الكاتب/ محمود محمد المدني
جريدة الاتحاد- 1986
في “استفاقات” المجموعة الشعرية للشاعرة البحرينية فوزية السندي من اصدار المطبعة الشرقية بالبحرين، قطع صغير في تسعين صفحة، شعر تكسبه دثارات اللغة وأخيلتها الشفافة موقعاً يتميز بصور شعرية مكثفة عبر معاناة تحاول اختراق حاجز الصمت العربي حيال هول الكارثة التي اما وقعت أو على وشك الوقوع و” حالة الشعر” من خلال قصائد المجموعة وجوها ومناخاتها والقضايا التي تثيرها عبر خروج”العام” الى”الخاص” وعبر تشابك العام والخاص في محاولة لعدم الانحناء للأمر الواقع في واقع فكري وسياسي واجتماعي مرير أصلاً، حالة الشعر معنا حالة كيفية مستمرة، التجربة تقود إلى التجربة والواقع المرير عنيد كالصخر ويبقى الانسان في دائرة المحاولة من أجل الفهم والرحمة ومشاركة الأخذ دون تماثل بالضرورة.
ففي” احتفالات الجسد” حضور للمرارة والعذوبة على طبق واحد ضمن مناخات وأجواء مختلفة، وكأن العذوبة والمرارة ثمرتان لنفس الشجرة فقط تختلف المواسم.
” لا تشهق في حضور الجناز المهيأ للعرس
هذه نار تفضح العائلة في احتمالات الرماد
فهرولت المداخل
ربما لهو راجع من جحيم المآتم
ربما قتل تسربل في شقوق الخوف
و أختار المدينة
ربما رنين يصعد الجماجم قبل أن يحرثها المد
أو تجثو لجسارة الطوفان
ربما…”
وفي الشعر، وفي التوجه المغاير من أجل البحث عن القصيدة التي هي (جديدة) بحق لابد من هذه، لابد من رج المياه الكامنة، لابد من الهجوم على الظلال والسفوح والمنحنيات للوصول الى القمة، اذن لابد من ارباك العلاقات السرية الداخلية لتاريخ الكلمة (المفردة) -الأدوات المستعملة في بنية القصيدة- ولذاكرتها الممتدة منذ ان قال الانسان ان للوردة عطراً فواح ومنذ ان بدأت المعرفة الانسانية تثري الشعر من خلال الالتقاطات البصرية التي تخزن في العين زماناً لتعطي في وقت الشعرالصورة والحركة.
” في رصيف كالبرد التقينا
سائلا حمى المسافة
أن يكون للقمر شراع من فضة الشهب
للغيم أرجوحة من زبد الفجر
لن تخيط السماء جراح الأرض
تسل الغمام من قوافل التعب
أن …
تهذي لقلب يتسع
كم كنت وحيداً.”
إن إعادة النظر في العلاقات الداخلية لجزئيات اللغة بواسطة القصيدة الجديدة لا يكون عملاً خارجياً على الاطلاق لان ذلك يوقع الشعر نفسه في اشكالية الشكلانية، اعادة النظر هنا عملية داخلية ايضاً، لان تجديد شباب المفردة في القصيدة الجديدة في تقابلها واشتباكها وتداخلها مع الجزئيات الاخرى لايجاد نسيج فني متكامل ومتماسك جمالياً، يكون بايجاد منسق جديد يهاجم النسيج القديم ويغرس السكين في قلب الدمامل لتنقية موجة البحر الزرقاء من كل شوائب الزبد، وهذا ما تحاول الشاعرة فوزية السندي أن تقوم به في مجموعتها الشعرية “استفاقات” فيكون ناتجه مستويات مختلفة من الأداء الشعري.
وفي قصيدة “حصاراً تسمى واسميك الوطن” تلجأ الشاعرة إلى اشراك المتلقي في تكوين قصيدتها بترك فراغات ومساحات بيضاء داخل علاقة المفردات ببعضها البعض.
” من يهادن طوفان الرعب
غير الهالك السالك خطو الملك
من يطرق الكلمة في باب الفعل
غير الواحد البالغ حد الحزن
من يمشي في طرقات جنوني
غير السائر المتوحد في اللغم
من ينحني للظلال
غير الضال الراكع في الجب.”
وهذا العمل رغم انه يتكون من عدة مقاطع الا انه تخيم عليه وحدة (الجو العام) المشغلة بالتوتر الحائرة بين الاضاءة والانطفاء وبين الميلاد ووحدة الجو العام هذه لا تمنع الشاعرة من اللجوء إلى أكثر من ايقاع داخلي لاثراء محاولتها الأساسية للاحداث هذه في العلاقات الداخلية لجزئيات اللغة.
” اقترب
ترقب قتال الفصول
اسميك المحارب الأخير
وأهيب بالمطر
أن يغسل المساء
ووقع خطاك
وصرير الكلمة،
يغتال الحذر القاتل
في هجس رؤاك.”
والواقع ان المفردة- في لحم العمل الشعري- عند فوزية السندي نجدها تخرج مشحونة ومعبأة إلى حد احتمالات الانفجار المباغت بالمعاناة الصعبة التي تجعل من التجربة الشعورية ليس حائطاً للبكاء وذرف الدموع وانما وجهة لاشتعال الرافض للانطفاء و”المتوحد في اللغم” ان نسيج الجزئيات اللغوية عند هذه الشاعرة غير مسموح له- بإرادة الشاعرة وقوة وحساسية التجربة- في السقوط في الترهل المؤدي بأشكال كثيرة الى الأنهيار الفني.
” أقسمت أن لا أحتار
وأن أختار نعاساًً
لا يملأ أحداقي الا أحلاماَ
تنثال..
بعينيك الواسعتين العمق كدفء
أحببت أن نغتال اللحظات الحب
وأن نصغي لعينيك.”
والشاعرة وهي تمضي قدماً في محاولتها ايجاد خط بياني جديد من الاستشعار والذبذبات والموجات الكهرومغناطيسية للمفردة في علاقتها مع المفردات الأخرى ومع الموضوع والفكرة والموسيقى الداخلية والايقاع اللاطبلي، يربكها في عدد من الأحيان تراث” الجاهزية الموسيقية” للشعر العربي التي تتسبب بشكل أو آخر في عملية التشويش على شكل وبنية القصيدة الجديدة، وهذه(الجاهزية الموسيقية) أعاقت كثيراً تقدم قصيدة النثر العربية على طريق ايجاد شكلها النهائي داخل امكانية التحول الفني المستمر، وهذا هو عين ما يجعل فوزية السندي تهتم أحيانا- ربما دون انتباه كامل لأن الأمر يتطلب درجة عالية جداً من اليقظة الفنية- بالموسيقى الخارجية( القديمة) التي تتعارض بأشكال تتعدد مع المناخ العام لتوجهها الشعري.
” لوليد
لاحتمالات المجيء
لأنفجار اللغة البكر
في عقم الوفت
لاستراحة الطفل المحاذر
في احتدام المجازر،
لوليد،
أنشودة الوطن المتألق
ولجيل يحتفي
موتاَ جميلاً.”
وفي قصيدة النورس تقترب الشاعرة من الشاطيء في محاولتها التي ترفض التخلي عنها لدخول العالم السري للمفردات واعادة النظر في العلاقات الداخلية للمفردات من خلال علاقتها بالخارجي، الذي هو في اللغة اما (منته) أو( متفق عليه) أو( لاشك فيه على الأطلاق) هنا تنبجس المفردة من حصار المتفق عليه والذي لاشك فيه اطلاقاً، فتتحول الى كائن يعمل الشك بذوره في تاريخه الشخصي وفي علاقته بجزئيات كامل النسيج اللغوي.
هكذا تأتي القصيدة
تأتي القذيفة
هكذا
تحتل البياض الحالم نار
والرمز نصل يحتال كالعرش
قواف تعدو
تنهال شظايا تأخذ شكل الكلمات
فأعرف،
أستشرف لون الأفق كنجمة برد
أهتف
من يكبو في البرد وحيداً
لا يدفأ”
(البياض) الحالم والنار(تحتل الحالم نار) المفردة هنا تخون تاريخها ولكنها تتمرد على المكان( المعنى المباشر أو المعنى المقابل والمتفق عليه والذي لا يقبل الشك اطلاقاً) والذي سجنت فيه طويلاً انه الانعتاق من المسبق الى الطازج الحار الخارج الآن فقط من رحم الحياة، من عذاب الانسان المعاصر في سبيل المعرفة والحرية والسلام، انه طائر النورس في بحثه الدائم عن موجة البحر الزرقاء النقية الصافية مثل المطر الشتائي.
ان جهداً كبيراً قد بذل خلال التقدم الهائل الذي احدثته حركة الشعر في العالم وفي الوطن العربي في مجال اخراج الكلمة من سجنها ومن العتمة التي وقعت فيها دهراً طويلاً والمغامرة بمنحها هوية جديدة تسبح فيها عكس التيار المتفق عليه ليضيف ذلك إلى الابداع الشعري نقلة نوعية (فنية) جديدة ترتفع إلى مستوى ما يحدث في الواقع (االنثري) من تناقش واستلاب وتتجاوب مع الخارج بالشروط التي تمليها معي ولا يمليها عليها الواقع الخارجي، وهذا ما يجعل الشاعرة فوزية السندي تستفيد بشكل حقيقي وموضوعي من تلك الانجازات مواصلة لمحاولتها.
ولعل قصيدة “استفاقات” المسمى الديوان بها هي ذروة ما انجزت الشاعرة في هذه المجموعة وفق المنظور الذي ظللنا نشير اليه منذ البداية.
” أفيقي
يا غصون الوله
أسرجي للريح أحرفك المتعبة
أفيقي،
كالجذور المتعطشة لطعم الملوحة
كالعيون الحزينة والصدى الهائم في ليلة المطر
أقرأي،
من هناك يلوح بالخدر المر في الطرقات؟
جمرات العمر الخطرة..
حدقي،
تجديني سرابا يفيق، يعاشر شمس الصحراء،
فأطرافي يتعبها البرد
وشمس البرد
اللهث وراء الحجر الميت
يا حجر البرد”
ففي هذه القصيدة تستل الشاعرة المفردات من تاريخها وتجعلها في حالة كمون جديدة في انتظار التجربة التي تفجر طاقاتها الدفينة وتسقط عنها أقنعة المتعارف والمتفق عليه، طفولة جديدة للمفردات الخارجة من مقر النسيان تتنفس هواء البرية المعبأ ضد الانهيار والاحباط وتحول الوطن إلى قبضة ريح في زمان الرعب والمجزرة يتخذ الشعر خندقه بين الدم والهواء ليقاتل، لأن حجم المجزرة يتسع كل يوم ليضيق الخناق على اخضرار العشب وعذوبة الأغاني .
” في خلايا صوتي انبجست كالماء
وكنت البداية
ليل وأنت مناري
سماءاً وصحواً
عبرت الطفولة
هذا صباي المدثر في خجل
كيف أكون البداية
والرعب يسأل؟”
ورغم أن المستوى الفني لما حاولت الشاعرة بصدق وحساسية عاليتين يتفاوت من عمل شعري الى آخر الا أن المجموعة تعتبر رصيداً للقصيدة الجديدة التي – بعيداً عن الجاهزية الموسيقية- تثير الأسئلة وترش الملح على الجراح المنسية وتحاصر الغفلة في زمان المجزرة وتستجير بالطفولة في وجه الغدر والزلزال المرتب.