حاورتها: رولا قباني
جريدة الزمان (الجزء الثاني)
حين يغيم الجسد وتنهض شهقة الحب..
الشعر آخر من يعبأ بالصراخ والكرنفالات
فوزية السندي شاعرة آثرت القصيدة في عزلتها الجميلة على ضجيج الحياة، تكتب لتحيا، وتكتب ايضاً لأنها، ربما، لا تحسن مخاطبة الآخر عبر الكلام، تكتب أيضا وأيضا لأنها فقدت القدرة على التواصل مع محيط لا تستطيعه، فهو محيط يعجل بكتابة نهاياتنا ولا يسعفنا على الحياة.
في مجموعتها الشعرية ما قبل الأخيرة ((آخر المهب)) كتبت السندي:
((أحيا كالصمت
صوت الموت
مذبوحة بما يحدث
بما لا أقوى.. كالحديث عنه))
هكذا أيضاً لجأت الى عزلة، حيث تكتب قصائدها قصيدتها بصمت، وتنشر بصمت، وتؤكد مع كل مجموعة شعرية صفاء صوتها الشخصي من دون أي ضجيج، كأنها تقول ان الضجيج الوحيد الذي تصنعه القصيدة هو ولادتها ووجودها بين دفتي كتاب.
وفي هذا الصمت يمتد صوت فوزية السندي، كشاعرة لها لغتها الخاصة ضمن مشهد شعري مترامي الأطراف فيه ما يتشابه وفيه ما يشد ليكتب خصوصيته.
وفوزية السندي شاعرة من البحرين أصدرت أربع مجموعات شعرية كان أولها ((استفاقات)) في العام ١٩٨٢، ثم الحقتها ((هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث)) و((حنجرة الغائب)) وأخيراً ديوانها الصادر مؤخراً والذي حاورناها حوله وهو ((ملاذ الروح)).
تخاطب في قصائدها شفافية النفس باحثة عن الجميل، منتهزة عزلتها من الكلمات رسائل حميمية الى الآخر لبذي تقول انها تهديه ((ما انتصر وما ضج من هزائم تحتفل وسيوف تستولي على غنائم الروح)) غير آبهة بردة فعله ((يقرأ أو يهمل، يقترب او يرفض، يفهم أو يعجز، له حرية لا تقل عن حريتي أن حرف الحبر وتدوين ما اعترى ليل الروح)).
الحرية الصغيرة التي تمارسها السندي لحظة الكتابة تهديها للأخر، وهي تقف ((أمام ضراوة المهب غير ضارعة لأحد))، وتصرخ بالأخرين الذين اعتروا حياتها في ((أخر المهب)) قائلة:
((لن اغفر لكم
كل هذا الاجتياح))
وتقول ايضاً: ((بينكم صرت أقل آلفة)).
هذه الشاعرة كتبت القسوة التي أحاطت بها، وكتبت لؤم الحياة، وكتبت، أيضاً، تلابيب الذاكرة وهي تستنجد بلحظة الشعر لتكتمل بها أن الحلم. حاورتها عبر البريد، فكتبت نصاً أدبياً جميلاً، أشعل الكلمات بنار تشبه الشعر، وكشفت عن روح صغيرة تحاول أن تقاتل بمفردها حياة كاملة من الألم. هكذا جاءت كلماتها لتشف عن روح شاعرة قبل الكتابة وقبل الكلمات. هنا نص الحوار:
في قصيدتك ((للغرفة.. لبابها الموارى ابدا)) تتساءلين: ((ممن تخافين)) واسألك السؤال نفسه.. في القصيدة وعلى مبعدة منها، ما الذي يصنع الخوف، وهل لهذا الخوف قيمة إبداعية؟
-منذ البدء.. شكل تماس الكائن مع الحياة منهلاً للخوف، تبدت هذه الغزيرة المثلى بإحساس دائم بالتهديد الجسدي والروحي، اللامستقر الذي يلغي هدأة الكائن ليلقيه وحيداً في ظلام الكهف محتمياً بأعضائه، لذا اجاد فن الحفر.. ونحت الذات على صخر وحشته بجدارة الغريب، حتى الآن كأنما نحيا الوقت كله متأهبين لمثل هذه المطاردة، النهار والليل يستويان في مدى تأهيلنا بجدارة لهذا الفزع الأشد وطأة من الخوف ذاته، ومجرد نظرة بانورامية لمآلنا المعاصر من تدمير وعنف يتصاعد كفيلة بحفر هذا الهلع عميقاً في بئر الروح.. وليكون الكاتب أكثر الكائنات عرضة للحياة نراه يتبارى معها – كلما استعرت في جحيمها – مترجماً ما يعتريه من غور القلق الوجودي المستفحل في ذاته واللامفر الذي يدرك خطاه كلما حاول وهم النجاة.
تستدعي العملية الإبداعية كما أراها مثل هذا الخوف الكامن، بل تستثير كل الحواس والنوازع الغرائزية بمختلف تجلياتها لكون الإبداع فعلاً يكمن ويتجلى في حث وتصعيد كوامن الذات وخفاياها لتعرية المكبوت الشرس من قناعه الأصم ولنحت رؤاها بحرية على الورق، لإهدار صمت الأعماق، لمكاشفة الموارى والمؤجل والغريق من حالات الروح، لذا تتمثل القيمة الإبداعية للحزن في مدى شفافية هذا التناغم بين ورق الكلمات ونبض الذات الذي تعتمل فيه كل الحواس والمشاعر المؤججة.. كل ذخيرة الحياة.
-وفي القصيدة نفسها يطل سؤال ((لمن تدفعين النبض عالياً)) وأسألك مرة أخرى، لمن؟
-سؤالك يحتمل سؤالين الأول يتعلق بالنص والآخر بي، مع كوني لا أرى الفرق بينهما لذا احتمل سؤال النص الأكثر دلالة كما يبدو لي، دائماً أرى الشعر كفيل بأسئلته واجاباته المضنية، لجرأة حرفه وحرية صمته، لرغبته في البوح والمواربة في آن، لذا إذا عدنا للنص ذاته سنقرأ معاً:
((لمن تدفعين النبض عالياً
كلما شارفت بعينيك ملامح تقذف القلب
ببهجة السهم من قوس لا يهجع
لتقتلين برهة ثم تعاودي النظر
ليكون القتل الأخير نصيبك الابكم))
يحدث – حين الكتابة أو الحياة – أن ادفع النبض عالياً حين تداهمني – وانا على غفلة مني – رؤى تذبح القلب برعدة تطيل النظر، ذلك لاعتناق العين محنة القلب، كونها نافذة الروح التي تطل على الهول وترتشف مما تراه ما يفيد الأصابع حين الشهادة وما يسري عن الروح أوان الحب.
تركة العزلة
-منذ سنة ١٩٨٢ حينما أصدرت ديوانك الأول ((استفاقات)) أطللت على المشهد الثقافي الشعري كشاعرة مختلفة لها لغتها وايقونتها الكتابية الخاصة، لكنك بالرغم من هذا كنت هادئة وبعيدة، كأن بك تستكينين الى عزلة دون ضجيج.. هل توافقين؟ ولماذا؟
– ((الكتابة تركة العزلة)) هكذا كنت أراها دوماً، منذ وقت قديم اتسمت علاقتي بالكتابة بحتمية الهدوء وجلال البعد قدر المستطاع عن ضجيج المعدن بالذات وصخب الخارج، ليس لحظة الكتابة بل حتى عند الحياة، لا أدري لماذا.. ربما لطبيعة اعتدت عليها..
منذ الطفولة كنت أحسد الليل والشجرة والغيمة والهواء على كل هذا الهدوء أبان الخلق، حتى الآن اخجل من علو الصوت البشري على لحن الحديقة الذي تريقه العصافير بفتنة بالغة وتهدينا أياه الوردة بغنجها العصي على العطر، ربما ايضاً لاتصاف علاقتي بالآخر بخلل ما.. لا آمن له ولا اثق بهوله، لذا أميل للبعد.. للبيت.. للغرفة.. للورقة، ولثقتي بأن الشعر هو الخجل.. الهامس دوماً.. هو ما لا يصل الى حين يراق الليل له.. حين يغيم الجسد وتنهض شهقة الحب، الشعر آخر من يعبأ بهذا الصراخ والكرنفالات المحمومة التي تسعى لتسليع الكتابة مغتشة بمهارة الترويج.. الكتابة تستدعي مثل هذه العزلة التي تحميها كما المحارة تماماً من عنف الردم، حتى حين ينتهك الرمل خلوتها تداريه ببدعة الخلق لتحيل نفوذ الألم لؤلؤة تتبلور بنقاوة لا تبارى.
الفعل الحداثي والمغاير
-فوزية السندي داخل مشهد شعري مترامي الأطراف ينسج القصيدة الحديثة والمغايرة، كيف ترين هذا المشهد الشعري؟
-أرى هذا المشهد الشعري كالوردة الطالعة من صخر الصحراء الأشد رعونة وسخونة من حوله، تقف بثقة ضد كل – الشوك – التهاويل التي نقرأها كل نهار حول أزمة الشعر ونهاية الشعر وموت الشعر، هذه المعتركات المسماة – نقدية – والتي تبالغ في قتل أجمل الشرفات الإبداعية، التي يتباهى بها تاريخ حاضرنا العربي لكونها الوحيدة التي تؤهله لدخول القرن القادم بثقة اليتيم الذي ليس له حضن سواها، ان واقعنا العربي على المستوى الحضاري لم ينجز فعلاً مغايراً وحداثيا مقارنة بالحضارات الأخرى التي تشتغل على منجزاتها العلمية والاقتصادية والابداعية التحديثية للعالم باسره، لم ينجز غير ما ابدعت الأصابع التي تحدت الحديد كله، وهذا ما جعلها تتصدر واجهة المباهاة الحضارية ابداعيا، والحديث هنا عن التجارب التأسيسية والمتفردة على صعيد المنجز الشعري والابداعي ، ايضاً التجارب الفتية المتوردة في حقول الابداع الأخرى، هكذا أرى. المشهد الشعري العربي عمقيا ورؤيويا من دون الالتفات لشوائب هنا وهناك عادة تعتري كل التجارب الفنية وتعاصرها بشكل مؤقت وغير صادم.
المشهد الشعري الخليجي
-لنتحدث عن تجربة الشعر من وجهة نظرك – في الخليج العربي، هل من لغة مغايرة؟ هل من أفق مغاير؟
-في الخليج العربي هنالك بحر وبشر يحتدمون على هذه الجزيرة. أو تلك الصحراء، ليسوا رعاة نفط كما يشاء لنا التنظير الدائم في صحافة الثقافة العربية ان نعرف وهو يتحدر من اشتغال ينضد الابداع بين عواصم للمركز وأخرى للهامش، ليسوا رعاة نقد ولكنهم دعاة تاريخ وارث ثقافي وحضاري ايضاً، تتصاعد فيه جذوة الشعر من أشد المنعطفات حدة – من ماض يعاصر دمه – ملتاذة ببريق يصف عزلته.. رغم قسوة الحياة – الوفرة النفطية هنا مدعاة للهلكة وترف الاحتضار للمبدع على الأقل في حساب حرية الروح – وبالرغم من تهافت الحيرة على المستوى الوجودي ونفوذ أسئلة الراهن وطغيان سيول الاستهلاك وهيجة صليل الردة وسيادة أعنة الكبت.. ضيق الهواء.. كلها شكلت تحدياً أمام رعب الجسد. ليزدهي بصيت الحناجر وقدرة الأصابع على النيل من كل ذلك.. هل من لغة مغايرة؟
الرصد المبدئي لحركة الشعر في الخليج والجزيرة العربية لابد ان يصطدم بتجارب شعرية – ونقدية لافتة – استطاعت منذ زمن ان تعلن عن صوتها المتفرد – وهذا حتم أمام وعر الرمل المالح ان ترى النبت يزهر عالقاً برائحة الصبار – كذلك هناك تجارب شعرية أخرى فتية تعتمل لبلوغ القدرة على تحدي ما حولها لتدوين كتابة تشبهها، هنالك هتف بين ملاغاة الموج ودلالة اليابسة، أراها لغة مغايرة تشبه عناد ارض ذات افق لا ينتهي بالبحر.
الشعر والتمويه
– ((أخر اليد.. رجفة تموه المعنى لتشتبك الحروف)) هذا مقطع من قصيدتك ((رجفة تلي اليد)) والتي أهديتها ((للحياة لتبدو اقل قسوة)) هل هذا المعنى يتضمن كتابتك للقصيدة؟ بمعنى أخر هل تكتبين القصيدة ثم تموهينها؟
-بعد كتابة القصيدة أقرأها فقط، هذا ما افعله لأعرف ما حدث لي طيلة غدر من الوقت لن أشفى منه، وهذه هي الرجفة – التي تعتريني حين القراءة – التي تلي – الكتابة فعل اليد، لا مكان للحديث ونحن أمام الشعر عن – التمويه – كجرم عقلاني بغيض يلي الكتابة لكونه فعل لا تشويه لا علاقة له بالشعر، آن الكتابة يطغى الشعر وحده ويرتب كمائنه ويطلق أعنة الذاكرة لحوافر الحروف.. يبدد راية النبض وحين ينتهي من ذلك.. يدعنا لنصاب به.. كل تدخل سوى القراءة يفسد شفافية العناق بين نفضة الحبر وريش الورق..
ومقاربة النص ذاته قد توضح لماذا اهديت هذا النص للحياة وكيف لتبدو أقل قسوة.
-وسؤال الى سؤال قبله.. تهدين قصيدتك الى الحياة.. لتبدوا اقل قسوة؟ من أين تأتي القسوة؟ من ذا الذي يمتلك مفاتيحها؟
-الحياة هنا لا أعنيها كمشكل وحيد وقدر يابس، ولكن بارتهانها لمرتكبات الانسان، الانسان هو منتج القسوة بجدارة لا تخضع للمنافسة من مثابرة كائن سواه، هو المشتغل الأول على صيرورة تدمير الأرض ومن ثم إذا فاز أكثر بفضاء مكتشفاته قد يتحقق من محو الكون، الانسان بثيمة النسيان الكامنة فيه والملهمة له للانجراف في غيه أكثر.. سفاح تمرس تاريخياً برفقة السيف على جز الأعناق، ثم علاقة مشينة ومخلة بشرف انتمائه البيولوجي للكائنات الأخرى، تراث طويل من بارود العنف يتفجر بذاته ويستوي بين يديه، لتبدوا كوارث الطبيعة الأزلية التي تحدث غصباً عنها وضمن توازنات جيولوجية لا يد فيها لعبة بريئة إذا ما قورنت بسعيه الحثيث لتصعيد الدمار وتفعيل الحرب كل قتل.. لتدوين قداسة تاريخ يفيض بالجثث، اشتعال لا يكف ولا يهدأ يطال كل شيء، والمفارقة التي – للأسف- تديم للقسوة نزوعها المتأجج تتبدى في معترك أزلي وخاسر دوما بين طرفي التناقض: الأول: مناهضة يومية ضد العنف تشمل الطبيعة هذا يرافق هم كل مبدع لا يرتضي بما يحدث لجسده وروحه في آن..
والآخر: طائفة من البشر يشفق على عنفها الوحش، موغلة في الدم تتصدى لكل ذلك..
هكذا تعيد القسوة انتاج الدمار ذاته كل نهار.
الموت في القصيدة
-في شعرك تتعدد مفردات الموت، بل ام كلمة موت تبدو منتثرة بلا ريب بين سطور القصائد، ما الذي يعنيه الموت لك.. هل تجدين فيه ملاذا للروح؟
-الشعر ملاذ الروح الأول والأخير، الموت والولادة تؤام يبدأن معاً سيرة الكائن، ليحيا يلازمه الموت كنهاية مؤجلة لها ذهل البغت وحضور الفزع كله، لذا تداوم مفردة الموت على حضورها شعرياً كأنها تعبر عن تمثلها المؤلم الدائم في ذاكرة تقسو على مخيلة ترتضي، وهذا يحدث – ربما – لخوفي من فقد الشعر ذات موت، ويعزيني قولي في الشعر بأنه:
((راعي جثتي آن الغسل والماء يبكي، حامل النعش المصاب بي تراب القبر: من يواسي روحا للهلكة ويضم جسدا للفزعة من بعده، خليلي في خلوة القبر)).
هذا بشكل عام أما فيما يتعلق بكتابي ((ملاذ الروح)) فلقد تعرضت لغدر الموت وأنا اكتب آخر الشعر منه، كانت تجربة صادمة تمثلت في احتضار وموت صديقة القلب الكاتبة والصحافية عزيزة البسام وبعدها بموت أمي ((موزة)): رهينة الألم، ليتلوها بعد وقت قليل أيضاً – ذهاب أبي: محمد وحيداً الى عنف القبر، هجمة الحزن خلقت ثقلاً قاسياً للموت، طوح بأرجاء النفس كما لم اعرف من قبل، تعرفت عليها بدقة تفاصيل كنت اجهل هول نفوذها في رعب الذاكرة وقسوة نحرها للروح، أشعر – الآن – بأني لم أتقن فن الموت شعرياً بعد ولكنه تفلت في مشافهة آلمت ببعض النصوص ((ملاذ الروح)) هجساً بدئياً بعدائه الشفيف ليس أكثر ولكنه آت.
–