قال قبل الموت:
“أرقد على الشرفة وكأنني أرقد على طبل يقرع المرء عليه من الأعلى والأسفل، بل من كل الجهات. وأفقد الإيمان بأنه ما زال يوجد هدوء في أي مكان على سطح الأرض.
لا أقدر أن أسهد، ولا أقدر أن أنام، وحتى لو ساد مرة هدوء بشكل استثنائي، لا أقدر أن أنام بعد الآن، لأنني محطم للغاية. كما أنني لا أقدر أن أكتب ولا أن أشرب، ولا أقدر أن أتحدث مع أحد”.
عندما دفن جثمان “فرانز كافكا” في “براغ” عام 1924 لم يكن قد سمع بهذا الاسم سوى أفراد قلائل، وبعد وفاته بعشر سنوات بحثت عنه الدائرة الحكومية كي تسلمه وثيقة تثبت إنهاء وضعه بالنسبة للخدمة العسكرية.
– لقد أبدع أدبه الذي جعله: “الدليل المرشد الذي لا غنى عنه عبر القرن العشرين، فنحن لا نستطيع فهمه من دون كافكا”. وأهم روائي في القرن العشرين خلال أحد عشر عاما فقط ونصف العام.
في عام 1988 بيعت مخطوطة “المحاكمة” في المزاد العلني في لندن بمبلغ 1،1مليون جنيه ، وقد ابتاعتها حكومة المانيا الاتحادية بعد أن كانت قد رصدت مبلغ 2،3 مليون جنيه من أجل شرائها ، وكان الألمان يعتبرون الحصول على هذه المخطوطة مسألة كرامة وطنية.
“ذات مرة أيقظت “دورا” في المصحة “كافكا” الذي كان ينتحب وهو نائم، فهمس إليها قائلاً: من الحياة يمكن للمرء بسهولة نسبية أن يخرج كتباً كثيرة، لكن من الكتب لا يمكن للمرء أن يخرج سوى قليل من الحياة، قليل جداً”.
عندما وصلتني ترجمة” الآثار الكاملة” التي أنجزها عن الألمانية الكاتب والمترجم السوري إبراهيم وطفي، خفت من قراءة الكتاب الذي – وهو الجزء الأول- يناهز الثمانمائة وخمسين ورقة، تعتني بإيراد كل ما وجد وحقق لغاية النشر من كتابة حول إبداع “كافكا”، بل حول كل شيء عانقه طيلة حياته.
عادة يحدث أن تقرأ رواية ما، وتتأثر بها، وتظل تثير دواخلك بعض الوقت، حتى تنتقل لتفاصيل الحياة التي سوف تلهيك عنها بتراكم الأعباء، هذا عادة ما يحدث، لكن عندما تقرأ رواية واحدة لكافكا، عليك أن تودع ذاتك قبل الرواية، لأنها لن تكون ذاتها بعد القراءة، لسبب يكمن في عنف موهبته القادرة على تغييرك من الداخل، إعادة صياغة أفكارك، خلخلة رؤاك، شحذ أحاسيسك، تحريف الجهات، هز ميزان النظر، العديد من التبدلات تخضع لها، فما بالك إن كنت أمام تحد خارق يضعك في مواجهة كل شيء يتعلق بكافكا الذي يقول:
– “إن لم أنقذ نفسي في عمل، فإنني سأهلك”.
المخيف في هذا الكتاب، هو اشتماله على بلورات معرفية لا متناهية في الصغر، تلتئم شيئا فشيئا بفعل القراءة والتفحص لدلالات الحالات التي نشهدها، ويشير لها كافكا ورفقته، وكلما تحصلنا على بلورة كبيرة الحجم تكفي ليتحصن بها الوعي، شاهدناها تتهشم ثانية، أمام معلومة أخرى تتضاد وحصيلة المعنى الذي كدنا أن ننجزه.
ذلك لقدرة كافكا المذهلة على إثارة الشك وتقليب اليقين، إدراكه ومحاورته لعوالمه الحياتية، والكتابية التي تحدث شروخاً عديدة في ثوابت المعارف، إن فعل تحدياته الإبداعية لا يكمن في مجابهته للإبداع أو الحياة، بل بينهما كضدين متحدين، وبينه كجسد وحيد.
في يومياته كان حريصا على تدوين مراحل كتابته الإبداعية، كل ليلة:
الكتابة: “لا يزال الليل ليلاً أقل من اللازم، من أجل الكتابة أحتاج إلى عزلة، ليس مثل زاهد، هذا لا يكفي، وإنما مثل ميت”.
العائلة:” هي الصلة القسرية الوحيدة التي لا يمكن فسخها”.
البيت:” سجن أقيم لي خصيصاً، وهو أكثر قساوة لأنه يماثل بيتاً عادياً لا يرى فيه أحد- غيري- سجناً”.
قلقه الإبداعي وندرة النوم:” صحيح أني أنام، لكن أحلاما قوية تدعني مستيقظاً في الوقت نفسه، إلى جانب نفسي أنام، بكل معنى الكلمة، في حين أروح أنا نفسي أتصارع مع الأحلام، لا أفعل شيئا غير مشاهدة الأحلام، وهذا أمر متعب أكثر من اليقظة. عند الفجر أطلق تنهيدة في الوسادة لأن كل أمل قد ضاع بالنسبة لهذه الليلة”.
محاولاته للانتحار: “قفت طويلاً إلى النافذة، وكان يطيب لي مراراً أن أفزع الجابي على الجسر بسقوطي”.
حين يحيا كافكا، يكاد أن يتحول إلى فعل الكتابة ذاتها، بمعنى قدرته على التشيؤ والتحول الذي يزيح خصائص الكائن عنه، ويهبه لطقس إبداعي سحري وسري في آن، من الصعب تفسيره أو الإندغام الكلي به، هذا ما يتكشف لك، عندما تتابع سيرته ويومياته بالذات، تتيقن من كونه لا يعرف معنى له دون الكتابة، ولا يتعلق أو يكترث بحقيقة أخرى غيرها، ثمة تجاسد كلي بينهما، هذا الاشتراط والاحتراس الإبداعي، بلور موهبته لتنجز التحول العميق في وقت قصير جداً لا يتجاوز أحد عشر عاماً.
كتب صديقه روبرت:” يمثل هذا العمل جهداً هائلاً، ليس روحياً فحسب، وإنما هو نوع من معاودة لقاء ذهني يؤثر فيه ويهزه، بحيث تسيل دموعه طويلاً على وجنتيه، ورغم حالته الرهيبة، فإنه يرغب في مواصلة تصحيح “فنان الجوع” وإن كان مقتنعاً بأن هذا العمل سوف يثير الاضطراب في نفسه. لقد قال لي: ينبغي على أن أعيش الحالة من جديد، إن حالته الجسدية، التي يموت فيها جوعاً مثل بطل قصته البائس، هي فعلا حالة أشباح”.
كما قال له:” أرجو أن تعتبرني حلماً”.