الرسالة الأخيرة


الرسالة الأخيرة–1–
عزيزي ثيو:
إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذي يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة…
إنني أتعفن مللاً لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن.. ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطاً وألواناً جديدة، غير تلك التي يتعثر بصرنا بها كل يوم.
–2–
اعتاد الفنان فنسنت فان كوخ–1853–1890– على مكاتبة أخيه”ثيو” طيلة اشتغاله على غمر أيامه ولياليه بالبياض المتجاسر على موهبة اللون واندفاعه، طيلة تلك السنوات كاد يبوح وهو يكتب ما يأسره، كاد يفشي ما لا يعرفه.
تفردت ”الرسالة الأخيرة” بطريقة مختلفة لقول الصعب، لصياغة الجمل اللازمة لتعريف سر اللون، علاقته بالطبيعة، حركته الدائمة في نبض روحه المتصاعدة نحو الأعالي، ليس ذلك فحسب بل تفسير السر، السر الذي صاحبه وهو يحيا صعوبة الحياة وندرة الأمل.
هي الرسالة الوحيدة المكثفة بقدرتها على تكسير المشاهد العميقة في ذاكرته. كأنه يكتب لذاته ما سوف يعرفه قبل الموت، أو كأنه يدون ما يعرفه الموت عنه. موهبة متقدة تتخطى لغة المراسلة المكرسة في تلك الحقبة، لكونها لا تتقن تنميق الكلمات، بل لا تصبر على خط حروف لا تكتمل.
رسالة غريبة وهي تأتي مبددة توالى المعاني والأخبار، كلمات تمعن في تشويش المعرفة نحو اللون والطبيعة، ممهورة بالرغبة الكامنة في اللحاق بغرابة اللحظة ذاتها.
” كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي. هل هي كذلك في الطبيعة أم أن عيني مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها.
في قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألواني أن تظهرها، في حقول ”الغربان” وسنابل القمح بأعناقها الملوية. وحتى ”حذاء الفلاح” الذي يرشح بؤساً ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة… للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك.”
3–
هكذا قلق وتوتر موصول فعلاً باجتراحات لا بد منها لينضج المشهد أكثر، ذخيرة حقيقية لتعليم الألم، للتدريب على حالة الذعر المصاحب للفن وهو يتجرأ على العالم، أو يحاول تمثيله بأقل الحيل ارتباكاً. مثل هذا المختبر لا يرتكز في عمقه على مبدأ التواصل الأخباري مع الآخر، كما يراه البعض، ولا على تأسيس مكان للذاكرة، بل على تجويد خبرة الموهبة وعلاقتها مع الأدوات التعبيرية، أراد” فان كوخ” حتماً أن يكتب لأخية ليخلق الجسر التواصلي بينه وذاته اولاً، ليعرف مبتغى كل هذا التخريب الحادث لوقته أمام اللوحة ، قبلها، بعدها.
كل موهبة لها أن تتقصى مرادها وهي تقرأ رسائله، ببصيرة تماحك بصيرته وتقتص منها بهدوء من يرى.
سرد”فان كوخ” لمشكل الفن التشكيلي ليس الا تعبيراً لفداحة الفن بشكله العام، يتطابق مرتآه مع الفنون الأخرى، تلك الناهضة من القلب لا الورق. ” شيئان يحركان روحي: التحديق بالشمس، وفي الموت.. أريد أن أسافر في النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني! متى سنمضي، نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا المدماة ..
ولكن إلى أين؟
إلى الحلم طبعاً.
4-

“أمس رسمت زهوراً بلون الطين بعدما زرعت نفسي في التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسي وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان. غربان وقمح.. الغربان تنقر في دماغي. غاق.. غاق.. كل شيء حلم. هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا في كل حين.. قريباً سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدري نحو بلاد الشمس.. آه أيها السنونو سأفتح لك القفص بهذا المسدس: القرمزي يسيل. دم أم النار؟”.

أن تكون “الرسالة الأخيرة” للفنان فان كوخ محملة بهذا السيل من التفاصيل والتفاسير والحدوس حول العملية الفنية، كل هذا القلق والتوتر المتخفي بين السطور، تمثل مشاهد الحياة عبر ادارجها في مخيلته لنرى على اللوحة الجذور الهائجة المتفحمة والغربان المنتشرة واللهيب اللوني الذي يستشرف الأفق، الرسالة الأخيرة التي حققها وحيداً قبل الموت، منتحراً في غياب السنابل الذهبية، بعد أن انجز العديد من التجارب الفنية التي تشي بمدى شسع رؤاه، المذهل في هذه الكتابة التي عاندت الوقت وتنقلت عبر قسوة الاهمال والنسيان التي عانى منها الفنان “فان كوخ”، قدرتها على ايصال حقيقة الموهبة، ومواضع توترها امام البياض الذي يقف بمواجهة ابداع الحياة حيث الحقول والغيوم والاشجار، حيث اللون الحي، تحد مهيب اضطلع به، وضاعفه بتمرير تلك المشاهد كلها عبر مصفاة الذات، عبر نير التجربة الانسانية والروحية لديه، عبر سحل اصابعه لتجيد البوح.

لا مكان امام مثل هذا العمق المبدع لحضور الأنا وزوادته من غرور شائع، موهبة لاهية عن سرد نوازع الذات ومبالغاتها كما يحدث عند الكثير من الموهوبين الذين ما أن يبدأوا الكتابة عن تجاربهم الفنية، حتى تراهم يتحولون الى مداحين يعددون منجزاتهم وما سعوا لتحقيقه وما قيل عنهم.. الى آخر تلك العناوين الضاجة بالنرجسية ومآلاتها.

5-

اليوم رسمت صورتي الشخصية ففي كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي: أيها الوجه المكرر، يا وجه “فانسان” القبيح، لماذا لا تتجدد؟

أبصق في المرآة وأخرج.. واليوم قمت بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون: عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط علي، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها.. حسناً ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟

أرسلتها إلى المرأة التي لم تعرف قيمتي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليك أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثي إليها… الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي. بل ان إصبعي السادس “الريشة” لتستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتداعب بشرة اللوحة..”.

هكذا نراه دوماً، في كل رسائله التي تناولت اعماله المنجزة، ثمة اشارات تعدت الثمانمائة اشارة نقدية، لم يكن يحاور أخية “ثيو” بل أدغم المشافهة بحديث روحاني خاص مع البياض الخالي منه، اللوحة ببريقها العذب، ذاته المتوجعة، الحياة بكل تفاصيلها المرحة.

مضاهاة الطبيعة تحديه الوحيد، امتيازه النهم وهو لا يتأخر عن كل رصد لتحولاتها، اليأس والانكسار والهزيمة شكلت أهم المعابر التي كان من خلالها يثير المواجهة تلو الأخرى، لم يصب بانهزامات معطلة عن النبوغ الابداعي بالمعنى المتداول بل تحديات وحواجز استطاع مواجهتها فنياً بقوة الموهبة ونفوذ طاقة التعبير التي لا تقهر.

دوماً عندما أتلهى عن وقتي الراهن بقراءة رسائل الموهوبين، اتلقى الدرس مشمولاً بصمت عميق وتركيز على الهدوء الذي يسود كلمات تصوغ تجلياتها، كلما اعيد قراءة السطر اكتشف اختلال المعنى الأول واحتلال المخيلة بمعنى آخر، مختلف وأشد غوراً من الأول، وهكذا لا ينتهي الدرس الذي يتصاعد كما الزوبعة.

6-

“أجلس متأملاً: لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر.. آه يا إلهي ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟ الفرشاة. الألوان. و. بسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة. حادة ورشيقة. ألواني واضحة وبدائية. أصفر أزرق أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى”.

بذات البندقية التي كان يطلق رصاصها في الفضاء، وهو أمام اللوحة ليتحصل على مشهد حقيقي لطيور مذعورة تحلق في الفضاء، طيور تشبه روحه المشتتة في عالم لا يعي ما يحدث لهذه الحياة.. شد الزناد على صدغين صامتين على الدوام، لنقرأ رصاصته الأخيرة.