أكاذيب حافلة بالحياة


(1)
“.. وأقول لها إنني أحاول أن أسرد قصتي، ولكني لا أستطيع، ولا أملك الجرأة، لأنها تؤلمني، ولذلك أُجملُ كل شيء وأصف الأمور، لا كما جرت بالفعل، بل كما كنتُ أود أن تجري.

تقول: بلى، قد تكون حياة الواحد منا أشد كآبة من أشد الكتب كآبة.

أقول: بالضبط، إن الكتاب، مهما كان كئيباً، لا يمكن أن يكون بمثل كآبة حياة”.

(2)

ما فات جملة اعتراضية ضمن مقترحات لمشاغلة شأن الرواية في عمل ابداعي يقتفي بدقة ترتيل الحياة، عبر تجميع العديد من الأكاذيب لصياغة رواية غاية في الإدهاش، لا الذهل فحسب.

هكذا تجلس أمام الطاولة وبيدك كتاب معنون بذريعة الهجوم “الكذبة الثالثة”، تقرأ منزوياً على مقعد يتيم، وفجأة تفلت أحداقك نحو السقف، لتتهجى لغم الحدث وتحفل بحرية المعنى، تكاد تختنق كأنما الهواء يبتعد، لئلا تموت تعاود القراءة، فينزاح النبض لا النص وحده، وأنت ترثي لحال توأم الرواية “الشاعر كلاوس” والروائي لوكاس”، تستمر في متابعة السطور دون أن يسقط الكتاب، تلغي هجمة العالم من حولك.. الهاتف يرن.. الباب تدفعه الأيادي.. المساء ينحدر، وأنت منكب كميت يتلفع بحرير الكفن، تجاور الأحداث، غير عابئ بانهيار العالم من حولك.

ترتاد عيناك كلمات لاهبة، تندغم فيها الصورة والمشهد، وعذاب شخوص تراها تؤنب ذاكرتك، تحتمل، تستمر كمنتحر، تضل الطرق وتنتظر الرحيل… حتى تصل إلى نقطة تستوحش والفراغ منتهى السطر، حينها تعلم أن رواية الكاتبة المجرية “آغوتا كريستوف” قد انتهت.

عندها لك أن تندب وقتك.

(3)

آغوتا كريستوف، كاتبة مجرية، تعيش في سويسرا منذ الخمسينات وتكتب بالفرنسية، لها رائعتها التي تعرفت اليها منذ قليل “الكذبة الثالثة” الحائزة جائزة “ليفر أنتر” الفرنسية للرواية لعام ،1992 وهي روايتها الثالثة بعد “الدفتر الكبير” ،1986 والدليل” ،1988 وقد ترجمت جميعها إلى أكثر من عشرين لغة في كل أنحاء العالم.

هذه المرأة حققت حلماً ابداعياً فيه تتخلق الرواية كغصن طالع من نبض الدم، كأن تمسك بكتاب جاف وما أن تحفل عينيك بضوء السطور حتى يغدو نبضاً راعفاً يحتمي بك.

صعب أن أرسل لكم، ما اندلع نحوي وأنا شاهرة صمت القلب، رأيت هتفاً تقصى روحي، من سيرة توأمين، غاية في الدعة، يكفي أنهما آن المصاب كانا في الرابعة من العمر، يتعرضان لنزاع مرير ينتهي بمشهد دموي: يترنح فيه الأب والرصاص يخترق قلبه، والأم تقاد كقاتلة تنتظرها المصحات العقلية، لنتعرف فيما بعد الى ما حدث لطفولة شاء لها المستقبل أن تحتضر قبل آوان الموت، طفولة تتعرض لريادة اليتم ومراكز تأهيل المعوقين، فيها تنمو موهبة ضارية لدى “لوكاس” الذي يتسلح بالشعر وكلاوس” الذي يقارب الرواية، موهبتان تتقدان، كل على حدة، يتخلق بينهما تماس خطير مع الحياة، حتى يتحقق اللقاء المؤجل بينهما لخمسة وأربعين عاماً، فيها نال الدهر ما أراد من طفولة ولدت كالموت مقصاه عن الحياة، المفجع في هذا اللقاء مدى الرفض الذي يتناهض بينهما، مدى الصمت، ليثقا معاً بصعوبة ما حدث.

(4)

“آغوتا كريستوف”، ليست كاتبة مجرية عانت من طوفان الشمولية العقائدية فحسب، ولكنها امرأة تصدت لجحيم الحياة البائسة لكل سرد عملاق، تتسع فيه الذات بوجدان أزلي لمساءلة الوعود والأوهام التي رفرفت على الرايات، لنقد منظومة روجت للهباء، لإنجاز ابداع يصف رعونة الطرق، صرير الجوع، عزلة الغرف، طوابير الشعب الباحثة عن رغيف، ضد برد زنازين يتعب فيها القيد.

امرأة تصف بمخيلة تستدعي أكاذيب الموهبة، ما نعجز عن متابعته، آن نرفع الأحداق لنحدق في الهواء، لكونها تستدرج القارئ ببراعة ليمضي، ويحيا حياة كل طفل منهما على حدة، من دون أن يعرف ماذا حدث لهما، وحتى تتكشف الأحداث، يصيب الذهول كلا من القارئ والطفل معاً، حتى بقية الشخوص في الرواية نرافق تحولاتها كأننا معها في مكيدة المحنة، نشفق على القاتل والقتيل معاً، ننتحر والشاعر، ننحاز للحب، ننتظر كالغرباء على الأرصفة.

كل هذه المناوبة لتفاصيل الرواية، تدفعنا بحرص نحو تشابك المصائر، لقدرة الكاتبة على نسج دراما تصاعدية لا تترك للقارئ قدرة لفعل الحياد، فينساق بلا إرادة نحو حياة أخرى تتشفى بغفلته.

لغة الرواية غاية البساطة، تنحدر المشاهد متتالية، وتسوقك بعناية للتعرف الى ما تجهل من عنف يلعب بعائلة تلاطمت بين الحرب والانتظار.

رواية “الكذبة الثالثة” جاءت منسابة كأنها بلغة الأصل، ثمة تواصل وحال شخوص الحدث، مرونة وتداخل الأحداث بين الحلم واليقظة.

هذا العمل الفني يقترح بأنه: ليس جديراً بالرواية المعاصرة أن تنزع نحو التفخيم اللفظي، والمبالغة لوصف ملامح العناصر الفنية أو حلول الطبيعة، كالبدء كل فصل بتفاصيل كثيرة عما سوف نراه، مما يصيب القارئ بدوار لا تستدعيه رغبة الاستحواذ على مخيلته، لذا على القص أن يغويه بلا تعب الديباجة والمستهل الذي لا نائل من ورائه.

أيضا، ونحن نحيا في واقع صعب بالغ التعقيد، على الابداع أن يوازي حاله، ويكف عن بعث قديم التعبير، ذي الحبكة وثلج السرد الممل، له أن يلهم النفس بوميض لا يكاد يسطع حتى يختفي، لنحيا بذكراه.

لذا عبرت “أغوتا كريستوف” في أكاذيبها عن حياة لاهثة، تصحبنا لمسراتها وأتونها كالعميان، كالعشاق لا نكاد نقرأ الدرب من دهاء انحداره.