التجربة التي لن تصفها أبداً


-1-

لامرأةٍ تناهت عنها،
مثقلة بحجرٍ ميت، ارتمى بين ضلوع تخسرها،
مكتواة من صدِّ تاريخ رماها،
تجرأت على برودةِ سرها،
لتغمد ذاتَها نحو مغاليق عمياء،
انتهبت موتَها، نحو عذوبةٍ ترتقي نحولَها الأبدي:
لم يسألها العشبُ إذ رآها تتعثر بنضارةِ جرأتِه
لم تثنها الوردةُ النادرةُ، الملتهبةُ من ضراوةِ صمتها
لم ينتبه الغيمُ اللاهي بممراتِهِ الكئيبة، لخطى تتوسلُ الحصى
لم يهتم البابُ الأصمُّ، بصدى نحر، أرداها من وفيرِ زفيرها
لم يجتنب ثوبُها الزهريُّ الخامدُ، معطفها الكئيب المتهالك،
أظافرها الحنونة المحبرة، خنق لهاث أدمى رئتيها
لم يصغ الهواءُ لصبرٍ أضناها
لم يتحاشَ الممرُّ الضيقُّ شيوعَ ظلالِها المريرة
لم يعبأ أحد..
بلهجةِ دمٍ ضريرٍ تخثّرَ حتى أغرقَ آخرَ الورق.

” ليتني أستطيع كتابة ما يعتلج في صدري من أحاسيس في هذه اللحظة.. إنها فريدة وغير سارة أبدا، ثمة إحساس جسدي كأنني أطرق طرقا خفيفا في عروقي، أشعر بالبرد الشديد، بالعقم، بالفزع، وحيدة جداً.

أنا أعرف أن علي أن أستمر في رقص هذه الرقصة على آجر حار إلى أن أموت.

بوسعي أن أختبيء وأنظر إلى نفسي وأحس بالسكون التام الموجود تحت الماء، ولكنه نوع من السكون فيه من القوة ما يكفي لرفع الحمل بأسره وأنا أستطيع بلوغ هذا السكون في بعض اللحظات، لكن اللحظات المكشوفة دون حماية هي لحظات مفزعة، نظرت إلـى عيني ذات مرة في المرآة فرأيت فيهما فزعاً.. وهج ذلك المصباح الأمامي على جسدي الصغير الشبيه بالأرنب يُبقي الأرنب مبهوتا في منتصف الطريق أمام السيارة”.

 

-2

تحتدم،
لتحتملَ حمولةَ حياتها:
طفولة تجرعت عنفَ مراميها،
انتهاك عسير على عذرية لم ترحم ذاكرةَ تنحت نقاوتها،
يتم مثخن بقبر مبجل عن تراب يتقدم،
انهيارات الصبا، احتمالات المشافي،
مواقيت الألم الحاقن غلاوة النبض،
تكديس الكهرباء نحو صدوغ تتحجر،
ارتجاج يحتدُّ بجسد وحيد حد الخلع،
خبرة الحجرة البيضاء بحلول جفوة لا تطاق،
انسراح هزائمَ تثقل القلبَ وترجم خلجةَ الأنفاس،
أوجاع بهيمة تعصف بنوايا العقل،
غثيان غدر يأزز الفراغات..
انتزاع أوردة تتفجر كل صراخ آت..
كيل حياة لا تهتم بمآلاتِ شلل تام.

في الثالثة عشر من عمرها، أصيبت بأول انهيار عصبي، بعد تدوين يوميات مسكونة بالقلق الإبداعي، كلمات تشي عن محنة سوف تستنزف حياتها كلها فيما بعد:” هذه من أفظع الليالي، لا مفر من الفكرة:

ماذا سأكتب غداً؟ “

كانت بمجرد مغادرة الكتابة تتعرض لأحوال مؤلمة، لم يجدوا لها تسمية آنذاك غير الجنون، مذ بدت ممسوسة بعالم الكتابة بتدفق لا يوصف واستغراق عميق حتى آخر كلمة، لتواجه كلما أنهت رواية ما، صعوبة بالغة في الحياة.

” كان من أهوال جنون فرجينيا أنها كانت على درجة من امتلاك العقل بحيث تتعرف على جنونها ذاته، تماما كالمرء الذي يعرف أنه يحلم، وذلك قبيل الاستيقاظ. لكنها لم تستطع أن تستيقظ.”

تبدأ نهارها بصداع شديد ينتهي بانهيار عصبي تام، يجعلها عرضة لاختبارات التحليل النفسي والعلاج الكيمائي، الذي لم يرى في حالتها سوى إصابة عقلية وخلل عصبي مدمر، لم يكترث الأطباء بتعدد المحاولات الانتحارية، التي حاولت اتقانها كل فشل من الحياة، وبالتحديد بعد كل رواية تدعها وحيدة، تشك بقواها: “لم أجلب الفصول الأخرى معي إلى هنا لئلا أصاب بالصرع. العمل عليها هنا يلونها بالشحوب الناجم عن الصداع “.

هكذا تتقصى ما دواها: ” أما الهول الذي أنتظره بعد هذا اليوم العاصف، خلال هجوع روحي، فلا يسعني إلا الإسراع عند انتقالي من الفناء إلى الغرفة وقد استبد بي القنوط وأنا لا أكاد أحس بأنفي أو أذني، فهو على بعد هذا اليوم الأوحد من الارتياح النفسي أن أبدأ من البداية فأستعرض ست مئة صفحة من البروفات الباردة، لماذا يا إلهي؟ ليس مرة أخرى، لا.. لا..”.

-3-

لقد تحولت حياة الروائية الأمريكية “فرجينيا وولف 1882-1941” إلى حياة أخرى مفعمة بحب أسطوري للكتابة، نادر الحدوث بهذا العنف الذي يصل حد محاولة الموت. رغماً عن الحياة.

في دراسة استغرقت سبع مئة واثنان وتسعون صفحة من القطع الكبير، أرخ المؤلف “كوينتين بيل” وهو أبن شقيقة “فرجينيا وولف” سيرة أسطورية لامرأة انشطرت حياتها كلها بين عالمين لا مفر من فناء أحدهم لترضى روحها وتكف عن تعذيب جسدها الذي كلما انتهي من نحت رواية لها، أو بمعنى أقسى كلما غاب عن روح الكتابة، راح لميعاد الأذى الذي لا مفر منه. في العالم الأول ” كانت في الغالب صامتة، صامتة باحترام وأحيانا بشرود، كانت تتصنع الشعور بالرهبة.”

” قلت في نفسي إذا لم يتوقف هذا، وأعني الطعم المّر في فمي، والضغط الشديد حول رأسي كأنه ضغط قفص من الأسلاك، إذا لم يتوقف هذا فأنا مريضة إذن: أجل من المحتمل جداً أنني محطمة، عليلة ومحتضرة، يا للعنة فقد سقطت على الأرض وأنا أقول: زهور، يا للغرابة.”

وفي العالم الآخر حيث الكتابة: ” ا أنانية جداً بشأن كتابتي ولا أكاد أفكر بشيء آخر سواها، ولا أذكر أمر كتابتي أبداً غروراً مني، وحياء وحساسية، ولك أن تعدد صفات أخرى كما تشاء”

هكذا تقصت ” فرجينيا” مكامن الموهبة في ذاتها أولاً، رغم الألم، أينعت بمهارة الحبر، خطوة، خطوة، قبل انتحارها في عمق البحيرة بكثير:

لها،
لمحارة لم تتأخر كثيرا،
عن اندلاع لؤلؤة، التمعت بعزلة مخبأها
مثلما اعتنت بغيابها، تمادت بحصولها
كما خطت الحبرَ.. تخطت البحيرة.