الفضاء الأزرق


(1)

أيها الجسد.. أيتها الروح

يا حارس اليقظة

يا حامية الأنقاض

آن لكما حرية البوح

يا لكما..

(2)

أليس غريباً أن تكون السماء أكثر رأفة من قسوة اليابسة؟

أليس غريباً أن يتحول هذا الفضاء الأزرق لحضن حنون أكثر من حدود اليابسة المدشنة بالموانع بين كل وطن عربي وآخر عربي أيضا؟

هذا السؤال هو ما يذهل كل مواطن عربي يتعرف على معنى الحرية من خلال والمستعد إنسانيته المؤجلة منذ قرون، ليحلق بحريته الرازحة تحت مثاقيل القيود، عندما كان يمضي حياته كلها وهو يتسول المعارف، يكتب خلسة ما يشعر به، كل ورقة يهبها للهباء، بسرية خانقة يطلع على ممنوعات الكتب تحت ضوء قنديل يرتجف وهو يصغي لخبط القلب المذعور من وجودها معه.. هكذا كان حال المثقف العربي ولم يزل في كثير من العواصم، طريداً ومع ذلك يطارد المعرفة، يعيد تفسير أكاذيب الصحف وزيف الخطب وثرثرة المزايدات وتجميل القبح وترويج العار وتحويل الهزائم لانتصارات وتسويق الكثير من الوهم الطاغي..

على اليابسة أقيمت ضده متاريس الحدود والجمارك والتأشيرات والقوانين، دشنت عوازل المعابر لصد كل تواصل معرفي قد يخرب مشاريع الفشل الذريعة والمصاغة لإلهاء الناس، ضده تم مصادرة الكتب والصحف وإلغاء كل وسيلة تبقت لديه للتعبير عن ذاته نحو الآخر، تعددت السدود أمامه لذا راح يتحايل على الحياة ليحيا موته.

معاناة الكاتب العربي لا توصف، لكونهم يهدمون العتبات أمام خطوه، كتابته لا تطبع إلا بمشقة عليه أن يحتملها، لا توزع إلا صدفة عليه أن ينتظرها، لا يتواصل مع الآخر، العربي وليس الآخر في جهات الأرض، فالحدود مغلقة أمام الحروف ومشروخة أمام كل ما عداها من بضائع لترويج حمى الاستهلاك البشع، عليه أن يتهدم ويئن تحت عبء منجزه الإبداعي، السدود تتعالى والزيف الاستهلاكي كطوفان يتحدر نحوه ويغمر أقل الهواء.. ما تبقى له.. كل شيء ينتحر من حوله منذ سنوات بل قرون مضت، هذا الحال تمادى بتشويه بل تكسير إبداعات عربية تنامت كالبراعم، لكن للأسف.. ما أن تتعالى بجذوعها الخضراء الطرية نحو السماء حتى تتقصف وتغدو مهدورة للغبار.

(3)

تقنيات الفضاء بشبكاتها المترامية الجهات، لا تدعنا أبداً نشفع لكبت أنظمة العرب لحريات شعوبها، ولا أن نبرئها من جرائمها المعلنة وتسويفها المرير بحقوقهم الإنسانية، هذه المنافذ التقنية ترأف بنا وتأخذنا نحو بيت أكثر حنواً علينا، على الأقل تؤجل قتلنا قليلاً..

هي طريق كالبحر، رافل بزرقة حرية ترنو لأرواحنا تأخذنا نحو العالم، لنتعرف عليه، نختبره، نتعامل معه دون قيد، حيث الحرية هناك لا تطال، هناك لا يحق لأحد، لا حاكم ولا رقيب ولا سجان أن يحتل مكاناً للعقل أو يرتب طريقا للقدم، لا يحق لأحد سواك أن يختار كيف يحيا وماذا يرى ومتى وكيف يقول ما يراه، حرية لا تقل عن شسع الفضاء، حيث لا أحد.

(4)

عند زيارتك لأي محترف إبداعي، عليك أن ترى دفتر الزوار، لتشهد على مدى الحبور الذي تدونه كلمات الأصدقاء والغرباء، مدى حفاوتهم بهذا البيت الجديد الذي سيضاف لمكنوز مكتبتهم ، كل كاتب يؤثث بيته بسماته، سيرته، كتبه، مقالاته، مختارات من المعارف كلها تدعك تضم العديد من الأصدقاء لذاكرتك، عتبات إبداعية تلغي الهويات والمذاهب والطوائف والحدود، تردم كل الحجارة التي رتبتها سطوة المستبد طيلة حياة البشر وهي تفرق بين أشكالهم ولون بشرتهم وعقائدهم، مكان لا رعب فيه ولا رقيب، تعتاد الكتابة فيه دون خوف، تكاتب الآخرين عبر بريد كالبرق يصل ولا يخطئ القلب، تهاتف الذات بحرية لا تدعك حتى تشعر بهذا الهواء الأزرق الحالم الذي يهيم بك.

(5)

الاستبداد يتصف بالذعر دوما، ليكرس امتداده ودوامه ورخاء هجمته، لذا يسعى دوما لمصادرة حريتك الوحيدة، دوما بمصادرتك والآن بالترويج لخطورة هذا “الغزو الحضاري ”القادم عبر فضاء ”الإنترنت”، الدعوة لتقنين حضوره، لتحصين الذات ضد شروره اللامتناهية التي تنهال علينا ثقافيا واجتماعيا فقط-لا اقتصاديا لئلا نجف-، هستيريا دعوات تنبئ عن تفشي عقلية استبدادية دفاعية وسلبية تثير الغبار حولنا كل صهيل تشنه بدفوعاتها العنيفة، نجابه دعوتها بشك بالغ، بل نصغي بحذر لاجتياح هذا الرفض الموسوم بذعر من تقنيات المعرفة الفضائية هذه بالذات، لكن أمام ترف البضائع وجنون الأجهزة الاستهلاكية يتم الرضوخ لها طوعاً .. وبفتنة لا تلتفت لمدى تدميرها الاقتصادي بتحويلنا لمستهلكين ولا تهتم أيضا بعقول مبدعيها المنتجين لنا على الدوام.

يعمل الاستبداد ضمن مفاهيم تعتمد بكل تلاوينها السياسية والفكرية على الترويج لحقبة تاريخية راهنة تستند على سطوة المصادرات، تحديدا، لكل منتج عقلي أو إبداعي أو فكري لا يرتهن لغلوائهم في مصادرة الحريات، سطوة تعتبر أن كل مرسل ثقافي-حضاري من الآخر مدمر، عدواني، بل سوف يعمل على تقويض جذورنا وتشويه تراثنا، للسيطرة على حضارتنا، ويا لحضارتنا الملهية بحنينها لمجد الحروب ودوام الهزائم، لذا كل ما يصلنا من فكر الآخر، هو بالنتيجة ذو نوايا يجب الاحتراس منها صوناً لعروبتنا، هكذا يسعى أصحاب الوصاية على عقولنا لجعلنا نحيا دفاعاً عنا، دام الآخر يسعى للنيل منا.

هل عرينا بالغ إلى هذا الحد؟

هل انكسرنا وضاعت شظايانا إلى الأبد؟

هل أدركتنا مهاو ألغت حضارة تاريخنا إلى هذا الخلل؟

تتقاسم هذا الكوكب شعوب تتدافع لتؤرخ لحضاراتها، منها من يحسن صياغة مستقبل لأحفاده، ومنها من يكتفي بالعماء الراهن، في كل دورة يبدأها الكوكب.. ثمة شعوب تنشغل بتدوين معارفها وتعمل على ما يستعصي منها، وشعوب مصابة بدعاة يتشنجون ذعرا عندما تصلهم أصداء حضارات ترسي سواعدها كتروس وتدافع عن حريات شعوبها -ما لا ينضب- لتضيء تاريخها وهي تكتشف ما حدث وما سوف يحدث لهذا الكوكب اليتيم.

يكترثون وينشغلون باتقاد العقل لنيل جدارة استحقاق المستقبل، يشيدون سلطة الإنسان وحريته في آن، لأنه وريث التراب الوحيد.. بينما هناك من يضع العصي كل دورة للأرض، يهيل السياط ويعمر التراب بفسيح الجثث، لتنقرض الأعضاء التي عليها أن ترى وتكتشف.. لنراها تتلاشى ببطء كمن يموت ليحيا.

يصلنا ما يصنعون بأيديهم لندمر ما يحلو لنا وبأيدينا أيضاً.

نقرأ ما تزفه مخيلة تترع حرياتها في كتاب كموج يضاهي بحر الجسد، فنقرأ منكسرين بخلجة ترافق زفير الحسرة، كل آلة، كل كتابة، كل حياة.. تأسرنا شعوبا بإرادتها تشعل بالأمل، فيما نختار الصمت كل صوت.

كوكب واحد.. ما لنا سواه..

ما أقسى أن تتقاسمه كائنات بعضها يتقدم والآخر يرتد.. ليلهو بهزائمه وبانفجارات جثث شعوبه وتضاريسه كل حرب.

ماذا نفعل وهم يتقدمون نحونا بكلمات ومعارف تشعل شغافنا، نحن المشدودين نحو قبر كدنا نوصيه ألا يتأخر..

نحن المنشغلين بخلايا تتذمر من بطء الدم ويأس النبض.. كل قلب يخفق بخجل كلما تذكر أنا عربا أبحنا عروبتنا لخيانات هنا وقذيفة هناك.. منذ أن أهدرنا دم “طرفة بن العبد” حتى قتلنا “المتنبي” وتنادمنا بدمه الحي..

كيف لهم أن يلغوا بوهم” الغزو” حداثة حاضر أكثر يقظة من ماض قيد البعث ومستقبل قد يبدو..

ولأنا اعتدنا أغلالنا، طاب لنا كل دفاع يتناهض من تفشي الذل أن نبعث الحذر ونتوهم حلول الغزاة حول قلاع أدمنت-طيلة تاريخنا الراهن- فداحة الانهيار..

كما يذكرنا” أبو الطيب” صاحب النبوءة التي رافقتنا قرونا ولم تزل:

خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا

إن الكلام لهم حلال مطلق

فالموت آت والنفوس نفائس

والمستعز بما لديه الأحمق.