(1)
” أنت تحيين فيّ وأنا أحيا فيك،
أنت تعلمين ذلك وأنا أعلم ذلك”
جبران.
“كثيراً وبحنو- كثيراً وبحنو”
مي.
(2)
الشعلة الزرقاء رسائل تضمنت كلمات الحب التي وحدت بين روحين في عذوبة “مي زيادة” ورقة “جبران خليل جبران”، كلمات تنضح بأحاسيس رهيفة، تعبر كل يوم، سبعة آلاف ميل، لتصل بين قلبين يرتعدان على الدوام، أحدهما يقيم مرتجفاً في مغارب الأرض، والآخر ملتاعاً في مشارقها.
منذ عام 1914 حتى عام1931، كانت ثمة شعلة زرقاء تومض في ليل عاشقين، لاذا معا بجفوة غربة سعرت أتون الحب، راهنا بقدرة الحرف على تحمل طاقة القلب.
“. إن تلك الشعلة الزرقاء تنير ولا تغير، تحول ولا تتحول، وتأمر ولا تأتمر.”
(3)
تتميز تجربة مي وجبران بتألق روعة القلب، إلى حد توهج العشق على الورق عبر كلمات مضاءة الى الأبد.. من الصعب أن تخبو مع جنائز الوقت، ذلك لتحول العلاقة ذاتها من جسدين إلى ورقتين، بمعنى أن جمرة الفقد، احتداد العاطفة التي طالت على ما يقرب من عشرين عاماً، دون أن يلتقيا إلا على جنة الورق، استطاعت أن تخلق البديل الحتمي، لينوع جسارة هذا الحب، الذي تجسد في تحوير ملامح الورقة، لتتماهى بروح وجسد الآخر، رسالة جبران هي كل ذاته، كتابة مي هي كلية ذاتها أيضاً، وعندما تحتضن “مي” ورقة “جبران” لا تحتضن سوى خفق قلبه، وعندما يقرأ كلماتها ،لا يرتشف بنظره سوى عطر روحها، هكذا تحقق التضام النصي بينهما، ليرفلا معا بتضام روحي، أذكى جمرات جسدين التحما معاً، في أغرب تجربة لأتون حب مضى عليها غبار الوقت، دون أن ينال حرفاً واحدا منهاً.
” نحن في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فإلى أي مكان تريدين أن نذهب في هذه الساعة المتأخرة؟ الأفضل أن نبقى معا في هذه السكينة المعذبة.. هنا نستطيع أن نتشوق حتى يدنينا الشوق من قلب الله.. لا تنكري أن النعاس قد قبل عينيك. لقد رأيته يقبلهما. هكذا كما يقبلون، فألقي رأسك هنا، إلى هذه الجهة ونامي، نامي يا صغيرتي، نامي فأنت في وطنك.”
(4)
مهما حاولت التدليل عبر إيراد تضمينات، تشي بخطورة هذا الحب الإبداعي، لن أتمكن من التأكيد على عمق هذا الولع التعبيري، المنتاب بمحاورات فكرية، فلسفية، نورانية، حياتية، مسجورة بتفاصيل لم تنس أن تسرد ما اعترى جسديهما معاً..
اكتنزت تجربة الرسائل، عندما اشتملت على مصائر يومية على كل منهما أن يحياها مع توأم القلب، تبدى ذلك في تعامل “جبران” وترامي “مي” لتأسيس اندفاع معذب ومبهج في آن، ترسيم صلة بالحبر، تحولت لدم يوحد رعشة قلبين في محنة الفقد، من المحبة استمدا معا، ذخيرة للتأمل ومناجاة الحواس:
“منذ كتبت إليك حتى الآن وأنت في خاطري. لقد صرفت الساعات الطوال مفكراً بك مخاطبا إياك مستجوبا خفاياك مستقصيا أسرارك، والعجيب إنني شعرت مرات عديدة بوجود ذاتك الأثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في كلماتي وأعمالي.. فقد قلت لي مرة: ألا أن بين العقول مساجلة وبين الأفكار تبادلا قد لا يتناوله الإدراك الحسي ولكن من ذا الذي يستطيع نفيه بتاتاً من بين أبناء الوطن الواحد.”
(5)
للأسف، لم يشتغل النقد العربي، على مدونات الرسائل، ليفسر سر تعلق قلبيهما معاً عبر تحليل القيمة الابداعية في نصوصهما، بل التجئ لتبرير ذلك الحب بحاجة “جبران” لملهمة تعينه على إنجاز إبداعاته الشعرية، وسعى لتحويل “مي زيادة” إلى أنثى فقط، موهوبة ومغوية، أغرت العديد من الكتاب والشعراء في صالونها الأدبي، وشحذت أفكارهم للكتابة تدلها بعشقها، كما حدث للعديد من رواد الفكر والإبداع في مصر.
أن حركة التوثيق النقدي التاريخي العربي، لم تحلل ما تراه، إلا بسطحية لا تختلف في مرجعياتها، من مؤسسات القمع الفكري في رعايتها لسيادة ذكورية تستبد، ليس آنذاك في بدايات القرن الماضي، لكن حتى الآن..
لفرادة “مي زيادة” – كما سنتلمس في الجزء الثاني من صوت- ولفداحة “جبران” علينا ان نشهد بجرأة لما حدث، مي لم تكن دمية لإغواء أصحاب العقول، بل راعية قلم وعقل، ناهزتهم بحكمة كلماته، وفصاحة صوتها، امرأة دافعت عن حريتها طيلة عمرها، امرأة من الصعب أن توصف بلاغة جرأتها أمام عنف الخدور، وسجن المشربيات التي تحلى بها ذاك الزمان، “مي” امرأة مسكونة بشفافية فراشة، ماتت بقسوة لا تطاق، وهي تلهج بحرية الهواء لرفيف أجنحتها، لذا لنا أن نلغي غبن الرواة ونحتكم لوقيد كلماتها:
” أيها الرجل لقد أذللتني فكنت ذليلاً. حررني لتكن حراً.”
كذلك كان جبران، بالرغم من انهيال التكريم والتقديس لسيرته ومنجزاته الأدبية، إلا أنه تعرض مثلها لمشاع التشكيك في مرام قلبه، من ماري هاسكل حتى أخريات، لا.. لم يلتفت النقد للشعر الذي انهال في هذه الرسائل، ولم يقترب النقد إطلاقا من شاعرية الحب.
“ألا فأخبريني كيف عرفت كل ما تعرفين وفي أي عالم جمعت خزائن نفسك وفي أي عصر عاشت روحك قبل مجيئها إلى لبنان؟ إن في النبوغ سراً أعمق من سر الحياة.
انظري يا محبوبتي العذبة كيف قادنا المزاح إلى قدس أقداس الحياة.. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة.”
شعلة استعرت بلهيبها وهي توقظ قلبين لهما كل هذا الليل
(6)
” ماذا تعني رنة التوجع في كلماتك الجميلة؟ ما معنى الجرح في جبهتك؟ سوف أصلي لأجلك في سكينة قلبي، والله يباركك يا مي ويحرسك”
جبران خليل جبران
” أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني.”
مي زيادة
(7)
اسماعيل صبري:” إن لم أمتع بمي ناظري غداً، أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء“
أسعد حسني:” كانت مي على رغم سعة اطلاعها وعظيم استنارتها أبعد النساء عن “الاسترجال” وأشدهن تمسكاً بالخصائص النسوية بقامتها الربعة وشعرها الطويل يجلل صفحة جبينها.”
سلامة موسى:” لم تكن مي جميلة ولكنها كانت حلوه.”
فتحي رضوان:” أما مي نفسها فممتلئة غير مترهلة وأظنها أقرب الى القصر من الطول ان مي زيادة ظاهرة اجتماعية أكثر منها أدبية.”
هدى شعراوي: ” لم تكن مي على وسامتها ووضاحة وجهها جميلة بالمعنى الصحيح للجمال“
إيلين عبود: ” لو ان ادباءنا اعزهم الله تحولوا عن البحث فيما يتعلق بعشاق مي الى البحث في تراثها الأدبي على ضوء الحقبة التي عاشت فيها لأسدوا الى روحها جميلاً وأسدوا فضلها الى الناشئة من فتيات وفتيان جلهم يجهلها أديبة عربية لها مؤلفاتها القيمة وخواطرها الرائعة.”
مي زيادة: “هل من منفى أبعد وأكثر وحشة من الغربة في قلب الوطن بين الاهل والاصدقاء.”
(8)
بالرغم من الغبن الذي تعرضت له “مي زيادة” من قبل رواد الثقافة، الا أنها لم تتوهم التعويل على انصافهم لتجربتها الادبية، بل دعتنا لنستشرف مدى عمق كتابتها الممهورة بنقاء ملائكي في كتاب “الأعمال المجهولة” للكاتب” جوزيف زيدان” بعد عثوره عليها مغبرة ومهملة بين رفوف “دار الكتب” بالقاهرة، مئات المقالات والكتابات النثرية المنشورة في “المحروسة” والأهرام والمقتطف، حروف نورانية تدعك في خرس لا تقوى على الكلام، كلمات مصانة بحرية وجرأة امرأة حاورت الآخرين، وتصدت لمواطن الخلل في منظومة القيم والمفاهيم الذكورية المتسلطة، التي لم ترى فيها سوى امرأة جميلة ومغوية وملهمة لمواهبهم المتسيدة، هكذا كانت تتحداهم:
” الجوهرة ثمينة في ذاتها، فتقديرك لها شهادة لنفسك بالمعرفة والذكاء لا شهادة للجوهرة بنفاستها.”
” لو كنتم محقين لما احتجتم الى كل هذا الاسهاب.” “ينصحني بعضهم كأني استشرته وسلمته قيادي.” “المستنقعات تحكم على النهر بالهوس والهوج لأنها تتابع سيره على الدوام وهو لا يستريح.”
(9)
ان قراءة تجربة مي الأدبية وتعقب حياتها الصعبة لا تكتمل الا بفعل حرقة التوجع التي سوف يصاب بها من يقرأ كلماتها “المجهولة”، لكونها تستلهم قدرتها على التخلق بجرأة لا تعبأ بالصخب النقدي الذي لم يرى فيها سوى “حلية الزمان” وانثى تجرأت على مجالسة الرجال في صالونها الأدبي، منذ 1886 حتى 1941 واجهت “مي” حياة لا يستهان بمدى قدرتها على ترجمة مناب القسوة ضد الموهبة التي اينعت في روحها.
هل لنا أن نسأل: كيف نفسر ما حدث لها من غبن مؤسسة ذكورية مهيمنة على مقدرات الثقافة والابداع ولم تزل للأسف.؟
في العقد الثاني من القرن ما قبل الماضي، وفي عمق عهد الحريم ذوات الخدور الحجرية وأقفال الحديد، المسربلات بالأغطية والحجب، الصم والمبتورات الألسن، كيف استطاعت “مي زيادة” أن تكسر حديد هذا السور، وتتسلح بالثقافة العربية من اصولها العريقة على يد الشيخ الازهري “مصطفى عبدالرازق”، وتتحصن بلغات وثقافات اجنبية متعددة المصادر، ناهيك عن المعاهد والكليات التي حرصت على التزود بعلومها، ثم – وهنا التحدي الفريد- تأسيس صالونها الادبي منذ 1912، فيه حاورت اعلام النهضة من أحمد شوقي، عباس العقاد، سلامة موسى، شلبي شعيل وآخرين أولهم طه حسين.
كيف لها ان تنال طيلة سيرتها منذ المهد حتى الحجر عليها بحجة الجنون، حتى موتها، تلاويناً من النبذ والاهمال عبر تحويلها الى دمية مغوية لمواهبهم الذكورية، عبر توصيفات لا تليق بنقاد وكتاب اعتبروا رواداً للنهضة آنذاك، لنراهم رجالاً منشغلين بحكايا مأخوذة بسبر الاقاويل عن حقيقة قلبها، ذبول جمالها الجسدي، وتقصي أمورها الحميمية بطريقة مرعبة.
هكذا كانت تبوح لذاتها: ” رغم الانحطاط والانزواء، ظلت المرأة مسلحة بسلاح لا يفل، طلت مسلحة بالحب الذي هو حياة الأجيال ومغزى الحياة.”
” كم نزيل فيك مظلوم ايتها السجون، اذ قوبل بذوي الجرائم البكماء التي لم يذكرها القانون.”
لقد تحدتهم مي حتى آخر لحظات عمرها، كما تتذكر الروائية غادة السمان:” من اللقطات التي توجعني في حياة مي زيادة، مشهد تلك الأديبة في ندوتها الأخيرة في الجامعة الامريكية، وهي تخوض امتحان ما بعد الجنون، تغادر مستشفى المجانين الى المنبر بشعر كلله البياض والحزن، يومها لم تصبغ شعرها الذي زاده ثلج الوحشة بياضاً، ربما كفعل تحد، كإعلان عن حقيقتها الداخلية وعن حزن يفتك بقلبها ولا ترى مبرراً لأخفاه في مهرجانات الفضول والاقنعة.”
(10)
جبران: “قد ولدت وعشت وتألمت وأحببت لأقول كلمة واحدة حية مجنحة، لكني لم أصبر، لم أبق صامتاً حتى تلفظ الحياة تلك الكلمة بشفتي، لم أفعل ذلك بل كنت ثرثاراً فيا للأسف ويا للخجل! وعندما صرت قادراً على لفظ أول حرف من كلمتي وجدتني ملقى على ظهري وفي فمي حجر صلد.”
مي: “ننحني أمام القبر الذي ينام فيه رجل هو بروحه للإنسانية كلها ولكنه بجسده غريب بين الغرباء..
فهنيئاً لك برحيلك، لقد أعطيت كثيراً، وإن أغاظتك هذه الكلمة، لقد أعطيت كثيراً وقال فيك الشرق للغرب: ها أنذا
حسناً فعلت بأن رحلت..”