السمندل رامي الجمرات


(1)

“واجبنا الصعب-السامي- تمكين البسطاء من وعي شقائهم، رمي الجمرات في باحة كل بيت مستكين، لماذا…؟

لكي لا يتعفن العالم في هدوء وركود، لكي لا تتآكل الروح بالصمت والرضي”.

هكذا تحدث الروائي المتصوف اليوناني “نيكوس كازنتزاكي” (1883-1957) الذي تكفيه “حجرة ضيقة على شاطئ البحر، أو قمة جبل.. وقلم وورق، وفواكه كثيرة وكائن بشري يحبه.. ليزرع في كل الرياح”.

بجدارة الشاعرة، الزوجة الوالهة لذكراه، دونت “ايليني كازنتزاكي” ما لا يدركه أحد، عن حياة مستها بشغف العاشقة قلباً لا يتعب، أدمت الحبر في كتاب”المنشق” الذي ناهز خمس مئة وأربعة وثلاثون من أرق الورق، للكشف عما أحتمله قلب صاحب”زوربا”، “الأخوة الأعداء”، “تقرير إلى الغريكو” ورائعته التي أمضى عشرين عاماً، وهو ينحت حروفها كالسمندل- كما يصف نفسه- “المسيح يصلب من جديد”.

عندما ابتعد عن الموت قليلاً، همس لها بخفوت النبض:

“سوف أموت وكتب كثيرة بداخلي”

هكذا اكتوى”نيكوس” بحرقة موهبة تدين حياة لم تعد تكفيه، ليدون على جراحها ما يمزق روحه، موحياً بكلمات ذات دلالة أليمة، عن مدى اصرار الحياة فيه على شهقة الكتابة، رغماً عما يلقاه الجسد من معول الألم.

“المنشق” سيرة تقترب إلى حد بالغ برؤى بليغة كالجراح، لكاتب لم ينس أن يحتز كل شيء، ادلهم بنوائب حياته، رسائل للأصدقاء، سرد يتعلق بكل عناصر الطبيعة، إفشاء تام لخوابي العقل والقلب معاً، كلمات مصابة بصبر اليأس واندفاع الأمل، توجها بسرد شعري لامرأة عانقت معه ما تبقى من قمة القلم.. حتى سقطت يده اليسرى من على جبينها، ليواجه هجمة الموت.. ولتجابه – وحدها- وعدا وتحدياً.. غاية الصعب:

“- عندما أموت، اكتبي عني كتاباً.

– لا، لا، لابد من كاتب موهوب.

– سوف تضعين كتاباً عني يا “لينوشكا”، عليك أن تفعلي ذلك، لأن الآخرين سوف يقولون عني أشياء غير دقيقة، أنت الوحيدة التي تعرفينني جيداً.”

لتهدر- نحونا- محنة الفقد:

” وها أنذا أخوض التجربة، أن أكتب رواية، هذا ممكن وبسهولة، أما أن أصفك، وأضمك، وأثبتك بإبرة ذهبية، كما لو كنت أثبت فراشة، فهذا ما يثور له قلبي، لأنني أحب الفراشات وأحب تخيلها وهي تتطاير فالتة فوق رأسينا”.

(2)

صاحبت “ايليني” ذاكرة الوجع، كتابة كل شيء.

لكنه أحبها حتى آخر العمر، كلما اكتشف في رأسها شعرة بيضاء هتف: ” يا للفرحة.. أنك بدأت تهرمين بين يدي!”

“إلى أين نحن ذاهبان، لقد وضعنا دفة المركب نحو الهاوية”، ” بما انه ليس هناك نقطة نهاية لشيءابتدي به، سأظل وفياً لك للأبد، رغماً عنك.”

خاض” نيكوس كازنتزاكي” كل معترك شديد الوعر، من خبط القلب حتى قيد الوطن وصخر الغربة، جاب تجربة الكتابة صاعداً نحو أمل صعب أشعل فن الحواس:

” كالسمندل أصيب السمع، ليس السمع فقط، أنصت بعمق إلى حد بعث الصوت القاصي، وكما يرتعش الجسد بكامله، لأنه لا يعرف أين سيقبله المحبوب، ترتعش روحي للقبلة اللامرئية.”

هكذا كان يحث دواهي الجسد للترقب والتشبث بمعجز المخيلة، حرص بالغ بات يسديه نحو شظية الذاكرة، هذا الملمح بالذات هو الأشد فزعاً لكل من يتعرض ” للمنشق”، سيرة تلقن درساً في القلق الإبداعي برجفة لا تحد، بعد إحدى وخمسين سنة من جمر الكتابة، يسأل ايليني:

” لينوشكا.. أقرئي أرجوك.. أخبريني إذا كانت لها قيمة.”

من خلال هبوب السرد، يتهاطل بعداً إنسانياً يرافق حضور هذا التوق الابداعي، عنايته بالأهل والأصدقاء، من يموت من أصدقاء دمه، يرثيه بأن يتخيل جثمانه ملقى على كتفه، يبكي ويكتب:

” إذا قلت إني أبكي خلال الكتابة وأتألم وأنهك جسدي.. هل تصدقي؟”

” الكلمة حجر صلب، تنبجس منه ألف شرارة.”

(3)

لكنه الموت، غريم صعب، قبضة قبر لا تغفل عن أحد، لذا استرقاه ” بلوكيميا الدم”، لتغزو الكريات البيضاء ما عداها من لون، لنراه معرضاً لجسد يمحوه، تحتويه الحمى وضيق الأنفاس يحتل مجرى رئتاه، مسجياً بدم أبيض كالورق، تكسوه الضمادات، قالت له ايليني:

” أرادوا أن يبتروا ذراعك اليمنى. فقررت قتلك.”

فارتجف نيكوس: ” قتلي!”

“: نعم كاتب دون يده اليمنى ولا يجيد إملاء كتابته أيضاً.”

بعد دقائق صاح: “عزيزتي.. أرجوك هات لي ورقاً وقلماً. وشرع يكتب بيده اليسرى.”

” غير أن الإنسان يقاوم قوانين الطبيعة ويزدريها، يبدو له العالم أدنى مما يريد قلبه، فيرغب في بناء عالمه الأفضل، فيعترض العقلاء والأثرياء يصيحون: العالم جميل فلا تحطموه!”

سأله الصحافي “بيار ديكارغ” لماذا ألف كتاباً فظيعاً عن القديس “فرنسوا”، فأجابه نيكوس:

“أضع كتباً مقلقة على الأقل، وفظيعة إذا أمكن، لأنه يتوجب التأكيد للبشر بأنهم سائرون نحو الكارثة، وإن عالمنا على شفير السديم الذي سيلتهمه، قليلون هم الكتّاب الذين يهتمون بذلك، الكتاب يتلهون بملذات بالية، ينبغي إعلامهم بأننا نقترب من النهاية.”

صباح يوم السبت 26 أكتوبر، تلاشي بصره، عينيه لاحتا ذابلتان، لذا سألته واهية الفؤاد:

” – هل تشعر بألم ما؟

– لا.. لا.. إني أشعر بالعطش!”

مترنحاً من جفوة جفاف أنهى الدم:” عطشان.. عطشان.” فارق حبر الحياة، ولم تزل يده اليسرى على رأسها إلى أن وضعتها على غطاء السرير.

 

” أسلم روحه واقفاً تماماً كما عاش مثل الملك الذي أخذ نصيبه من الوليمة، ثم وقف وفتح الباب، ومن دون أن يلتفت اجتاز العتبة.”