كيف نعرف أنّ الله يحبّنا؟ حسبُنا أن نحدِّق في المصلوب: ذراعاه أبداً منبسطتان لضمّنا، ورأسه دائماً منحنٍ كي يقبّلنا، وقلبه أبداً مشرّعٌ لاستقبالنا.
لقد جعلَ المسيح من ذاته خبز الحياة لأنه شاءَ أن يهبَنا ذاته بطريقةٍ فريدةٍ، بسيطةٍ وملموسة، ولأنه من العسير على البشر أن يحبّوا إلهاً لا يقوونَ على رؤيته.
ـ الإفخارستيّا هي سرّ الصلاة، ونبع الحياة المسيحيّة وذروتها. غير أنّ الإفخارستيّا تظلّ غير مكتملة إن لم تَقُدنا إلى محبّة الفقير وخدمته.
ـ لا يمكننا الفصل بين الإفخارستيّا والفقير، أو بين الفقير والإفخارستيّا. فقد أشبع يسوع جوعي إليه، وباتَ عليَّ إشباع جوعه إلى النّفوس، والحبّ.
ـ الله صديق الصَّمت، والصّمت يتيحُ لنا رؤيةً جديدةً لكلّ شيء.
ـ إنّ يسوع حاضرٌ، أبداً، ينتظرنا، ويسعُنا سماع صوته في الصّمت.
ـ الصلاة هي اكتشاف الإنسان ذاته بالإصغاء إلى الله يتكلّم.
ـ قد تجد مشقّةً في الصلاة، إن أنتَ جهلتَ طريقها. وعلى كلٍّ منّا أن يُساعد نفسه على الصلاة، فيشرَع باللّجوء إلى الصّمت، فلا يسعُنا أن نضعَ نفسنا في حضور الله المباشر، ما لم نمارس الصَّمت، داخلياً وخارجياً.
التزام الصمت الداخليّ ليس بالأمر السهل، ولكنّه جهدٌ لا بدَّ منه. غير أننا، في الصّمت وحده، نكتشف قدرةً جديدة، والوحدة الحقّة. إذ تصبح قدرة الله قدرتنا، فتمكّننا من تحقيق كلّ شيء كما ينبغي، ومن تحقيق وحدة أفكارنا وأفكاره، وصلواتنا وصلواته، وحياتنا وحياته. الوحدة هي ثمرة الصلاة، والتواضع والحبّ.
في صمت القلب يتكلّم الله، وإن أنتَ واجهتَ الله في الصمت والصّلاة، كلَّمكَ الله. وستعلم حينئذٍ، أنّك لا شيء. وعندما تُدرك عدمكَ وفراغك، سيكون بمكنة الله أن يملأكَ بذاته؛ إنّ نفوس المصلّين الكبار هي نفوس صمتٍ سحيق.
الصّمتُ يُرينا كلّ شيءٍ بوجهٍ قشيب؛ ونحن في حاجةٍ إلى الصمت للنفاذ إلى النّفوس. فالجوهريّ ليس ما نقول، بل ما يقوله الله، ما يقوله لنا، وما يقوله من خلالنا. وفي مثل هذا الصَّمت سيسمعنا، وسيُخاطب نفسنا، وسنسمع صوته.
في صمت القلب يتكلّم الله، وما عليكَ سوى الإنصات له. وعندما سيمتلئ قلبك بالله، وبالحبّ، وبالرّأفة، وبالإيمان، يتسنّى لفمكَ أن يتلفّظ.
تذكّر، قبل أن تتكلّم، ضرورة الإصغاء، وحينئذٍ فقط، من أغوارِ قلبكَ المزدهر يمكنكَ أن تتكلّم، وسيسمعكَ الله.
يسوع نفسه قضى أربعينَ يوماً في عزلةٍ تامّة، وأنفقَ ساعاتٍ طوالاً، قلباً لقلبٍ مع الآب، في صمت الليل.
ونحن مدعوّون للاعتكاف بين حينٍ وحين، في صمتٍ أشدّ عمقاً، وفي العزلة مع الله، فنكون بمفردنا معه، في منأى عن كتُبنا، وأفكارنا وذكرياتنا، بل في تجرُدٍ تام، مقيمينَ في حضوره، صامتينَ، فارغين، ساكنينَ، منتظرين.
ما هو التأمُّل ؟ إنه عيش عيشةِ يسوع، هكذا أفهمه؛ إنه محبّة يسوع، وعيش حياته في صميم حياتنا، وعيش حياتنا في صميم حياته.. لكي نرى، ونتأمّل، يلزمنا قلبٌ طاهر، منزّه من الحسد، والغضب، وروح الخصام، وخاصّة من غياب المحبّة. في رأيي ليس التأمّل احتباساً في حجرةٍ مظلمة، بل إتاحتُنا ليسوع أن يعيشَ آلامه، وحبّه، وتواضعه فينا، وأن يُصلّي معنا، ويقيم فينا، ويقدّس العالم من خلالنا.
ـ لا نملكُ سوى صلاةٍ واحدةٍ، واضحة، أساسيّة: إنّها يسوع نفسه. والصّوت الوحيد الذي يرتفع من الأرض إلى السماء، هو صوت يسوع المسيح. الصلاة، إذن تعني قبل كلّ شيء الاتحاد بالمسيح. كثيرونَ هم الذين يفقدونَ طعمَ الحياة والعمل، ويغمرُ نفوسهم الغيظُ والفراغ، لمجرّد أنهم تنكَّبوا عن الصّلاة. إنني أؤكّد مرّةً أخرى، أمراً خطيراً: الصمت بما يشيعه من سلام، يهيّؤنا لسماع صوت المسيح. الصَّمت، شأنه شأن إغماض العينين، يتيح لنا رؤية الله. عينانا المغلقتان نافذتان يعبر منهما المسيح أو العالم، وعلينا غالباً أن نملك الجرأة والقدرة، بالرّوح، على إطباقهما.
ـ الصلاة الفكريّة هي التي تنبع من الفكر والقلب معاً. ينبغي ألاّ يغربَ عن بالنا أبداً أننا مدعوُّون إلى الكمال، وأنّ علينا السعي إليه بلا هوادة. وممارسة الصلاة الفكريّة اليوميّة شرطٌ لا محيدَ عنه لبلوغ هذه الغاية، وفي معزلٍ عنها تغدو القداسة مستحيلة لأنها الهواء الذي تتنسَّمه النفس.
إنّ ملَكة الصلاة لا يمكن اكتسابها إلاّ بالدُّعاء الفكريّ، والتأمّل الروحي. والصلاة الفكريّة تنمو بمقدار ما تنمو البساطة أي إغفال الذات، وتجاوز الجسد والحواس، وتجدُّد التطلّعات التي تغذّي الصلاة. وهي تتمثّل، حسب قول القديس جان فيانيّه في “إطباق العينين، وإغلاق الفم، وفتح القلب”. إننا، من خلال الصلاة الصوتيّة نتحدّث إلى الله، ومن خلال الصّلاة الفكريّة، الربُّ هو الذي يُحدِّثنا، وينساب فينا، عبر هذا الحديث.
يجب أن تُصاغ صلواتُنا من كلماتٍ حارقة تتفجّر من أتون قلوبنا المفعمةِ حبّاً. في صلواتكَ توجّه إلى الله بكثير من الإجلال والثقة. لا تتحامل ولا تستعجل، لا تهتف، ولا تتذرّع بالصّمت، ولكن في خشوع، وعذوبةٍ فائقة، وبكلّ بساطة، ومن غير أيِّ تصنّع، قدِّم لله تسبيحكَ من كلّ قلبكَ وكلّ نفسك.”

6-
في مدينة ” سكوبي” ولدت الأم تيريزا في 27 أغسطس(آب) عام 1910، في الثانية عشر من عمرها شعرت بدعوة الله، ثم بدأت طريق النور وهي في الثامنة عشر عبر انضمامها لأرسالي “أخوات لوريتو” وهن جماعة من الراهبات الايرلنديات، وبعد شهور من التدريب في دبلن ارسلت الى الهند.
كرست جل وقتها للخدمة في أفقر الأحياء في كلكتا،” لقد توسعت الإرسالية الخيرية التي أنشأتها الأم تريزا، وباتت تضم 570 مركزا لخدمة المرضى والفقراء حول العالم، تتولاها أساسا 4500 راهبة، إلى جانب أخوية تتألف من 300 عضو، إضافة إلى ما يزيد عن مئة ألف متطوع يعملون كلهم في مراكز تتولى العناية بمرضى الإيدز والبرص وسواها من الأمراض المعدية وغير القابلة للشفاء. إضافة إلى إطعام مئات الآلاف من الجائعين والعاجزين، ومراكز للرعاية الاجتماعية ومأوى الأيتام.”
قبل أن تموت في 5 أيلول عام 1997 استطاعت أن تحقق حلمها الذي اعلنته حين تلقيها الجائزة والكامن في:
“العناية بالجائعين والعراة والمشردين والعاجزين والعميان والمنبوذين. كل هؤلاء البشر الذين يشعرون بأنهم غير مرغوب فيهم أو محرومون من العناية والمحبة. أولئك الذين يعتبرهم أفراد المجتمع عبئا عليهم فيتجنبونهم”.