(1)
عندما نتحدث عن علاقة المبدع بالحرية، فإننا نتعرض لعلاقة مركبة شديدة الحساسية، متصلة بتماس الموهبة بحرية الإبداع وتماس المبدع بحرية الحياة.
حين يحيا المبدع في وطن لم يذق بعد معنى الحرية، نراه يحتمي بحريته الوحيدة، الكتابة، هذا ليحتمل ما يلتئم من حروف وما يتناهض كل سطر من كلمات.. أكثر جرأة وتألقاً منه، كلمات يكفيها كونها حرة، ليست كمثله، كائن مكبل على الدوام، يحيا كمواطن يتألم من خلو حياته من مبررها، من ضرورتها، من حريته كحق إنساني، هنا تكمن المفارقة المؤلمة، حيث يحيا المبدع في تقصف نفسي وجسدي بين حريته الوحيدة التي لا تقاس لحظة الكتابة، وبين حياته الأخرى التي تخلو منها.
مبتغى الحرية هذا، لا يقف عائقاً أمام انتفاضة التجربة الإبداعية، لكونها تصريحا علنيا بفن مقاومة الموهبة الإنسانية للظلم، موهبة تقوى ضد كبح الصوت واندفاع الكلمات على الورق، لذا شهدنا أغلب التجارب الإبداعية شفافية وحرية، تم إنجازها في عتمة السجون، في أشد العصور التوليتارية قمعا للفكر وللإنسان، في أضيق الأمكنة وتحت وطأة تلاوي الحصار، هذا ما يفسر لنا مدى تعلق المبدع لحظة الكتابة بحريته الوحيدة، تلك التي لا ينازعه عليها إلا الموت، فضاء شاسع يتخلق على الورق، تنتضي هبوبه أشرعته صواري الكلمات.
التجربة الأدبية في البحرين لم تكن في غفلة عن هذا المراد، أي نزوعها الطاغي نحو فعل الحرية- الذي شكل أحد أهم السمات الإبداعية- بل تجلت في أبرز تجاربها الإبداعية، ضمن هذا المنحى والمصاب في ذات الوقت، طيلة تاريخ القمع كانت التجارب تتقدم لساحة النشر ولمنصة الصوت لتقديم النص الإبداعي الرافل بحرياته الغير قابلة للتجيير أو التحييد عن فن جرأة الصوت، بالرغم من مزاحمة وتفشي ظاهرات النفاق والارتزاق الكتابي الذي أسست له دنانير القمع، لكونها تشكل كرنفالات تدوينية للمدائح والتزلف الرخيص، كلها تقع خارج التجربة الإبداعية البحرينية ولا يعول عليها إلا المأسورين بزيف مدائحهم، والفرحين بغبار عطاياهم، في هذه الكتابة أنحاز للمنجز الإبداعي الذي تماهى رؤيويا ونصيا وحياتيا بمدى وأفق تلك الحرية، المتخلقة من إيمان المبدع وحرصه الشديد على صيانة شرفته الوحيدة وحبره الوحيد بحرية لا تقل عن حرية نبض دمه.
(2)
هذه التقدمة لا تعني أبداً.. بانعدام أهمية الحرية الإنسانية للمبدع، أو بضرورة القمع لدوام الإبداع، كما يعتقد البعض، العلاقة مشتبكة، هي تعني تحديداً بكون المبدع الذي يحيا ضمن شروط أكثر إنسانية ورأفة حضارية، لابد لتلك الحياة من أن تتجلى في نصه الإبداعي، عبر حساسيته الرهيفة، لكونه يحيا حياة أقل غبناً، على الأقل بالنسبة له، هذه المسألة تتمحور بشكل رئيسي حول طبيعة اختراق وتجاوز الموهبة، كلما كانت أكثر اكتنازا وعنفواناً، فسوف تتجوهر وتلتمع في أقسى الأحوال لكن الجسد الذي يصقل ليلها كل كتابة، سوف يحيا بطراوة أقل بكثير من غيره، بل أكثر تشظيا روحياً ، لكونه ذاك المحاصر المبتلى بالحديد كله.
يشكل معضل الحرية إشكالاً فكريا ونصياً للمبدع، لكونه لا يرتبط بوطنه، بمعناه الانتمائي المحدود، بل ينتمي للكون كله، هنا تشتغل لديه الدلالة الإنسانية، الأشد عمقاً، تلك التي تجترح بها الموهبة كل نهار وليل، فعذابات العالم كله، تعنيها لحظة الكتابة، لكونها تكتب وفق منظور رؤيوي يتسع ليسع المجرات، فثمة روح تكترث بألم الكائنات كلها على هذا الكوكب.
(3)
ما حدث في البحرين من انفراجات على الصعيد السياسي والأمني، تتعلق بمشروعية إعادة الحقوق الإنسانية للمواطن، تمثل مكتسبات حضارية تضيف رصيداً لا يستهان به لحاضر ومستقبل هذا الشعب، ما يمس المواطن من متغيرات ومكتسبات حقوقية تبشر بعدالة ديمقراطية قادمة، لا بد أن تؤثر على علاقة المبدع بالحياة ذاتها كمواطن وكمشتغل في الإنتاج الإبداعي، حيث تشترط العملية الإبداعية لتحقيق تواصلها والآخر، المزيد من فضاء الأقنية لتوصيل الإبداع، تتقدم تلك المتطلبات، حرية النشر وحق التعبير، كمطلب ضروري، طالما طالبت به الحركة الأدبية، في ظل المعاناة التي لا مثيل لها، وهيمنة التسلطية الإعلامية الساعية لتهميش التجارب الإبداعية البحرينية، عبر إغراق منافذ القول من الصحف والإذاعة والتلفزيون بكل ما ليس له علاقة بالأدب البحريني، هذا ما يفسر ما يشبه خلوها طيلة تلك السنوات التي ناهزت نصف قرن من الزمان، من حضور المبدع البحريني، ذاك الذي تألق أكثر خارج الوطن سواء عبر الكتابة أو المهرجانات الأدبية.
هنالك قائمة طويلة من الحقوق المهدورة للكاتب البحريني، يقع عليه العبء أولا للعمل من أجل الدفاع عنها والمطالبة بها، من ثم على المؤسسة الأدبية التي يتوجب عليها رعاية حقوقه، أيضا على الهيئات الثقافية الرسمية أن تسعى من أجل تحقيقها لترافق جملة الحقوق الوطنية الأخرى، قائمة الحقوق المصادرة تمتد، منها حقوق المؤلف، تلك العبارة المطبوعة على كل غلاف يصدر له ولا ير منها شيئاً، كذلك حضور المبدعين البحرينيين وتعزيز مساهمتهم الفعالة في كل الخطط والبرامج المعنية باإستراتيجيا الرؤيا الثقافية في البلاد، مشاركة الأدباء والفنانين في الفعاليات الأدبية والثقافية التي تقام كمناشط ثقافية وحضارية للتعريف بمنجزنا الإبداعي خارج وداخل البحرين، دعم “أسرة الأدباء الكتاب” والتعامل معها كمؤسسة أدبية ذات تاريخ أدبي عريق لا يجوز تجاوز دورها، تسويق الكتاب البحريني بما يليق به، وما يتبع هذا المنحى من مهام تبدأ بضمان طباعته بعيداً عن مقايضة تجار مؤسسات النشر، أخيراً. احترام وتقدير المبدع البحريني-يستحسن قبل موته بقليل- وهنا تنحدر العديد من المطالبات التي لا أشك بكونها غامضة، على ولاة الأمر، لأنيرها بمزيد من البوح.
(4)
في الآونة الأخيرة، من خلال ما احتدم به الوطن من اندفاعات لطاقات وكفاءات ظلت مكبوحة لسنوات طويلة، اندفاعات أراها تترجم مدى تعلق الناس بتحقيق أقل الأمل، حرصهم الشديد على المشاركة في تدعيم مؤسسات مجتمعهم المدني، تأطير مكتسباتهم الإنسانية وصيانة حقوقهم وتأكيد مواطنتهم ليتباهوا ببلادهم البحرين، بالرغم مما أثير من لغط كان أقل بكثير من مستوى الإحساس بالمسؤولية الوطنية أو الأخلاقية على الأقل، تمثل هذا الهرج في تعميم السخرية الباهظة على النفس من جهة ومن جهة أخرى في ذاك التشكيك المبالغ به في مدى إخلاص نوايا الناس، بالرغم من كل هذا ذاك، تم مداولة موقف المبدع تحديدا من هذا الحراك ذوي البعد الحضاري، هل عليه أن يراقب أو يشارك أو لا يرى ما يحدث.. من تحول تاريخي لمسيرة هذا الوطن ذات الدم الوفير والقيد الأوفر، تمت تلك المحاورة بشكل غير معلن، كما لو أن هناك قالباً تنظيرياً واحداً يطبق على الكتاب كلهم، وعليهم أن ينضووا تحت صم حجارته، كما لو أن هناك طريقاً واحدا، يفترض البعض حلول مصداقيته وهدايته، كما علمونا ضمن تنظيرات التجربة العربية القديمة، التي جالت بعلاقة المثقف بالسياسي من زاوية ضيقة وأحادية المنفذ، نظرة غير خاضعة لمحاورة الحياة ومتغيراتها، حين أصرت بأن على المبدع أن يكتب فقط، دون أن تتعامل مع المبدع كإنسان تكتمل العملية الإبداعية لديه باندغامه مع الحياة ذاتها، إنسان له طاقات وطموحات للعطاء، تغتني كثيراً على الورق كلما رافقتها إسهامات وتجارب حضارية، تشارك الآخرين في بلورة صياغات جديدة لمشاريع ندامه الآتي، هنا لابد من محاورة دعاة مثل هذا التنظير الضيق النظر، المستلهم حصانته من فشل المشاريع العربية كلها وتاريخ الهزائم التي عمت تاريخنا العربي، لكنهم لو تأملوا قليلاً، تاريخ الحركات الإبداعية العالمية كلها، الراهنة بالذات، لاسترعى انتباههم مدى فعالية المبدعين في دعم كل المشاريع الثقافية والوطنية والحقوقية تحديداً، عبر تنظيم وقيادة حملات احتجاجية.. أقلها المذكرات والعرائض عبر إسهامات نقابية وسياسية أيضاً، تعتني بقضايا تجاوزات حقوق الإنسان خارج أوطانهم، من “كوسوفو” مروراً بفلسطين حتى “الصومال”، وما مشاركة الفيلسوف الفرنسي” أندريه غلوكسمان” والكاتب الإسباني “مانيول مونتالبان” في الدفاع عن قضية “د. نوال السعداوي”، إلا أبسط مثال على طبيعة التصدي، حتى المشهد الثقافي العربي، بدأ مؤخراً في التململ من تحييد المبدعين لأدوارهم، من ضمور أصواتهم وانعدام مشاركتهم، لذا تناهضت أنشطة عديدة لتستثير ولتقاوم إستشراس هذا الوهم.
حتماً.. تغتني التجربة الإبداعية على الورق حين ترتوي بتوتر نبض جمرة الحياة فيها، بالتناغم مع ما يحدث للمبدع كل حياته الموصولة بعذابات الناس، حيث تتجمر موهبته للتعبير عن ذاته الملتحمة بالحياة بشكل أكثر تألقاً.
(5)
يتحدد دور المبدع أمام النص وأمام الحياة من تقديره الواعي والمسئول لطبيعة هذا الدور الذي لا يقل إبداعاً في الحياة عن الورق، فمن الصعب عليه أن يتوارى صامتاً. عما حدث ويحدث لنا:
من منا لم يتأثر بهبوب المنفيين وهم يرتشفون هواء الوطن لأول مرة منذ ما لا يقل عن ثلاثين عاما على أرض المطار، أحيانا ازداد ذاك العمر ليبلغ الأربعين عاماً؟!
من منا لم يوار الدمع وهو يرى اندفاع المعتقلين خارج الزنازين.. ما أن انفك حديد القيد عن معاصمهم؟!
من منا لم يتأسى من مرأى تدافع النسوة وهجمة الصغار وهم يهللون لعناق أبناءهم وآبائهم؟!
حتى التصفيق الذي ارتجت له قاعات الندوات كل كلمة حق كانت تقال، من منا لم تقشعر روحه وهو يرى كل هذه الأكف تصطدم ببعضها.. لتترجم صمت القلوب الذي طال طويلاً…؟!
(6)
ما مدى الحرية التي تعتمل الآن، هل ستتحقق كما ينبغي أو كما يستحق هذا الشعب على الأقل؟
هذا القلق الحريص على نصرة الحق وحرية العدالة، بقدر ما يستثير هجس وذاكرة المواطن البحريني الموصول بكفاحية مواضيه، فهو يشكل قلقاً إبداعيا خالداً مدى الدهر.. للمبدع أيضا، حين الكتابة وحين الحياة
الحرية هي الجسر الوحيد الذي يمتد من رعشة الروح حتى رعدة القبر
الحرية هواء الكون. كله