الكاتب: جعفر حسن
فوزية السندي من الأصوات الأدبية المعروفة على خارطة الشعر العربي في البحرين، بدأت في نشر قصائدها منذ العام 1979 في الصحف المحلية والخليجية، وبعض الصحف العربية كما أشار اليها الدكتور علوي الهاشمي في كتابه “شعراء البحرين المعاصرون “، وهي منذ اصدارها لمجموعتها الأولى “استفاقات” في عام 84 ، تابعت اصدار مجموعاتها بعد ذلك لتشمل مجموعة من الدواوين كانت على التوالي “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث” عام 86 ثم “حنجرة الغائب” عام 90 ثم “آخر المهب” 89 “ملاذ الروح” 99 ، وبإصدارها لهذين الديوانين تمت مجموعتها الخامسة، ومن المثير للإنتباه ان الديوانين الأخيرين قد تم طبعهما في ذات السنة الا انهما قد ظهرا في نفس التسلسل المذكور سابقاً و بما ان القصائد ليست مؤرخة في الديوانين فلا نستطيع أن نتتبع التسلسل الزمني في تجربة الشاعرة، على ان هناك سيطرة تامة لأسلوب لغوي محدد الملامح يستطيل مع دواوينها المختلفة، مما يعبر عن نضج التجربة الفنية في الكتابة الشعرية، على انه يشير أيضا إلى ان الشاعرة قد تم لها الاطمئنان إلى تشكيل اسلوبها الشعري فلم تحاول تجديد بنيتها الا فيما ندر، وذلك عبر تكثيف الصورة الشعرية في القصيدة و تنويع فضائها البصري، كما يظهر لنا في قصيدتها “الهواء الضيق” من ديوانها “آخر المهب” حين نقرأ في القصيدة:
“أصعب من الطريق
خطوي الكفيف.”
“حراب تكشط الحديد عن الصدأ
ترتد .. فأرتاد”
“منزهة عن النهار
أتمرمر بموهبة الليل.”
على ان القصيدة تتجلى فيها ذات الفنية والتقنية الشعرية كما في باقي القصائد على مساحة التجربة، التي نرى انها تسير في مستوى افقي واحد عبر التجارب المختلفة إلا فيما ندر، مرتكزة على مجموعة من التقنيات الشعرية التي تتيحها لغة الحداثة وتتقنها الشاعرة، وهو ما سنحاول ان نسبر بعض مظاهرها من خلال قصيدة ” ابدو و القيد لا يحتمل” من ديوانها “آخر المهب”.
ان أول ما يواجهنا في الاسلوب الشعري الذي تستخدمه الشاعرة “فوزية السندي” هو انحيازها الواضح لقصيدة النثر في مقابل هجر يكاد يكون تاما لقصيدة التفعيلة، والشاعرة إذ تتحول إلى قصيدة النثر انما تعتمد على الجرس الصوتي لحروف اللغة التي تتمظهر في تكرار المقاطع المختلفة والتي تعطي للقصيدة جرسها الداخلي
وايقاعها المتوزع بين المطالع كما تشكلها الكلمات وبين النهايات أو ما بينهما، فمثلا نلاحظ في مطلع القصيدة:
“لأني كذلك
أعني امرأة”
نلاحظ تكرار المقطع الصوتي “ني” في كل من الكلمتين لأني
وأعني، أو كما تكرر المقطع الصوتي “لا” في “لا/ لأحيا” “لا لأكبو” “لأتهاوى” والارتكاز على حرف الشدة وهو الهمزة،
واجتزاء حرف النفي لا في المقطع الأخير، أو الاعتماد على تكرار ذات الكلمات لإحداث توازن في الجرس الموسيقي للكلمات، كما تكررت في القصيدة كلمة “صعب” مبهمة ومعرفة كما في “صعب/ قلت: صعب/ ولما كتبت الصعب” أو بقلب المقطع الصوتي في الكلمات المتوالية مثل “أنجز جنون/ فراشة شاءت” نلاحظ في الكلمتين الأوليتين تتابع النون والجيم في “أنجز” ثم انعكاسها في كلمة “جنون”، كما تتابع ألف المد مع الشين في “فراشة” و انعكاسها في “شاءت” ومن هنا نلاحظ تقارب الكلمات التي تحتوى على نفس الحرف وتتابعها حسب الايقاع الداخلي للقصيدة، على الرغم من وقوع الحرف المكرر في مواقع مختلفة من الكلمة، أو بالاعتماد على الجرس الصوتي لحرف الميم أو الكاف في “فحم الخيام” “لأنك/لا أراك”، أو في نهايات المقاطع بتكرار حرف الياء “دمي/ لسواي/ اياي / عني / تشبهني / جسدي / دمي / ادمني”،
وهي مجموعة من الظواهر التي تشكل عند الشاعرة ايقاعها اللغوي وهو ما يتضح لنا على مستوى البنية الاقاعية .
على ان هناك مظهراً حداثياً آخر يشغل فضاء اللغة التي تمتشقها الشاعرة وهي تلك العلاقة التي ترصفها بين الأشياء وهي تستقرئ احتمالية اللغة وامكانات فضاآتها الداخلية وتشكيلاتها الجمالية في التراكيب الممكنة والتي تحاول من خلالها أن تفارق النسيج المألوف للغة اليومية المستخدمة وتنسف من خلالها العلاقات القارة في بنية اللغة على المستويين الاصطلاحي والتداولي العام، فمن حيث التراكيب تلاحظ منذ البداية ان هناك مفارقة كبيرة وبعيدة في العلاقات المطروقة بين الأشياء، كما تنعكس في تلك العلاقات البعيدة التي تكاد تكون خارج الحقول الدلالية للكلمات التي تشير اليها والتي قرت في العرف العام للغة العربية وقاموسها كما تتبدى في “فراشة شاءت هسيس الجمرات”، فمن المعروف ان هناك علاقة موجودة بين الفراشة والشمعة القاتلة وهي معرفة متشكلة على المستوى الايدلوجي والمعرفي في بنية اللغة العربية، ولكن الفراشة هنا لم تشأ الضوء أو نور النار أو ما يتقد في الجمرات
وهو عادة ما يجذبها، انما أرادت الفراشة ذلك الحديث الخفي النابع من جوف الجمرات وهو ما تحيلنا عليه كلمة “الهسيس” الواردة في المقطع الشعري السابق، وهو الهمس الخفي الذي يدخلنا في الحقل الدلالي للحديث الذي يستحضر اثنان يتهامسان من البشر، ولكن الحديث هنا نابع من الجمرات وهي تعاني انكساراتها المرة، وهي تتهاوى إلى رماد، انه ذات الرماد الذي تصير إليه الفراشة بعد استماعها لذات الحديث وهي صورة غريبة تقترحها علينا الصورة الشعرية، كما يعرف الجميع أن الهسيس هو صوت النار وليس الهسيس على الرغم من تقارب اللفظتين وتساويهما في عدد الحروف إلا انهما مختلفتين في الدلالة، فنتيجة للتركيب تنفتح لنا الدلالة اللغوية ونحتاج إلى إعادة التكوين والتأويل حتى تتم المشاركة بين المبدع الكاتب والمبدع المتلقي في الدخول لأجواء القصيدة، وهي عملية لا تتسم بالسهولة المحببة للمستهلك المتعود على الجاهزية اللفظية، كما ان الحضن مثلاً لا يكون رهيفاً، لأن الرهافة صفة لحد النصل المتواجد في السلاح الابيض، كما انه لا يوجد إرث للحوافر وهي لا تعتاد إلا ترك الاثر، ولكن الشاعرة لا تزال ترتد الى المرجعيات ذات الدلالة في اللغة المحكية التي تحيل الى “لكل حصان كبوة ولكل سيف نبوة”، كما ان التوابيت لا تسترسل والزنازين لا تستطيع إلغاء الهواء لان الهواء ليس مما يلغى لانه ليس أمراً والصلافة ليست من صفات الحديد انما هي من صفات الانسان “تدافع ازيز الدخان”، كما ان الأزيز ليس صوتاً للدخان وانما هو صوت الرصاص، كما ان الصوت ليس مما يتدافع لانه يحس ولا يرى والتدافع يتطلب حاسة النظر، فنجد ان الشاعرة تقوم بالربط بين حقول دلالية مختلفة تعاود فيها تشكيل اللغة
وتزحزح اطرها فتخلق إرباكا للقاموس اليومي المألوف للقارئ العادي وهكذا فإن القامة علاقات لغوية بين ما هو مألوف وصفة غريبة عنه تماماً وتمت إلى مجال دلالي مختلف تفتح الصورة الشعرية عند “فوزية السندي” على فضاء أرحب وتنطلق من بنية اللغة إلى بنية المعنى بصفتها الحداثية هذه .