“النور الحقيقي هو ذاك الذي ينبثق من داخل الإنسان، ويبين سرائر النفس للنفس، ويجعلها فرحةً بالحياة، مترنمة باسم الروح”
“المحبة لا تعطي الا نفسها، ولا تأخذ الا من نفسها، المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد لان المحبة مكتفية بالمحبة”.
جبران خليل جبران
عندما غادر “جبران” أرض لبنان متجهاً لغربة أبدية نحو غرب العالم، كان متيقناً من اكتنازه برسالة كونية يخفيها في ذاكرته، سرية تتشي بها طفولته العسيرة، موهبة دعته للبحث هناك عن أمل صعب تبدى له، سيرورة محكمة دشنته بالحكمة لتبليغ كتابة لا تدعو للمحبة وحدها، لكنها تستحث الكون لتلاحم فريد، يشبه نبض القلب، نبض يتدافع بانسجام تام، دون أن يكترث بالفرق بين الدم والعدم.
لم يكن جبران شاعراً عادياً ذهب للمهجر ليرسم وهو يكتب الشعر، بل صار رائياً بامتياز الحنان الذي يشع من عينيه نحو العالم كله، بقدر ما اتقد بالميثولوجيا اليونانية والأدب العالمي، تأثر بكتابات “نيتشه” وفلسفة القوة في كتاب “زرادشت”، داوم على الاستنارة بفلسفة “ابن عربي” ومحاوراته حول “وحدة الوجود”، استلهم الفلسفة العربية والكتابات المسيحية واليهودية والثيوصوفية، ليوثق عراها ويسردها نحو هذا الغرب المعتم بصلافته وعنفه ضد الانسانية، ليعيد البهاء لتلك التعاليم نحو النور، نحو منشئها البكر، كتعازيم تحققت لهداية القلب نحو محبة أصغر ذرة تنتشي في هذا الوجود:
“كل ما في الوجود كائنٌ في باطنك، وكل ما في باطنك موجود في الوجود. وليس هناك من حد فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها، أو بين أعلاها وأخفضها، أو بين أصغرها وأعظمها. ففي قطرة الماء الواحدة جميع أسرار البحار، وفي ذرة واحدة جميع عناصر الأرض، وفي حركة واحدة من حركات الفكر كل ما في العالم من الحركات والأنظمة”.
صبي في الثانية عشرة من عمره، رأى ذاته البريئة تقف أمام عالم “نيويورك ثم بوسطن” المعقد، عالم متمدن، فاقد الدفء والحكمة، مكتظ بالعمارات الشاهقة، والجفاف المكدس في الأرواح، صبي لا يتقن اللغة، لا يعرف غير الغموض الذي يقتاد مصيره، واثق أن عليه العديد من التحديات ليسبر أغوار الذات، في عام 1895 من الصعب أن تحاور هذا الغرب الصناعي المادي، الواثق من معارفه المتكدسة في العقول، البعيدة كل البعد عن السمو الروحاني، تلك العقول المشبعة بنواهي التعصب الفكري المستبد بثقافته المادية والاستهلاكية، من الصعب ايضاً الاختلاف مع ما يراه، وهذا ما فعله بقوة المعرفة والمحبة الانسانية، بعمق التجربة الروحانية، هذا ما فعله جبران عندما بدأ مكاشفة ذاته ومحاورة أعماقه الخرساء:
“أنا غريب عن نفسي،
فإذا سمعت لساني متكلماً، تستغرب أذني صوتي
وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة، باكية، مستبسلة، خائفة.. فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي روحي، ولكنني أبقى مجهولاً مستتراً، مكتنفاً بالضباب، محجوباً بالسكوت.
أنا غريب في هذا العالم
أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة،
وأنثر ما تنظمه،
ولهذا أنا غريب وسأبقى غريباً حتى تخطفني المنايا
وتحملني إلى وطني”.
“ما اشغفني بهذه الذات الصغيرة المحدودة. هي الذرة التي تحسب نفسها عالماً لا حد له ولا قرار.. هذه النواة المشغولة بقشرتها عن جمال الغاية وكمالها”.
كلما عاودنا قراءة كتابات جبران، نراها تحاورنا على مستوى معرفي مختلف في كل مرة، وتمضي معنا لاكتشاف معان مختلفة وتأويلات غير مستقرة، ان المتعة المصاحبة لإعادة اكتشاف حكمة جبران لا تنتهي، في كل مرحلة عمرية نتأمل المعنى بعمق مختلف كأننا نتهادى في أعماق بئر لا تنضب.
إن جنوح فلسفة جبران نحو التأمل العميق لمسارات الروح ببعدها الكوني أسعفه بمحبة طاغية، تفشت في كل حرف، هكذا نتذكر وصاياه:
“قد ولدتم معاً وستظلون معاً الى الأبد. وستكونون معاً عندما تبدد أيامكم أجنحة الموت البيضاء.. أحبوا بعضكم بعضاً، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود.. قفوا معاً ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً: لأن عمودي الهيكل يقفان منفصلين، والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها”.
وصايا كتبها قبل أن يفارق الحياة عن عمر لا يقل عن الثامنة والأربعين، حيث أعيد دفنه في مقبرة وطنه، قريته “بشرّي”، مترفاً بكلمات صغيرة أراد أن يراها محفورة على شاهد القبر:
“أنا حي مثلكم وأنا الآن الى جانبكم، اغمضوا عيونكم وانظروا حولكم، وسترونني”.