الأوركيديا


(1)

هي زهرة للخجل، لا تعرف منشأ لها، لا تشبه ذاتاً سواها، ليست كالورد، ما نعرف، لكنها ينبوع من البتلات الشفيفة كالغرق، زهرة تعلوها حمرة تستنير بها ويسفحها بياض لا يستقر، ثلج رحيم يضلل عروشها. يعلو ويهبط كموج سخي على القلب.

عاشقة ممشوقة الغصن.. ذاك الفريد بأخضر يرتاب من خفق يدلهم بما يعلوه، كأنه يجهز التاج لأميرة تروجها الأساطير، عندما تنبأت لها النيران في حضارة تهالكت، ببزوغ وريثة للورد سوف تنهل اللون كله وتتعرش في فضاء البلاط، مليكة وعاشقة نادرة، ضعيفة تجاه خبط القلب، ينهكها همس الندى وهو يتبلر في أحضانها الغضة، كل ضباب يهذي في حديقة تسع العمر وتنهز بوردة الشغف:

“أوركيديا” “الفتنة، حارسة الحياة بسرها الأليم أيضاً.

هي وردة ترتقب يد العاشق، تسأل عنه: هل سوف يصل حنوناً ليشهد ثراء التغضن الطري ويلملم بساعديه رهو العطر كل حضن لشهوة الذبح، أم سفيهاً ليشن قنص الأصابع لعود النبات، يقصف زهو الأمل.. لتعرف مبتلاها القادم، بل لتستثير حدوسها كلها، تنتظر.. كل ليلة مغمي عليها، بثقل غصون تتعطر بنداوتها، وهي ترى الهواء يتثاءب، دون سهد عينيها.

وحدها تشرف على ترف مأواها.. من غير الحب، ذاك الرحيم بغفلة خفاياها، كلها له، تبتغيه، إذ تشرئب نحو وميض مساء يدير رحب التجلي، مساء يعرف حال الفقيدة أوان العشق، صابرة ترتجي خسارات الوقت…حتى تراه كطير مترف الأجنحة، يديم رعدة الريش نحو هواء قليل يدنيه منها، لتغدو كفراشة ترتجف، كل خفق، تعلو والهواء يصطخب بها، ترتجف، لتكتشف خفايا ضوءه وترتشف حناياه، ياله.. ويالجموح خفقه.

(2)

اعتادت التربة أن تحث بذورها لتنهض بأنواع لا تعد من رهاوة الورد، كلها اختالت بغزو هيج الفراشات وأزيز النحل، بل تماهت بغلو العطر، لكن “الأوركيديا” امتازت عن سواها بفرادة الخجل رغم بدعة تكوينها الصعب، الذي كلما استبد بها تهالكت نحو خفر يستفرد بجوى الأعماق.. بل صارت لإغفاءة جفن لم تعتد عسلاً سواه.

“الأوركيديا”.. نبع محكم على الهباء كله، وردة غضة تبذر روحها للسديم وتوازي الأفق بعطرها الذائب في هوى النسيم.

نبوءة حب تولت تعاليم النبات بما لها من جنون لا يخفى على أحد.

(3)

التربة معلم الحياة، لا تنتظر أن يفرغ البشر من منازعاتهم على حدودها، ولا تلتفت لسيل الكوارث، وما يحدثوه من مجانية الألم والدم الذي يرشقون به الكون كل حرب، تربة للخلق، لا تصغ لصمم القطيع الذي ينحدر كل سهل، مأسوراً بنباح الكلاب وممهوراً بعصا الرعاة، لكنها، تربة تمضي وحدها، لتتقن بدعتها بحرية الخلق: نحت هواء العالم بفتنة الطبيعة، إذ تزدهي بلفيف غصون مثقلة بهدايا الورد، اشتباك الغاب الناهض بعناق النبات نحو النبات، انحدار الوديان المغزولة بحرير العشب المبتل برائحة المطر، فيض من ألق الورق المتأرجح بفعل جنون الريح، ثمر يتثاقل نحو الأرض.. أقله جنون الليمون وآخره خدر العنب، شموخ شجيرات تعانق الغيم.. كل هذا بأيسر مما يتسنى لها: تراب ثقيل وعطوف، ماء عذب ودافق.. هواء آخر حر بما لا يستهان به، حب أخير لا يُحتمل، نحو عناصرها الطرية الملتفة حول براءتها.. دفاعاً عنها. كما العاشق ملتحماً بذريعة دفء القلب.

درس الطبيعة لا يؤجل تدوين حكمته ودهاء بلاغته، من أبهى قطرة رمل حتى سفح أقصى غيم، جموح للبداعة يستبد بمخلوقات – نستثنى منها قسوة الإنسان – ترسم نبض الحياة بمتعة ريشة تهفهف بحرية بالغة لتحيا موتها.

للطبيعة قدرة لا تحد، نغترف منها أقل الصفات بما تيسر للبصر:

الصحراء تهب وعر فنونها ولا تدين الجفاف، منه من يحتمي كنبت الصبار بأذرعه المهيبة وشوكه النافذ بصلادة صبره على قليل المطر، له ترتمي الرمال كحقول من الفضة على مدى النظر صانعة سرابها الرحيم، له تكتسح الصحراء هيبتها من صمتها المباح لكل ساكنيها وصبرها الواجم على وعر تشتهيه كآئناتها العزل، صقور تكسر أقاصي المدى، جمال ضالة ترتوي أمل السراب.

هنا الصمت هو سيد عزلة الخلق.

في الحديقة وكل ماعدا المدن لا ضجيج له. ثمة غناء شفيف ترفل به العصافير في غيبوبة العناق، ذاك الشهي الذي يعتصر الأضلاع نحوها، أيضاً عويل من الأصداء يبذلها سادة الغابات آن الخطر، وما عدا ذلك.. سكينة تصوغها أقدار الزرع يبللها انهيار الغيم برذاذ المطر ويرنمها الشلال بانحدار عذاب الماء نحو بسالة صعب أن يحتويها الكلام.

نتأمل مفردات الطبيعة وهي تعزف رتم تحولها ببطء رهيف، كمن يرقب حوضاً تلهو فيه أسماك صغيرة ملونة تتقاطع ومرونة الماء بزعانفها بين الأعشاب البحرية وخبايا المرجان، كمن يتعرف على اوركسترا مزودة بقساة الوتر، تنفرد بتصاعد هارمونيا لحنية تبالغ في حيائها.

عندما تتعثر في الطريق بحجر، ما عليك إلا أن ترفعه وتراه، لتتعلم من انحناءاته ونتؤآته الصلدة وترف الرمل المتحدر منه، تتعلم ما يجمع كل هذه التضادات في حجر مهمل، استطاع أن يضلل خطوك لتتعثر به وتسأله.

بقدر ما تأسر الطبيعة الناس، بقدر ما يتغافلون عن تعاليمها، ثقة منهم بمدى جهلهم، غرور يستحوذ على مدى يقينهم، كلما ترهلوا بمكتشفات معدنية تسخر لهم الصعب، بيوت تحوطهم بقسوة الإسمنت، يستقوا منها القيم التي نراها تتناسل وتعصر جموح أحفادهم، حديد يتصاعد حولهم بمعزل عن حضور الأخضر الطاغي ورواج البحر وسحر جنيات الورد.. بعيداً عن حنان الحب وعطف اليد.

بعيداً تماماً، لأنهم لا يعرفوا كم هو الحب.

الأوركيديا كالياسمين.. شاعرة تنتضي منصة الحقل وتقرأ شهوة الأخضر كله، لندرك كم هي من الزهور النبيلة التي ما أن تنشق عن جسدها بفعل تألق الرغبة حتى تسمو. لتسهو عنا..

رفقاً بها على الأقل تتألق بعطر فريد ربما يحرضنا ذات مساء نكون فيه مرتميين على سهاوة العشب، قرب بحيرة طاغية بأزرق الدفق، ملتفين بهواء بارد، وحدنا معاً، نرسو على همس يرتشف الأفق العليم بحال أجسادنا، نلملم أصابعنا الشقية معاً لنشهد على علو أرواحنا الفتية نحو بلاغة غيم لا ينسانا، ربما التفتنا بغتة.. لنراها هناك.. أوركيديا بخجل تزف أتراحنا.. بخفة تنال منا..

من هناك ترنو لعينين في الهلاك.