تلك المترعة بفرح الروح

 

الشاعرة فضيلة الموسوي

 

الرائعة فوزية السندي في ديوانها الثامن، “تلك التي أحبها” تقول: “في التأمل أراني أضيء مغاوير ذاتي”.. أعتقد بعد تجربة التأمل الطويلة التي انغمست فيها السندي حتى رتبة الماستر في الريكي جِنكيدو وكمؤسسة ومديرة لمركز البحرين للطاقة الإيجابية، أتى ديوانها في موعد يبدو متأخرا عن الإصدار السابق، لكنني أرى أنه جاء في موعد حددته لياقة جديدة في العطاء الإبداعي، بمزاج رائق، وسلام داخلي، ورضا عارم، وامتنان كبير، لذا انفرد الديوان بكشف جديد حين نفضت ذكرياتها الحميمة، بدءً من البيت، فأفردت للأم والأب والإخوة جزيل الكرم القلبي. رفرفت بعاطفتها على البيت كله، فقدمت الأسرة كوثيقة عائلية مسنودة بزوادتي الأمل والإيثار، ومكلّلة بجميل الصبر، وفرح النجاح. كما عرّجت على أسرتها الصغيرة بأقمارها الثلاثة “لصدى ضحكات صبية ثلاثة يرتبون قلبي”.

سيرة قلب مكنوزة بولاء، ووفاء، وحنين منقطع النظير لكل ما مرّت به في الحياة، قالته بحنوها، وحنانها، وجوارحها، وفاضت بحواسٍ جاوزت الخمس. أخذتني في رحلة ممتعة لا تخلو من الوجع، والوجع حلو في تصالحها معه، ومع الذات. كان هطول البوح بصحبة حروف ثرية، وغنية حد الشبع. صداقة عريقة بالحروف، منذ المريول الابتدائي والشرائط الصفراء. تستهل بوحها بـنص “فوزية” وكأنها أمام مرآة تحاور نفسها، وتربت على قلبها :

“رفيقة روحي

بك أمتحن الحياة ولا أكاد أعرفك

بك اجتزت العمر وأهرقت الوقت

ونحتُّ ما كتبت ونحرت ما كبت

أيا فوز هل نلت منك أم نلت مني؟”

مرورا بمشوار الحياة الطويل، بكل تفصيلة، وكل طقس، وكل وقت، في كل شارع وزقاق، عابرة كل حب وألم، وجرح صادفته منذ عتبات البيت التي تتعثر بها دائما:

“تخفي وقع خطانا في قلبها الرخام

وتعيننا على الرواح والمجيء العجول

أحبها رغم عثراتي”

وللمدرسة نصيب من الحنين الذي يضيء شاشة القلب بكل التفاصيل، بالتاريخ المدلل في الذاكرة، فلا يذوب ولا يذبل. في الطريق إلى المدرسة، تلتقط عيون فوزية كل شيء، وكأنها مسئولة عمّا تصادفه، وعليها أن تسبغه حقه من حرير الشعر كلما ناداها، سيدة التفاصيل الحسية، تطوي في كراساتها حتى الغرام الذي يشعُّ على الجدران، تمسحه مسحا حين تمشي بمحاذاتها؛

“كل صباح أحاذيه وأتهجى أسماء المحبين

بقلوبهم الجريحة”

وحين يصطدم بصرها بسور المقبرة تنتفض .. الموت مهيب وعاصف حين يغزو مبكرا جدا قلب الصبية، الفارهة الحس. كثير عليها الفقد الغامض، وهي كثيرة عليه في حروفها المكتنزة بفوران الأسئلة العصية؛

” هبات الموت وتميمة الدمع ونرد الفقد

ارتاعني قرار الرؤية فأجلت مفاجآت الغياب”

لكنها تجد في الشعر ملاذا وطاقة تهب لها الشفاء الروحي:

“حرف حالم ينحت خبايا عمري

كلما حذفت الآه انبرى ململما شتات روحي”

طفلة لا تغفو حواسها لحظة عن التقاط كل التفاصيل التي تعصف بإحساسها، وتوثيقها على جدار القلب. والقلب الطري حين نبض بالحب الأول لم يجد سبيلا إلا العندليب:

“هكذا انشغلت قليلا عن مهوى القلب، حتى طلّ علي

عبد الحليم لم يكن يغني إلا لي

تيقنت حين أسرني : أسير الحبايب

فقد كنت الحبايب سرا لا يعرفه إلاه

“ها أنذا أراه محتلا شاشة قلبي

متمايلا هاتفا للحب: دقوا الشماسي”

لفوزية لغة رشيقة، قاموسها حديقة حواس بكل الألوان فهي؛ الجريحة، المكلومة، الصاخبة، الثائرة، المكسورة، ثم الحنونة، الدافئة، الرهيفة، والعبقة بمشاعر الحب،  واللطف والرحمة، والألفة، والامتنان، وكل ما يخطر على القلب، لغة ذات نبرة عالية الرجفة كعادتها وإن زادت عليها حنينا يشف الروح.

منذ تعرّفت إلى السيدة فوزية السندي في التسعينات، وأنا أتابع مقالاتها الأسبوعية تحت اسم: “صوت”، منذ بداياتها والحرف موّالها ومآلها، قادرة على دلق إحساسها بسهولة على الورق بنفسٍ طويل وعميق، مكوّنة نصوصا تتغنى بجلال شعري أصيل، بعاطفة تسبر أقاصي شغاف القلب والروح، كأنها تنحت اللوحة الشعرية بمبرد رشيق، تكشط الحروف الزائدة بعناية المهارة والخبرة، لكنها ليست كذلك، بل أجدها بارعة في سكب الحروف دفعة واحدة، بمهارة لا تفرط منها أبدا، كما اعترفت: “صارحني بحبره بلا خبرة ولا مشقة” لذا كان “هذا البياض الصعب لا يقبل أي حرف” إلا حروف فوزية الطيّعة لإحساس قلبها، تهب التفاصيل الحياتية الاعتيادية واليومية سحرا لذيذا. أمينة جدا في إخلاصها للنص والمعنى على حد سواء، مما يكرّس الصدق لأبعد الحدود، فتعيد البهاء لكل أمر يُعتقد أنه مهملا .. كنص: ورقة العلامات؛

” توجز مصيرنا الأبكم أمام الكبار

ليشهدوا قدرتنا على رد السؤال

تلخيص الفشل وأحيانا التفوق المؤقت.

شهادة مختومة بعلامات وأسماء وذكرى للشك”

 

يفصح الديوان في آخر صفحاته عن رؤية غير مسبوقة لعالمها الخاص من خلال تجربة التأمل. “في التأمل الكون بيتي” .. كونها الحميم الذي غطست فيه مليّا في سكينة التأمل، سبرت فيه عوالم جديدة وبعيدة، حتى أخذتها إلى رحم والدتها والجنين الذي كانته هناك. انفردت ببوح آسر، ومتدفق لمشاعر جنين يتخلّق لتوّه في غمر الماء وظلام الدم، سرد مستفيض متواصل في 38 صفحة، سرد يقطع الأنفاس  .. في هذه الصفحات تفوّقت فوزية على الجراحين المختصين بتشريح اللحم والدم، كيف؟ تفوقت عليهم بمشرط آخر، مشرط الإحساس العميق، الرقيق، الفاتن، ومشرط الحرف الذي انتخبته فوزية كان رهيفا في نصله، ولا يتقن استخدامه أحد سواها.. فتقول:

” فرحت كثيرا بهطول حنو الماء، مجنون وسريح في آن، عنصر رخي اندفع غاسلا هذيان دمي، قبل أن ينالني الأسى مشمولا بطيش الدم، لمرأى بريق المشرط وهو يجتز بشحذه المرير آخر العناق بين طراوة التكوين وصارية الحب. أشرعة تشترع لمدى أمومة الرحم. شبه مرساة حان لها المهب”.

وللضوء لوم ساطع على عيني الوليدة، فزعت منه فنال من حنجرتها ما نال:

“متشحة أنا الأخرى بصرخة هدّت أواخر حنجرتي ببلاء صوت سوف يستديم لنهايات الورق، صرخة لم تنحت حواسي كلها، تصقل صوتي بترديد صداها العنيد، لأتذكر معها، بارتجاجها الجارف محنتي، كيف أهداني ظلام الرحم لحياة مضاءة دائما، لأتعرض لكل هذا الضياء الجريء، ولأرى ما سوف يفعل الضوء بي”.

ثم مشقة الكلام رغم فيض الشعر:

“ذلك العتم كان خفق الشفاه. أن أعني الكلام، لم استطع طيلة طفولة تهت بها أن أترجم وجع الحنجرة وهي تقوى على البوح وتعجز في آن. فيما بعد درس الشعر وكان يسمى نصوصا بدا مؤلما حتى الموت لحنجرة صبية لم تبلغ الصبا بعد”

وفي موضع آخر تدين للشعر خلاصا من محنة الحنجرة:

“عاهة أشفاني منها الشعر وحده كلما اتقدت والورق بلهفة روحي لعناق الحرف حينئذ أتقنت مهارة الكلام بلا مشقّة غير عشق الشعر، نبضي الحر”

وتؤكد أن للدرس نصيب في أزمة الكلمات المختنقة:

“لكنه الدرس، يا له، مفعما بالمحاذير وصنوف العذاب تجاه طفلة لم تتقن بعد مهارة انتزاع الحرف من بئر الحنجرة.” .. “وحدي كنت عاهة الكلمات”

وأخيرا تنتصر لنفسها:

“صبية ذات شكيمة، حادة الحواس، لا ترتضي الهزيمة أبدا، مثلما كتبتُ عندما كبرتُ قليلا:

هل أخسر والفوز اسمي

نرد تصدع من عبث التهاوي

فوز وتخسر بين الجوارح والجراح؟”

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في وصف مالايوصف، قراءة في”هل أرى ماحولي هل أصف ماحدث

 

الشاعر/ قاسم حداد

جريدة الوطن الكويتية

 

عندما نقول قراءة. فإن هذا يجعل عملنا محدداً بشروط تفرضها طبيعة الأشياء. فالقراءة شيء يختلف عن العمل النقدي. وتأكيدي على القراءة هنا أنه ينبغي أن يشير إلى أمرين:

الأول: أنني لست معنياً بممارسة النظر النقدي. فحين يتناول أحدنا تجربة لزميل له. فهذا يعني بالضبط قراءة لها. محاورتها وتلمس عناصرها الفنية والرؤيوية، دون أن تكون هذه القراءة مرشحة دوماً لمقاربات النقد العلمي. أو الصوابية المطلقة. إنه ضرب من الحوار الباحث. وفي مثل هذه الممارسة: أن تبحث أكثر أهمية من أن تجد.

ثانياً: إنني ألقي في شكل هذه القراءة / الحوار فسحة من الحرية في البحث، بحيث يتيح لي أفق البحث اكتشافات قد لا توفرها لي الأعمال النقدية الأخرى. وربما استثارت هذه القراءة مزيداً من الحوار الإبداعي على أصعدة مختلفة. تتجاوز أطراف الحوار. ولصاحب النص، والقارئ بعد ذلك، حرية كشف انحيازات هذه الكتابة نحو النقد بين حين وآخر.

من هنا أتمنى أن تسهم هذه القراءة في توسيع دائرة البحث. حتى يمكن للقارئ الآخر أن يتدخل في سياق الحوار، وأن يبحث هو الآخر.

إذن، فإن كل ما يرد هنا ليس سوى اقتراح قراءة. وإضاءات صادرة عن تجربة ما، لا تدعي حصانة المعطيات أو نهائية المعنى.

وإذا ما وقع جانب من هذه القراءة في التفسير، فإنما هذا يحدث لضرورات لا يمكن تجنبها داخل السياق. فأنا لا أهدف إلى التفسير، لأن الشعر الآن لا يقبل ذلك ولا يتطلبه، إنه فعل عاطفة مشحونة بالتجربة، ولا أزعم أني قادر على تفسير المشاعر، إنني فقط أحاول معايشتها، فأنت لا تستطيع مثلاً، أن تفسر الحب، لكنك تقدر أن تعيشه، وتحسه، وتفقده أيضاً.

 

هل أرى ما حولي

هل أصف ما حدث

الشاعر قاسم حداد

عنوان الكتاب يبدو لي، للوهلة الأولى، مضللاً، وإذا لم أكن حذراً فسوف يغرر بي المعنى المباشر، إن فوزية السندي تسأل: (هل أرى، هل أصف). ولصيغة هذا السؤال احتمالات كثيرة، يمكنها أن تسعف تعدد القراءات وتنوعها. فيمكنني هنا أن أكشف عن الطابع الاستنكاري لصيغة السؤال. فربما لا تنوي الشاعرة وصف شيء لأنها في نفس العنوان تشي بشك في أنها ترى.. ترى ما حدث، لكي تحسن وصفه، وحتى عندما تقول لنا في القصيدة ذاتها: (هذا ما رأيت)، نكاد نرتاب في أن كراسها المختوم بالأخبار، جدير بتحقيق المشهد عن طريق الوصف.


من هنا نريد أن نؤكد منذ البداية أن الكتاب بمجمله محاولة لنقض الوصف، بمفهومه البلاغي المعروف، في التجربة عموماً مناخ يحاول وصف مالا يوصف. فعندما يحاول المرء أن يصف أحلامه وكوابيسه ورؤاه فإنه سيفشل، لأنها ستظل أجمل وأقوى من محاولة وصفها ففي نفس القصيدة تنقض الشاعرة مشروعها، أو تمعن في تضليل المعنى، فتقول: (لا أرى ما حولي لا أصف ما حدث).

وهذا ما يجعل عنوان الكتاب كفيلاً – في أغلب الأحيان – بأن يغوينا، إذا ما نحن توقعنا من النص وصفاً بالمعنى المتعارف عليه. وصفا يقوم على المنطق والموضوعية.
ولكي يتسنى لنا الاقتراب أكثر من تجربة هذا الكتاب، يجب أن نتخلى عن شروطنا التي نتسلح بها عادة في مواجهة قراءة الكتب الأدبية الأخرى، أعني أن نتنازل عن طلب المعنى المنجز، ففي هذا الكتاب لن يتوفر المعنى ببعده الموضوعي، الذي تنتهي إليه النصوص عادة، مانحة فكرة أو حكمة أو موعظة.

فوزية هنا لا تعنى بالموضوعات ولا تقول لنا المعاني المكتملة، إنها تنطلق لتدفع بالقارئ إلى حالات، إلى مناخ شامل ينهض على الصورة، ويتسلح باللغة الشعرية المكتنزة، لذلك يتطلب الدخول في هذا المناخ انغماراً كلياً في المشهد الذي تجسده لنا النصوص، وإذا كان ثمة موضوعات ومعان فإنها حتماً لن تكون مكتملة في القصيدة، بل هي قابلة لأن تتخلق في ذهن القارئ أثناء وبعد فعل القراءة.

كانت فوزية السندي في كتابها الأول (استفاقات) تتقدم إلى الشعر وتواجه التجربة بتردد وارتباك في التعامل مع الأدوات، وكان ذلك متمثلاً في مظاهر عديدة يمكن ملاحظتها في التأرجح بين بدائية الرؤية الفنية والمراوحة عند الوزن باعتباره من شروط الشعر الموروثة، وبين ابتكار قوانين الكتابة الجديدة.

لكن في كتابها الثاني، نواجه منذ النص الأول اللغة الشعرية التي تحمل عبء مهمات لم تألفها. وعندما تعلن الشاعرة في البداية عن (نصوص مصقولة) فإننا نستطيع اكتشاف البعد الفني في هذا العنوان، الذي سيشمل نصوص الكتاب جميعها، والمصقولة بثلاثة عناصر حاضرة بشدة طوال التجربة، هذه العناصر هي:

(الحب، الحرف، والحرية).

 “حين أحبك أزهو كزغاريد مرصعة في جلبة الدار، بارقة كشمعدان مصقول، فائرة الجوائح، وباهرة كجوقة تحيك سلالم القلب”.

الحب عندها يبدأ في صيغة بوح (حر) لا كابح له، الحرية ليست في فعل الحب، لكن أيضاً في إعلان هذا الحب إلى درجة الزهو. هذا البعد الاجتماعي سنصادفه بأشكال عديدة في الكتاب، وفعل الحرية هنا سيتجلى في شكله البوحي والتعبيري في آن. وهذا ما يتصل بحرية اللغة الشعرية.

مثلما في “هذا أنت كيف لي ألا أحبك”.

 ثم أنها تعلن عن حبها، وحريتها في آن واحد، و”تدخل المعاصي وحمى البروق “.

“أصول في براثن خفية منشدة بفاتن لي في سناه قناديل وستائر مسدولة”.

وفي مواقع كثيرة في الكتاب نقرأ هذا الاختراق الفاحش لمألوف البوح، وهو اختراق للخصوصية الاجتماعية السرية، حيث الحب الخاص يمتزج برغبة كامنة وصريحة لنقض تاريخ من العسف والمصادرة لفعل الحب، ولكنه اختراق مرصع – فنياً – بصور شعرية مباغتة وذات تألق تعبيري.

 

في قصيدة (خفايا الكلام) يمكن أن تتكشف لنا المجابهة الإجتماعية بشكل أكثر عنفاً وتغلغلاً في الأعماق.

تبدأ بـ (أيها السيد) ، ثم تأتي “هاتكة ورع الجسد وجرار النفس”  الروح والجسد هما دائماً عرضة الكبح والقمع من قبل القوانين والمحظورات الهائلة : عندما يكون الجسد ورعاً يعني أنه محروم من هواء حرياته، وعندما تظل النفس في الجرار فإنها تتعرض لاحتمالين، أما للتآكل والموت، أو أنها تصير مثل نبيذ يتهيأ للحظة التدفق.

وعندها سنفهم معنى أن تكون هناك (ناشز) تصرخ، وأخرى ترصد أضلاع المكان. فإذا تجاوزنا المستوى الأول لمعنى كلمة ناشز. وهي المرأة التي تثور على زوجها وتستعصي عليه وتبغضه أيضاً، فسوف نحصل على بعد جمالي في مستوى آخر، حيث الناشز من الخيول هي الفرس التي لا يكاد يستقر السرج أو الراكب على ظهرها، إنها الجامح التي لا تقبل الترويض.
و (السيد) الذي تخاطبه القصيدة هنا ليس هو الرجل، ولكنه السيد الأسطوري المهيمن، إنه التراث الذي لم يزل يحكم الأبناء، ويهيئ للأحفاد تاريخاً آخر من الذل والخضوع، والشاعرة هنا تتوجه إلى الأعماق بخطاب من السخرية المريرة عبر الصور التهكمية، التي تنكل بالسيد من جهة، وتستثير الأعماق، وتفجر المكبوت والمسكوت عليه طوال الوقت من جهة أخرى، ومن هنا جاء عنوان القصيدة (خفايا الكلام).. وعندما تخرج من القصيدة تترقب (نهضة الكلام) ، ذلك الكلام الذي سيكون بديلاً لكلام ظل يتساقط تحت وطأة هجومات حريات الحب والبوح واللغة.

في قصيدة (هجيج في حضرة الرماد) ستكسب النار حياة، وسطوة حضور، فهي المطلة في صهوة الأخيلة، وهي ماكنة الوهج والتبدل، وهي جذوة اللغز، والمتشابكة كسلال ريفية في تصدع الهوادج، وباسطة النصل في رئة المدائن. وهي المدللة بفلول اللهب.
أية نار هذه التي تخاطبها الشاعرة بنوع من التدله؟! كأنها تتمنى النار لهشيم يملأ الحياة، لكي تنطلق الشرارة من إسارها ويتحول المشهد إلى حريق خالق، وإذا كانت ثمة خطيئة في إطلاق صهوة النار في هذه المدائن، فإن الشاعرة مشغولة بنعمة الخطايا، ويطيب لها أن تمتحن (تخوم الرؤى بالصواعق). فلم يعد الواقع يحتمل صبراً (أعني عذاباً) أكثر، واللهب المستكين الذي تستثيره القصيدة، وتستدعي له (حبق الريح) ليس أمامه إلا أن يكون (شاهد الهتك) فهذا الليل (هذا الواقع) قد جن هاذياً على فراش من هواتك الشهب.

كأني بالمشهد يتوضح لنا حسب هذه القراءة، فالقصيدة تنطوي على تسعير لنيران مكبوتة أو كامنة.

فأصل كلمة هجيج التي ترد في العنوان، هو (هج) أي أوقد النار حتى سمع صوت استعارها. والهجيج في حضرة الرماد يشير إلى احتمالات غنية يدخرها الرماد، هذا الرماد الذي ينحني له المجد ( كما تقول القصيدة، فالشاعرة تتمجد الرماد المكتنز بالمستقبل، ولا ترى في هذا الهمود الذي يغمر المشهد سوى حالة انتقال من الرماد إلى الهجيج.

في قصيدة (معلقة) نصادف نموذجاً يشي بتعدد المستويات الدلالية، وهذا ما يستدعي من القارئ أن يتجاوز حدود الكلمات ومخزونها القاموسي، أو المنجز ويطلق لخياله حرية الرحيل مع دفقات الصور الشعرية، مستجيباً للأبعاد التي تغري بها الصور.

فالمعلقة عند فوزية تكف عن كونها شكلاً تعبيرياً، لتصير شكل حياة وتاريخ، لنرى فيها شعوباً، ” تتدلى بزخارفها وبديعها” معجونة بماء الذهب وحجر الجناس ووتائر الحرير وعاج الفتنة.
إذن فهذه ليست سوى أمة كاملة تجرجر تراثها وجثثها عبر التاريخ، ملعونة بذهب زينة لها، لكنه لا يسعف الإنسان ويرشحه للمستقبل، فهاهي “تسوق أبياتها بعناية مثل قافلة واقفة” و”القوافي كبغال تدب دون التفات أو حركة” تساق في الأسواق كجارية محاطة بالخلافة، مغلولة ومعلقة لا تزال.

إن الشاعرة، في مواقع عديدة في نصوصها، تشير إلى انحراف تعبيري، ينقل المفردات من مستقرها الدلالي السابق، والشائع إلى اتجاهات مغايرة تماماً، هذا الانحراف هو ما يشير إليه بعض النقاد باعتباره الخروج غير المتوقع للكلمات من معانيها المستقرة إلى مستويات جديدة من المعنى. ولعل تجربة فوزية في هذا الكتاب تقوم على فعالية انحراف من هذا النوع، مما يدفع بالصورة الشعرية عندها إلى مهمات مركبة، وتكون اللغة في هذا السياق مطالبة بأن تقول ما لم تتعود على قوله.

ولاشك أن مثل هذا الانحراف اللغوي والتعبيري سينطوي على قدر كبير من التخريب القائم على بذر الفتنة داخل النص. ليست الفتنة على صعيد المعاني، حيث حريات الفعل والبوح والمجابهات، ولكن أيضاً الفتنة على صعيد اللغة، حيث حريات العلاقات اللغوية وهندسة الشكل وتدفق الحروف والكلمات بما يكفل توالد الصور الشعرية المباغتة وغير المتوقعة، وهيام الشاعرة بالشكل جعل للفتنة طابعاً من السحر، ولعل ما يثير الفتنة دوماً – حسب تعبير الناقدة كريستين غلو كسمان: “هو ما يحطم نظاماً ويدفع إلى اختراق الحدود”. لكننا ينبغي أن نتميز بالحذر تجاه هذا الإغواء، فليس كل اختراق للحدود، أو نقض لقاعدة هو بمثابة جدارة بإنجاز القصيدة الجديدة. لأن شرط الجمال الشعري هو الذي يعطينا فرصة اكتشاف نجاح هذا النص أو فشله.

وفي الشعر، الصورة ليست أداة فحسب، لكنها توق ومتعة ذاتية، إذا لم ينظر الشاعر إليها على هذا الأساس فإنه لن يقدر على توفيرها للنص، وبالتالي للقارئ. وفوزية كانت ذاهلة بفعل الحب للغة، كأنما هو عشق خاص:

“توليك الجنائن طبائع الفولاذ وفيض الجمرات

 ضارباً إسفين لهوك في معترك اللذائذ”

والمفردات هنا تتبادل مواقفها ولا تستقيم مع منطق بلاغي مألوف. فالمألوف أن تتجاور كلمة (إسفين) مع كلمة (معترك) وكلمة (لهوك) مع كلمة (اللذائذ).

لكن النقض في شبكة العلاقات البلاغية سوف يجعل مثل هذه الصورة تنحرف عن مدلولاتها المتوقعة، وتخترق القانون مشحونة بطاقة إيحائية خصبة تستدعي مخيلة القارئ مرة تلو الأخرى.

“مائجاً في ترف الهندسة

 وعصمة المجازفة”

الهندسة غالباً ما تشير إلى اقتصاد في المساحات، وهي علم ضد الترف والمجازفة ليست مرشحة للعصمة أبداً، كقانون يقوم على اقتحام الخطر، إلا إذا كانت الشاعرة تهتدي بكلمة النفري الذي قال: (في المغامرة جزء من النجاة).

في الشعر ليس للمنطق سلطة التفسير، وليس للصورة معنى منجز مسبقاً، إن النظام الذي تكتسبه علاقات الكلمات والصور في الجملة هو الذي يمنحنا الصورة الشعرية. فكلمة (النار) في الجملة التالية ستأخذ تاريخها الخاص:

“أيتها النار المطلة في صهوة الأخيلة”

سوف تكتسب مدلولها من سياق الجملة أولاً، ومن ثم شبكة العلاقات المنسوبة في عموم القصيدة.
فليست النار هي التي تنشأ من احتراق مادي، والتي يمكن استخدامها للطبخ والتدفئة، إنها هنا الجذور البعيدة للفعل، للعمل، فمادام الإنسان هو منبع الفعل، فربما جاءت النار من هناك من الفكرة.

هذا هو فعل تداعي المعاني الذي بدأ عند الشاعرة، ولن يتوقف عن القارئ، ولعل هذا الاحتمال لم يصدر عن برهانية عقلانية اعتمدها بناء الصورة، ولكن التجاور العفوي بين الكلمة والأخرى هو الذي ينشئ سيلاً من الصور المنطوية على احتمالات المعنى.
وصدفة التجاور التي تحدث للمفردات ليست ناتجة عن منطق ذهني، ولكنه منطق اللاوعي الشعري، هذا المنطق الغامض، وفي الفن – حسب علم النفس – يشكل اللاوعي المصدر الأكثر صدقاً من العقل. فمن هناك تصدر الحقائق التي سيعمل العقل الواعي دوماً على طمسها وإنكارها، أو التغافل عنها، وسوف يشكل اللاوعي بذلك، مصدراً غنياً وزاخراً بالصورة الصادقة، والمذهلة، وهي تتحول بواسطة اللغة المتدفقة شعراً جميلاً، وعندما نتأمل معطيات هذه العملية الشعرية، ونتلمس الطاقة التعبيرية التي تمنحها لنا كل هذه العلاقات، سنفهم على شكل أفضل تعبير العالم النفسي (لاكان) حين قال : (إن المتكلم ليس الشخص، بل البنيات اللغوية، ونسق اللغة ذاته) وعندما يوضح (ميشيل فوكو) تحليل (لاكان) للاوعي، سيشير إلى (أن المعنى لم يكن على وجه الاحتمال سوى نتيجة سطحية أو لمعان، أو زبد، وأن ما يخترقنا في العمق هو النسق) لكن هذا الاجتهاد، إذا كان من شأنه أن يفسر لنا جانباً من حالات الكتابة، بل ربما حرصنا، بدرجة أكبر من الوعي، على تبادل العبء والمسئولية بين الشاعر والقارئ، لئلا نقف أمام المعنى الجاهز الذي ليس أكثر من لمعان أو يزيد وأن تعمقاً في شبكة العلاقات للصور والكلمات في النص، من شأنه أن يدفع بنا لجمالات الأفق الرحب للنص.
الصورة الشعرية، عند فوزية تنشأ عن التجاور بين المفردة والأخرى، وبين الصورة والأخرى، هذا التجاور القائم على المصادفة، وإذا استخدمنا اصطلاح السرياليين، فإنها (الصدفة الموضوعية). التي تتحقق في لحظة التداعي الشعري، دون الوقوع في آلية الاعتباط التي اعتقد بها أندريه بريتون في تأكيده على فعالية الصورة الشعرية، ولا ينبغي الخلط بين الذاتية وبين الاعتباطية التي يرهنها السورياليون بالكتابة الآلية. وفعالية الصدفة الموضوعية تعتمد على حقيقتين اقترحهما علينا فعل التجريب الحديث، الحقيقة الأولى علمية، والأخرى فنية :
* الحقيقة الأولى : تتصل بمصداقية التداعي الحر الذي يصدر عن تجربة ذاتية، يؤكد علم النفس التحليلي على انسجامها الداخلي مع مكبوتات الإنسان، فكل ما تطلقه الأعماق، بعفوية اللاوعي، هو تدمير لزيف التصنع والافتعال والهروب الذي يمارسه الذهن الواعي وكلما تيسرت للإنسان خبرة وذخيرة غزيرة من التجارب الحياتية والثقافية، كلما أقيمت لفعالية التداعي آفاق أكثر للعمل.
* الحقيقة الثانية، وهي فنية متصلة بطاقة اللغة اللامحدودة واستعدادها لمتطلبات الحالة الشعرية. فإنما هي تتبدى أمام التدفق كطاقة تعبير عذراء، مستعدة دوماً لاستيعاب الحالة الشعرية، والتمثل بصورها الفنية. وتتخذ هذه الكلمات الجديدة دائماً معانيها وإيحاءاتها ومدلولاتها المتعددة، من خلال العلاقات التي ينسجها هذا التداعي. ومن التجاور اللغوي الذي تصل إليه الجملة في النص.
وعندما نقول صدفة موضوعية فإننا نعني، فيما نعني، أن الصدفة اللاواعية التي تعمل على دفق سلسلة من الكلمات للتجاور، وتصوغ نسقاً معيناً، ليست سوى فعالية تستدعيها الضرورة الموضوعية، والموضوعية أخيراً تعود إلى طبيعة العمل الفني الصادر من تجربة إنسانية، تتجاوز ذات الشاعر دون أن تلقيها.

إن آليات اللغة الشعرية سوف تقترح علينا نقضاً عميقاً للعلاقات بين الصورة وبين جذورها، وبينها وبين مدلولاتها ذات المستوى الواحد.

نشاط القارئ يبدأ منذ أن يكتشف هذه الآليات أو مبادئها الأولية، فليس الوصف وصفاً، ولا التشبيه امتثالاً لحدود مسبقة، ولا الاستعارة متصلة بقانونها المألوف.
قديماً قال ابن المبرد : (للتشبيه حدا) .

وقال الآمدي: (إن للاستعارة حدا).

لكن كل هذه الحدود وغيرها كانت هدفاً دائماً للخرق منذ أبي تمام حتى الآن. وأمام القارئ أن يتعرف هو الآخر على لغة شعرية تنطوي على الخبث والتخفي والعنف، في محاولة لمجابهة عنف الواقع، العنف الفني أيضاً هو تفكيك المنظومات الفكرية وقوانين التعبير الثابتة سيتصل أخيراً بمعوقات الواقع، فالبنية في نهاية التحليل متداخلة بصورة لا نقدر فيها أن نجد حدوداً مأمونة بين نظام اللغة، ونظام الحياة.

 

عند فوزية يتجلى نوع من التشظي في اللغة بصورة متكررة، وهو تشظ متصل بوقائع الحياة اليومية إلى أدق تفاصيل لحظات نشوء اللغة الشعرية في النص، وسوف يتمثل التشظي هذا في الاستعداد الدائم لاحتدام الجسد الإنساني، وتوزع أشلائه ببسالة حيناً، وعبثية حيناً، وبمجانية حيناً آخر، فيما هو يجابه الاستلابات المركبة التي تهيؤها أنظمة العسف، معبرة عن لغة عنف لا تقاس. مثلما في قصيدة : (لك أن تعتاد سريعاً) حيث (المنصرعين بحداثة الألوان) و(المواخير الفارهة..) (والشاطئ المقفول) و(الأحلام المحرقة) و(الأصفاد الناتئة).


إن الافتتان باللغة يقود الشاعرة من هذه التجربة، قد هيأ لها مناخاً غنياً بالابتكار، وزاخراً بحركة الصور الشعرية والعلاقات اللغوية. وسوف ترى أيضاً في الكلمات والحروف عنصراً حياً يغري بالكشف عن طاقته، لذلك فإنها ستحاول توظيف هذه الطاقة لتجسيد رؤيتها، فتدفع اللغة أكثر فأكثر لكي تحمل العبء، فالحرف مثلاً ليس إناء يحمل المعنى، أو ليس مجرد نتوء صغير في الكلمة، إنه هنا مرشح لأن يعيد معنى، أو طموح معنى، نكاد نلمسه كجسد يتدفق فيه الدم.

تمثل تجربة فوزية السندي اجتهاداً شعرياً مهماً، على صعيد حركتنا الشعرية، وسوف يمنح مناخنا تنويعاً غنياً، يشكل مع الاجتهادات الأخرى، حواراً نحو ممارسة حريات التعبير الفنية داخل النص الشعري، متميزاً بدرجة جادة من الوعي والقلق الإبداعي.
وبقدر ما يثير هذا الكتاب من ردود مختلفة ومتناقضة فإنه يظل يطرح أمام القارئ والشاعر تلك الأسئلة الجذرية حول مفهوم الشعر، دون أن يزعم انحيازه لإجابة نهائية تتناقض مع طبيعة الفن.
إن في كتاب (هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث) عناصر عديدة تغري بالمحاورة، وهو مثير حقاً وغريب وغرابته تصدر عن اختلافه وجدته في سياق تجربتنا الشعرية، فإذا بدا للبعض أنه كتاب صعب، فذلك لأنه مختلف في جوانب عديدة من آلياته الفنية، ولأنه أيضاً، كتاب يذهب إلى الفتنة من كل الطرق.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شعر يلقن الوحشة درساً في الحياة

 

المحرر الثقافي: ي . أ

مجلة الشروق 8-14 -10-1992

 

للبحرين حال شعرية متفردة بين الساحات الثقافية العربية والخليجية، لغة، ورؤى، وأساليب، وجملاً شعرية.. ومن حق الساحة البحرينية أن تتفرد على هذا النحو، ومن حقها أن تطرح نصها الابداعي بالسبل المختلفة عما هو سائد أو معمم، ذلك أن البحرين هي الأسبق في التأسيس التعليمي والثقافي من بين دول الخليج بخاصة، ان لم تكن تلك الاسبقية مدونة تأريخاً وتوثيقاً حتى بين بعض الدول العربية الأخرى.

أسوق ذلك لأشير الى هناك قاعدة واثقة مفترضة لكل نتاج ابداعي يصدر من البحرين.

هناك تقاليد وقيم ابداعية راسخة أدت بالتجربة والتجريب والتوق الدائم الى الابداع الى ما يشبه التيار الابداعي البحريني بكل ما يحيط بهذا التيار من شروط الخصوصية والتفرد، وذلك لا يعني ان النتاج الادبي البحريني منغلق على نفسه أو انه نتاج يدور في محدودية جغرافية. بالعكس، فقد اتصلت الرموز البحرينية المبدعة في البحرين بمختلف الرموز والساحات العربية واثرت فيها كما تأثرت بها.

في ظلال هذه المقدمات نستقبل الشاعرة فوزية السندي في مجموعتها الشعرية الجديدة الثالثة”حنجرة الغائب”. نستقبل الشعر وهو يمجد الغياب، ويحكي سيرة الروح. الشعر وهو يروي كل أشواك العزلة، يحكي تعميد قلب الأنسان بماء العين. شيء قريب من الابتهال أو الصلوات في صوت فوزية السندي، ربما كانت طهارة الكلمات التي يشيع نورها هنا وهناك. ومن اللغة حياة.

في”حنجرة الغائب” شعر يلقن الوحشة درساً في ضرورة الاقتراب من الحياة، وفهم مكونها المحير الغامض. كل ما هو غائب يحضر، ولكن ذلك الحضور المستدعي من بعيد. كأن الشعر في هذه الحال هو استرجاع ابتهالي لعالم طاهر، ومعتق، ومفقود، لهذا السبب يمكننا الاصغاء الى أصوات، وجلية وضجيج كذلك آت من بعيد، تسبقه الكتابة وتتوسل اليه كي لا يجرف كل شيء، كي يبقى ولو على قشة واحدة في المرعى.. لو على جدار واحد لا يثقبه الدمع، ولا يتلطخ بالتعب والدم:

” تخترق الهواء الواقف وحدك

تتسكع خلفك قبائل لا تغادر رماد أسلافها البارد

تقايض الغزاة بخلاخيل تاريخها

وأقنعة راعياها

وعذراواتها المسرجات في هودج جامح

تقايض القوافل بحرية دمك

وفحم أحفادها الغائبين”

 

فوزية السندي تلوذ بالقصيدة كلها. بالمشهد كله. وسقف العالم واسع أبداً، كل شيء أمامها متسع، ومفتوح الذراعين، وشاسع، لا صورة مقربة في”حنجرة الغائب”. ولا تفاصيل، ولا ماهو يومي أو عابر، وربما يؤكد لنا ذلك خلو المجموعة من النصوص القصيرة على سبيل المثال، تلك النصوص التي تهتم بالتفاصيل الصغيرة، وتجعل من القصيدة لقطة يومية قوامها العابر اليومي.

لا يوميات في شعر فوزية السندي، وانما، هناك شرح لهذه الحال، وهكذا قد يكون في وسعنا ان نضع وشماً على “حنجرة الغائب: وهوالشرح.

شعر يشرح، ويتداعى، ويتكاثر، شعر له اشتقاقاته، وتفرعاته، وانثياله، وهذا كله، لا يصدر ، بالطبع، الا عن حنجرة غائب، جعلت منه الشاعرة حاضراً، ومتكلماً، وراوياً كان قد رأى العالم لكنه لم ير الغرفة في العالم.. كان قد رأى الحمى، ولكنه لم ير مريض الحمى.

بهذا تحاول فوزية السندي أن تدخل الحياة، أو المشهد الى القصيدة أو الى عنق القصيدة، وهنا نصل الى “عثرة” ” حنجرة الغائب” نصل الى المأخذ.. وكل شعر لا يخلو من مأخذ.

في اختصار، فان الشرح في كل شعر يؤدي بالضرورة الى خلق جملة شعرية تبدو كأنها” مقيدة”.

كيف؟

بالعودة الى قصائد “حنجرة الغائب” نجد أن قيدها هو في التكرار الظاهر لتركيب المضاف والمضاف اليه، فان المجموعة حاشدة بمثل هذه التراكسب التى تعيق”سلالة” اى شعر ان لم ترهقه اوتتعبه، لكثرة ما يتكررتركيب الاضافة لدى فوزية السندي يشك القارىء في ان الامر مقصود لبعد فني يقوم عليه النص الشعري، ولكنه عند تقليب النص على اكثر من جانب نجد ان لا قصدية من وراء استخدامات الاضافة الكثيرة في ” حنجرة الغائب” وانما يتعلق كل هذا بأمر آخر هو الايقاع.

لقد بدأت قصيدة النثر بترسيخ ايقاعها، والذي سيكون “تقليدياً” في مرحلة ما.. بل، سيكون” نمطياً”

و بوسع القارىء المدرك ان يستدل اليه بسرعة لافتة.

امر آخر نود الأشارة اليه، وهو أن تركيب المضاف والمضاف اليه يبني صورة شعرية ناجزة وسريعة، بمعنى ان هذا التركيب يخدع الشاعر، ويتسلل بكثرة الى قصيدته من دون ان يعلم، غير ان اذن القرىء تستطيع الاستدلال اله بكل بساطة لانه شديد القرب من ايقاع التفعيلة التقليدية في شعرنا العربي، ربمل كان في هذه الملاحظة بعض التنبيه الى شاعر”قصيدة النثر” بأن يكون حذراً، أولاً، وان يجعل من الكتابة شقاءه الابدي، اخيراً.

كمثال على ذلك تكرر فوزية السندي المضاف والمضاف اليه.. عشر مرات في الصفحة 26 من مجموعتها بل في معظم صفحات ” حنجرة الغائب”: صهيل السطوة، حرية الكائنات، قوارب العبيد، راحة الفجيعة، خلاخيل الجواري، مقصورة للسبي، صندل العرس، شهوة الهوادج، فيض المواكب، غبار عطاياك.

 

 

رهينة الألم،حالات سردية تستسلم لأمر الفجيعة

 

جريدة الأيام

29-8-1999

 

في قصيدتها “رهينة الألم” تقترح علينا “فوزية السندي” كتابة مغايرة ذات شفافية وعمق كبيرين وحزن جاثم  يسربل الكتابة لدرجة يستقيم معها رؤية الذات كما هي في علاقتها وبوحها لأقرب مخلوق و أعز كائن.

 

والنص المنشور مؤخراً في ملحق”رؤى” يذكرنا بقصيدة “محمود درويش” الشهيرة والتي نالت استحسانا كبيراً لدى الجماهير، والتذكير المقصود هنا لا يتعلق الا بالموضوع نفسه في خطوطه العامة، رغم الفاجعه الأقوى حدة في نص “السندي” وقد سبقها إلى ذلك ابنها “وليد” في روايته.

ان رهينة الألم- الأم- يتشكل حضورها على نحو وصفي متتابع، لا نلمح فيه أي افتعال، تدفق، سيل من الأوصاف التي تسبغ على الأم، كم هائل متشظ لا يمعن الا تلمس اللحظات الشاردة، اللحظات الحرجة التي لا تغيب عن الأنظار، لكن الفؤاد لا يغفلها والقلب يحاصرها، والشعر يزيدها قوة ويقلب العملية ليحفظ نضارتها.

ففي هذه القصيدة السردية تظهر الأم الغائبة كالوردة، كثمرة، كالياسمين، كملاك، يانعه، سيدة الحكمة،رهينة الألم، واهية القلب، مليكة العطايا، وغير ذلك.

ان رواية “موزه” التي تسأل أين الجنة؟ تغدو باعثة للتأمل منذ خصال علقت بها، ومنذ مطر غدا رفيقاً إلى مشهد القطاف، إلى الروح وهي تنتزع وصولاً للسؤال السرمدي، هذه الحركات متتابعه تظهر لنا “موزه” بروحها التي تجمع الأفق بين حدقتيها وبين “موزه” التي تفقد كل شيء لتخلف ورائها ما يسد الأفق ويزيد من حنان. ف”موزه” قانعه تاركة ما يشبه الدمع ويملء الكون حناناً.

صور “موزه”-رهينة الألم- المتتابعة والمتسارعة تنقض علينا بوابل يدق شغاف القلب، فهي قد عاشت ببسالة من ينتظر الغيث الذي لم يسقط، ورحلت بصفاء من لا يملك ناصية البقاء. والنحيب الذي يشكل الحركة الأخيرة من النص له وقع الكارثة وهول الوصف في تدقيقه للحظات قلبية ماورائية.

لقد استنطقت الذات الشاعره ووظفت قبل ذلك كل ما يمكن أن يؤسس لرحله سفر زادها فيه العذاب، وأدواتها حفنة عذابات مجسدة في كلمات، وحالات ترنو الألم و تتهيأ ازاحة الفجيعة التي تحاصر الفؤاد وتمنع القلب من الاسترسال في مقاربة الأشياء وملامسة العناصر المحيطة.

فكل الكلمات والجوارح تتوجه صوب استقصاء واستدعاء كل مابقى و سيبقى لنجدة “موزه” في نهاية المطاف:

” وردة عصية على الفقد تضمد راحة الغصون

مغمورة ببسمة غياب يرث العمر

نحو سرير من تراب ؤحيم بما يكفي

ليضم جسداً بمنتهى الورد

حتى آخر الذهاب..”

 

ومن جهة أخرى وفر الإختزال السردي مفصليات سيرية لامرأة احترفت البساطة، ولازمت الحزن سنداً، واحتوت العالم حباً، عالمها الصغير بعناصره التسعه،وبفروعه الكثيره، وللفراق بدوره كانت رهينة، وفي الذاكرة بقت حبيبه، وللذاكرة أمست باعثة ملهمة محركة:

” يانعة كصبية ذات دلال لا ينتهي

مزدهاة  بعينين في سعة الأفق

محفوفة بشعر للفحم غزيراً .. كفيلاً بكسر الكتف

لها بسمةٌ لا تضاهى .. أقلها ضحكة البحر

بياض يلغي غرور الثلج

جبهة تتعالى كقمة لا تدرك كيف يراها السفح

امرأة للورد لا بفداحة العطر

بل بنداوة تلهب الأرض بصراحة المطر.”

هذه هي “موزه” إذا،ً واهبة حب، مقدمة حياة، سالبة لهما، تاركة خلفها نشيداً هائلاً من النشيج، مقطوعات ألم، عاشتها جيداً، تعرفها كثيراً، تصغي لها بينما تفضل التحديق في الفروع الكثيرة التي احتضنتهم متناسية جراحات وعذابات تقصم الظهر، لكن الظهر أبى الا أن يستقيم لكن هيهات بعد أن عانى معاناة ملازمة بين:

” رحم واحد يستبسل

وسيد واحد يستبد.”

لقد أرادت “السندي” في وصفيتها هذه أن تنصف ما غاب، وأن تقيم أنشودة توثق فيها انهيارات وانثيالات للحالة والجسد واللغة كذلك، معالجة ما ظل مكبوتاً وبقى مكتنزاً في حرقة من وجد نفسه في بقعة جرداء، لم يعد يتساقط ذلك الغيث المقوي للجذور، والجذور التي تساند الذات لتملك الأرض، لكن الأرض هرمت فضاعت فكان التعلق على غير نبراس يشع حياة فيملك.

وللقارىء العودة إلى المشاهد السابقه لواقعة الرحيل، ليقرأ حالة الاستنزاف التي حمل أعباءها الجسد اللين، وكيف تهاوت أدوات الحياة الواحد تلو أخيه، من امتطاء السرير إلى انمحاء الذاكرة، ليقرأ الألم ناصعاً واضحاً لا يأتيه الا القلق من أمامه وخلفه فلم يكن المرض بها رحيماً لكن جمال الروح كانت أقوى من كل مرض ومن كل غياب، من كل عذاب و من كل فقد.

الروح الطافحة التي عقلت الدنيا وعقلتها في صورة كيس يتقلص ويتعذب ليجود بحب غامر يكسو الجسد بريش الأمومة، وبلبوس العطف تقوض ليتلاشى شيئاً فشيئاً.

لقد وصلت “السندي” بنا في نصها الى منعطف زاخر بالصورة البسيطة التي توظف  لتصف حالات تنضم في مجملها لتفعيل الذاكرة، وللأفصاح عن حالات “موزه” في منعرجاتها الأخيرة وهي تتلون بالعذاب، وتستجدي الهدوء للتخلص من ارتال الالم وقسوة حصار المرض.

والشاعرة نجحت لحد بعيد في اسباغ هالات الحب، وفي استثمار ممكنات- بعض الممكنات السردية- لمعاينة ما يقع على فوهة القلب، لينفجر سيلاً من الحب، وأمواجاً من العذاب المؤجل والنص خير دليل على امكانات سردية و لغوية في تناسل صوري لا يعرف الا التصوير المقتصد على دفعات ومراحل.

“رهينة الألم” إذاً نص به شحذ للأدوات اللغوية، اسهمت بشكل كبير في ايصال رسالة الحزن ببلاغة لا يعوزها امعان في المداورة والتدوير لحالات الحزن، لها متطلباتها الخاصة، وكلما كان الحزن عميقاً، كلما دنى القلم ورضخ له مصغياً لما يريده، لمتطلباته، ولأمره الذي لا يرفض والذي لا يقبل مساواة، ولا يحتكم لوعي مراوغ.

ولعل هذا لنص دليل يحمل بلاغته باستناده لروح لا تشطح بقدر ما تكبلها الحالة كما اسلفت- وهذا لا يلغي تميزاً ولا يقلل من عميق تقدير.

 

 

تركيب اللغة والايقاع في قصيدة “أبدو والقيد لا يحتمل”

 

الكاتب: جعفر حسن

فوزية السندي من الأصوات الأدبية المعروفة على خارطة الشعر العربي في البحرين، بدأت في نشر قصائدها منذ العام 1979 في الصحف المحلية والخليجية، وبعض الصحف العربية كما أشار اليها الدكتور علوي الهاشمي في كتابه “شعراء البحرين المعاصرون “، وهي منذ اصدارها لمجموعتها الأولى “استفاقات” في عام 84 ، تابعت اصدار مجموعاتها بعد ذلك لتشمل مجموعة من الدواوين كانت على التوالي “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث” عام 86 ثم “حنجرة الغائب” عام 90 ثم “آخر المهب” 89  “ملاذ الروح” 99 ، وبإصدارها لهذين الديوانين تمت مجموعتها الخامسة، ومن المثير للإنتباه ان الديوانين الأخيرين قد تم طبعهما في ذات السنة الا انهما قد ظهرا في نفس التسلسل المذكور سابقاً و بما ان القصائد ليست مؤرخة في الديوانين فلا نستطيع أن نتتبع التسلسل الزمني في تجربة الشاعرة، على ان هناك سيطرة تامة لأسلوب لغوي محدد الملامح يستطيل مع دواوينها المختلفة، مما يعبر عن نضج التجربة الفنية في الكتابة الشعرية، على انه يشير أيضا إلى ان الشاعرة قد تم لها الاطمئنان إلى تشكيل اسلوبها الشعري فلم تحاول تجديد بنيتها الا فيما ندر، وذلك عبر تكثيف الصورة الشعرية في القصيدة و تنويع فضائها البصري، كما يظهر لنا في قصيدتها “الهواء الضيق” من ديوانها “آخر المهب” حين نقرأ في القصيدة:

“أصعب من الطريق

خطوي الكفيف.”

“حراب تكشط الحديد عن الصدأ

ترتد .. فأرتاد”

“منزهة عن النهار

أتمرمر بموهبة الليل.”

 

 

على ان القصيدة تتجلى فيها ذات الفنية والتقنية الشعرية كما في باقي القصائد على مساحة التجربة، التي نرى انها تسير في مستوى افقي واحد عبر التجارب المختلفة إلا فيما ندر، مرتكزة على مجموعة من التقنيات الشعرية التي تتيحها لغة الحداثة وتتقنها الشاعرة، وهو ما سنحاول ان نسبر بعض مظاهرها من خلال قصيدة ” ابدو و القيد لا يحتمل” من ديوانها “آخر المهب”.

 

ان أول ما يواجهنا في الاسلوب الشعري الذي تستخدمه الشاعرة “فوزية السندي” هو انحيازها الواضح لقصيدة النثر في مقابل هجر يكاد يكون تاما لقصيدة التفعيلة، والشاعرة إذ تتحول إلى قصيدة النثر انما تعتمد على الجرس الصوتي لحروف اللغة التي تتمظهر في تكرار المقاطع المختلفة والتي تعطي للقصيدة جرسها الداخلي

وايقاعها المتوزع بين المطالع كما تشكلها الكلمات وبين النهايات أو ما بينهما، فمثلا نلاحظ في مطلع القصيدة:

“لأني كذلك

أعني امرأة”

نلاحظ تكرار المقطع الصوتي “ني” في كل من الكلمتين لأني

وأعني، أو كما تكرر المقطع الصوتي “لا” في “لا/ لأحيا” “لا لأكبو” “لأتهاوى” والارتكاز على حرف الشدة وهو الهمزة،

واجتزاء حرف النفي لا في المقطع الأخير، أو الاعتماد على تكرار ذات الكلمات لإحداث توازن في الجرس الموسيقي للكلمات، كما تكررت في القصيدة كلمة “صعب” مبهمة ومعرفة كما في “صعب/ قلت: صعب/ ولما كتبت الصعب” أو بقلب المقطع الصوتي في الكلمات المتوالية مثل “أنجز جنون/ فراشة شاءت” نلاحظ في الكلمتين الأوليتين تتابع النون والجيم في “أنجز” ثم انعكاسها في كلمة “جنون”، كما تتابع ألف المد مع الشين في “فراشة” و انعكاسها في “شاءت” ومن هنا نلاحظ تقارب الكلمات التي تحتوى على نفس الحرف وتتابعها حسب الايقاع الداخلي للقصيدة، على الرغم من وقوع الحرف المكرر في مواقع مختلفة من الكلمة، أو بالاعتماد على الجرس الصوتي لحرف الميم أو الكاف في “فحم الخيام” “لأنك/لا أراك”، أو في نهايات المقاطع بتكرار حرف الياء “دمي/ لسواي/ اياي / عني / تشبهني / جسدي / دمي / ادمني”،

وهي مجموعة من الظواهر التي تشكل عند الشاعرة ايقاعها اللغوي وهو ما يتضح لنا على مستوى البنية الاقاعية .

على ان هناك مظهراً حداثياً آخر يشغل فضاء اللغة التي تمتشقها الشاعرة وهي تلك العلاقة التي ترصفها بين الأشياء وهي تستقرئ احتمالية اللغة وامكانات فضاآتها الداخلية وتشكيلاتها الجمالية في التراكيب الممكنة والتي تحاول من خلالها أن تفارق النسيج المألوف للغة اليومية المستخدمة وتنسف من خلالها العلاقات القارة في بنية اللغة على المستويين الاصطلاحي والتداولي العام، فمن حيث التراكيب تلاحظ منذ البداية ان هناك مفارقة كبيرة وبعيدة في العلاقات المطروقة بين الأشياء، كما تنعكس في تلك العلاقات البعيدة التي تكاد تكون خارج الحقول الدلالية للكلمات التي تشير اليها والتي قرت في العرف العام للغة العربية وقاموسها كما تتبدى في “فراشة شاءت هسيس الجمرات”، فمن المعروف ان هناك علاقة موجودة بين الفراشة والشمعة القاتلة وهي معرفة متشكلة على المستوى الايدلوجي والمعرفي في بنية اللغة العربية، ولكن  الفراشة هنا لم تشأ الضوء أو نور النار أو ما يتقد في الجمرات

وهو عادة ما يجذبها، انما أرادت الفراشة ذلك الحديث الخفي النابع من جوف الجمرات وهو ما تحيلنا عليه كلمة “الهسيس” الواردة في المقطع الشعري السابق، وهو الهمس الخفي الذي يدخلنا في الحقل الدلالي للحديث الذي يستحضر اثنان يتهامسان من البشر، ولكن الحديث هنا نابع من الجمرات وهي تعاني انكساراتها المرة، وهي تتهاوى إلى رماد، انه ذات الرماد الذي تصير إليه الفراشة بعد استماعها لذات الحديث وهي صورة غريبة تقترحها علينا الصورة الشعرية، كما يعرف الجميع أن الهسيس هو صوت النار وليس الهسيس على الرغم من تقارب اللفظتين وتساويهما في عدد الحروف إلا انهما مختلفتين في الدلالة، فنتيجة للتركيب تنفتح لنا الدلالة اللغوية ونحتاج إلى إعادة التكوين والتأويل حتى تتم المشاركة بين المبدع الكاتب والمبدع المتلقي في الدخول لأجواء القصيدة، وهي عملية لا تتسم بالسهولة المحببة للمستهلك المتعود على الجاهزية اللفظية، كما ان الحضن مثلاً لا يكون رهيفاً، لأن الرهافة صفة لحد النصل المتواجد في السلاح الابيض، كما انه لا يوجد إرث للحوافر وهي لا تعتاد إلا ترك الاثر، ولكن الشاعرة لا تزال ترتد الى المرجعيات ذات الدلالة في اللغة المحكية التي تحيل الى “لكل حصان كبوة ولكل سيف نبوة”، كما ان التوابيت لا تسترسل والزنازين لا تستطيع إلغاء الهواء لان الهواء ليس مما يلغى لانه ليس أمراً والصلافة ليست من صفات الحديد انما هي من صفات الانسان “تدافع ازيز الدخان”، كما ان الأزيز ليس صوتاً للدخان وانما هو صوت الرصاص، كما ان الصوت ليس مما يتدافع لانه يحس ولا يرى والتدافع يتطلب حاسة النظر، فنجد ان الشاعرة تقوم بالربط بين حقول دلالية مختلفة تعاود فيها تشكيل اللغة

وتزحزح اطرها فتخلق إرباكا للقاموس اليومي المألوف للقارئ العادي وهكذا فإن القامة علاقات لغوية بين ما هو مألوف وصفة غريبة عنه تماماً وتمت إلى مجال دلالي مختلف تفتح الصورة الشعرية عند “فوزية السندي” على فضاء أرحب وتنطلق من بنية اللغة إلى بنية المعنى بصفتها الحداثية هذه .

“رهينة الألم” لفوزيّة السندي أمـهــلــونــي يــا ســــادة العــشــيــرة

 

 

الكاتبة/ مي منسي

” جريدة النهار”

29 تشرين الأول 2005

 

“رهينة الألم” هو أكثر من عنوان لديوان شعري، انه الوجه الأوحد للمرأة العربية تبرزه البحرينية فوزية السندي راية منكّسة في انتظار ريح تنهض بها عالياً:

“ارتعدوا

ثمة كلام لا اقوى عليه

بدا ينسرح…

كيتيم مبهوت من شفرة الذبح”.

 

شعرها ليس تأملات في الطبيعة، وليس حواراً مع الاشجار. انه الهواء يحرك كلماتها، يهيّج ما في داخلها من وجع وتساؤلات. عجيبةٌ هي المرأة حين تكتب شعراً. لكأنها في مخاض الألم، حبلى بالحياة، تطلقها بصراخ مستتر، فيه لبس، وكتمان وتردد.

هي تروي بالشعر حياة، ، ومأساة. بالشعر تروي. والشعر هو هذه المادة الصعبة التي ترفض الاسترسال والاطالة. الشعر المكسور على شفة كاتبته، المشقق كتربة جافة، المختصر في صور تلوّنها عمداً بألوان مغبشة حتى تتماهى المعاني الحالكة وترتد المشاعر الشائكة الى داخل الذات.

جريئة لغة هذه المرأة الصلبة كشجرة هرمة، شفافة كزجاج هش، تستفز الوجود لكنها مستسلمة لسفنه. وتبقى الكلمة ممتلئة بالاعتزاز، بالحزن الذي لا يلوي حتى في اختراقه لهب النار، بالرؤية الواعية نهر الحياة الدافق من نبعه حتى مصبه وكل قشة او جذوة تعترض دربه.

جريئة هذه الكلمات المصنفة، المختارة. فكمن ينقّي الزؤان من القمح، تفكك فوزية السندي حروفها وتحوك منها نبرات صوتية خفيضة كألحان المأتم، كئيبة كدعاء الطيور في اقفاصها، كالغضب الجوّاني الذي يرشح خارج الذات مراسيل إن اتقنّا قراءتها دلّتنا الى سيرة، الى ولع ممزق، الى قدر مفكك. اسمع داخلها يغني رثائية حب:

“كيف لي

أن انازع دماً عصيا اهتلك جنازة روحي

أجابه ذخيرة حياة تستولم بي

وهي تنضج وقيد الفحم

حتى أخر جثة ادلهمت بي” (ص89).

 

الورقة التي تكتب عليها حروفها، كلماتها، هي وطن يحتويها، وعزلة تتوق اليها. هنا على هذا البياض تدعو روحها للبوح، بدون خفر، بالاسلوب الذي نستشف منه ملامحها، بريق عينيها، كآبة شفتيها، ثوبها. اسلوب صحراوي يخبىء تحت كثبانه كنوزا لا تمس، الى ان يتخم البطن الحار ويتفجر انتفاضة وتبقى ساحة معركتها الورقة الاليفة:

“هكذا كل ليل ما ان اشرع في تلقين الورق غمرات هلعي،

حتى تتأسس لي شراهة آهات ساهرة تكتويني كما الكنز”. (ص108).

والمتلقي اذن صاغية الى تلك التي عندها الكثير من امتحانات الحياة لتقوله، وفي كل كلمة سهم تصيب به ذاك المنصت باهتمام اليها. وحين تتعب الشاعرة من ترصيع ورقتها بالارتواء والجفاف، بالصحو والموت، بالليل وما بعد الليل، تترك على طاولتها وديعتها وتأوي الى سرير تظنه الراحة، وتنادي الليل:

“لا تتأخر ايها الليل أكثر

لئلا اخسر النهار ايضا”.

الألم القاسي قلمها، متين لا ينكسر. صورها ترسم بالفحم واقع حياتها، بالدم النازف من شقوق ذاكرتها، ولا تسعى اندمالاً. فمن تلك الشقوق النازفة نسغ للكتابة. ولا تخشى هذه المرأة أن تنقلب عليها الكلمات وتعاديها:

“نلني

لأعوي كذئبة تنحت البدر.”

“ندهت قتلي

قبل أن أترنح من صعق ساعديك”.

يا لها عبارات مدوية، هذه التي تتفجر في احشاء الشاعرة المولودة من الياف الميثولوجيات، المرأة المناضلة، القاتلة والمقتولة، الحبيبة والمغدورة، الثائرة والمقيّدة.

نساء ونساء في امرأة واحدة. من كثبان الصحارى هي، من صخور المرجان غلاتها، عبرتُ مساحاتها قبل ان اتهجى كلماتها. غريبة هي عن المرأة التي فيّ، تناولت بأصابعي من مذاقاتها المرة، الشائكة، اللاسعة، لأدجن طعمها، كنواة التمر، السكري كلحمه، حتى تمكنت من ازاحة الغشاء الكامن، بينها كشاعرة وبيني كقارئة. وترددت مرات في الكتابة عن الكتاب، وشعوري انه كالسراب الذي نظنه من البعيد ماء حتى يدرك القارىء ما في روح شاعرة “رهينة الألم” من مغامرات في صحار ظننتها ماء، الى ان ثارت على المرأة التي فيه، على الرجل الذي اكتملت به، على الاسف والندم والرجاء.

صوتها جارح، يمزق الورق ليعلو في المدى لا مرتعشاً، لا مرتبكاً، بل حادا كالسيف.

“امهلوني يا سادة العشيرة

لأكسو الخيمة جسدي

وأجلل صبر الوتد بعبء روحي” (ص33).

 

هذه النمرة التي تقف في وجه القدر، تبارزه، ترتد الى حال من العطف في هذا التناقض العجيب الذي يجعل منها فعلاً امرأة في نساء:

“امهلوني… قليلاً

لأتوارى بخجل حرف

يحيا حرية الهواء اكثر مني”.

 

 

هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث المعنى هو النهر الذي لا تعبره مرتين

 

الكاتب/ محمود  محمد مدني

مجلة أوراق- العدد 89

9 ديسمبر 1986

 

هذه هي المرة الثانية التي أتناول فيها عملاً للشاعرة البحرينية فوزية السندي.كانت المرة الأولى عندما توقفت عند مجموعتها الشعرية الأولى (استفاقات) وفي هذه المرة أقف بتحديق أعمق عند اصدارها الجديد المعنون (هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث) الصادر في طبعته الثانية عن المطبعة الشرقية في البحرين والواقع في 111 صفحة من القطع الوسط، وخلال الحديث عن المجموعة الشعرية لفوزية السندي يدور حديث عن(فضاء الشعر) والجاهزية الموسيقية وشحنتها الخلفية – الوجدانية- التراثية وكيف تتدخل في معمار قصيدة النثر، وتضم المجموعة الشعرية ( هل أرى ما حولي؟ هل أصف ما حدث) أربعين نصاً شعرياً تبدأ ب(نصوص مصقولة) وتنتهي ب(هل أرى ما حولي؟ هل أصف ما حدث) وكنت عند تناولي لمجموعة فوزية السندي(استفاقات) قد توقفت عند محاولتها التعامل مع المفردة بشكل يخرج هذه المفردة من عتمتها القديمة ويغير علاقاتها في أطار ما يسمح به التركيب الفني المتاح لها مع المفردات الأخرى والجو الشعري العام. كما لاحظت ان تلك المحاولة في (استفاقات) تتأرجح بين النضج في بعض النصوص والتسرع في الوصول إلى نتيجة، التي هي نوعية وليست تراكمية كمية.

 

تأسيس الشعر المعادي للعادية:

في( نصوص مصقولة) ونصوص أخرى في مجموعة فوزية السندي محاولة للإستمرار في تأسيس الشعر المعادي للعادية، وهو استمرار أيضاً للتعامل مع المفردة في إطار فضاء الشعر، والشاعر بشكل جديد يبقي الذاكرة الممتدة من (ديوان العرب) كمجموع ولا يحرص على بقاء الذاكرة المفرداتية الأستعمالية كما هي ملزمة للشاعر، الذي لكي يخلق ويبدع لابد ان يكون حراً- بوعي-إلى ابعد الحدود في المجال التركيبي للشعر نفسه.

وفي النص الأخير من (نصوص مصقولة)  تمضي الشاعرة في اتجاهها الذي يحتاج إلى مزيد من الوقت والتجريب والمغامرة ليستكمل دورته الدموية وينتصر على الأصوات الخلفية التي تشوش اتساقه.

” كل هذا الجور لي

لي براثن الشكوك وانهمار القساوة ومرارة الأثم

لم تحققت ايتها الحبيبة في لوعة الجداول ومنتهى الهياكل

واتاك كل هذا البطش والندف لأجراس تنكأ الجسد وتهلل الاضلاع

بارقة بعناوين المهانة

شاق علي،

أسوي كل بحورك و القيها في حمحمة ضارية

و من لي،

غير طيف يدق نوافذ الرعشة في ليل البرد

جمرة أسرجها بين معاطف الوقت

لوزة تمايل ولهي اللاهب في صمت

ايتها المرأة.. يا مرآتي

أشفيك.”

 

وكأن الشاعرة في هذا المقطع تحاول أن تثبت أن الحلم يبدأ من اللامتناهي وإلى اللامتناهي يعود.

والمحاولة الصعبة هي تفجير الحلم لغة، أوكتابة اللغة-الحلم. ففي اللغة-الحلم تصير(المرأة) (مرآة) وتنثر(عناوين المهانة) على رؤوس الداخلين إلى حلبة الكابوس. وكأن الشعر في هذه الحالة يتمرد على التكوين الكتابي ليعود إلى التكوين الحلمي الذي كان أصلاً قبل تدخل قناة اللغة. وتتمثل صعوبة هذه السباحة في ان طفولة الحلم ليست هي سيمترياً طفولة اللغة، وهذا يضيق مجال الحركة ويوسع في نفس الوقت مجال اللامتناهي أو حركة الحلم.

فالذاكرة الشعرية والاطار الشعري- على مستوى اللغة من حيث البنية والمتفق عليه، وكله نثري وممعن في النثرية- لا يتحكمان في الانفعال ولكنهما يتدخلان بأشكال كثيرة متشابكة ومعقدة في التوصيل، في الجسر بين القصيدة- الشاعر- و(الآخر). وهذه العلاقة واحدة من أهم الإشكاليات في الشعر العربي القديم والحديث، رغم اختلاف الهموم وفضاءات الشعر والشعراء.

واذا كان الشعر-الآن- هو جزء من حركة العالم فان اللغة-الحلم لا توجد الا في انتصارها النهائي على فساد النثري( المرتب سلفاً والمتفق عليه مما شكل كل حالات القسر والهيمنة غير المبررة الا في أطار تاريخي) المعطل لتقدم الحلم اللغوي نفسه حتى لا يفاجئه الصحو المرتب فيطير نعاسه الجميل ويحول أنهاره إلى مستنقعات ومجاري متعفنة. ان استمرار اللامتناهي -حلماً- يستطرد بضرورة جمالية في اللامتناهي-لغة-.

هذا هو الشعر المفاجىء أو هذه هي ( السماء المضادة) التي يظل الشعر في حاجة دائمة لها كما يقول لوتريامون، أو(ان الشعر هو تعويض عن اللغة) على حد تعبير مالارميه، وفي (نوافذ للفتح) تعلن الشاعرة:

“أجدني في تلاؤم دائم

بلا مبرر

واثقة ومحلقة

بلاضفاف.. منبعثة هكذا

عبر النوافذ ومزاليجها

لا يحدني أحد

أصافح ضراوة الريح ودعة النسيم

هكذا دون تردد

اطلق رغوة الأفق

أمرغ قوس قزح بحرية ألواني

أضج بالفضاء

وكعادتي أفيق”

هذا الذي يتحقق عبر(العادة) ونسميه (الصحو) وتشير اليه الشاعرة

(أضج بالفضاء، وكعادتي أفيق) في حالة تصادمية مع الحلم على مستويين: المستوى الأول مع الحلم- المشهد(من خلال الاستجابة والأداء) والحلم اللغة، لايوقظ -هذا الذي يتحقق عبر العادة- الا المتنافر والمشتت ولا يتيح الفرصة مطلقاً لوحدة-المشهد-اللغة-الحلم.

كما ان الشاعرة في محاولتها التي تتكرر وتستطرد في هذه المجموعة لاحداث اضاءة جديدة في جسم وحركة المفردة في اطار التركيب الشعري، لا تلجأ-الا في بعض الاحيان- إلى الاهتمام بتغيير العلاقة الشكلية بين المفردة، والمفردات الأخرى الا بالقدر الذي يخدم العلاقة الداخلية العميقة للمفردة والمفردات الأخرى في أطار التركيب الشعري، لكي لا تنتحر عند أبواب النثر العادي والمرتب – الذي لا يحتمل فوضى الصورة الشعرية الكاشفة والمفاجئة- والمشوش بفعل الخوف من الحلم في ذات الوقت.

وهذا الاهتمام بإحداث الاضاءة للعلاقة الداخلية للمفردة ليس ترفاً عند الشاعرة فوزية السندي، ولكنه هم حقيقي مزعج. انه اهتمام يؤكده ان الشاعرة تتعامل مع مجموعة من القيم الجمالية، فلا ترتبط بفسيفساء ما هو موجود وكائن وواقع، أي انها لا تتعامل مع قيمة سكونية (الترتيب المسبق) بل مع قيم لا تنبع الا من خلال العملية الابداعية نفسها. فاللغة-الحلم في حالة المشهد والفضاء الشعري لا تكون ( ترتيباً مسبقاً بأي حال من الأحوال.)

 

مادة الشعر، اللغة أم الحلم

يقول أدونيس في الحوار المثبت في الباب السادس من كتاب( أسئلة الشعر) لمنير عكش:

( كل شيء ينصهر في الشعر، لأن الشعر ليس طريقة للتعبير فقط، أنه وجود وطريقة وجود، لذلك تجد كل القيم تنصهر فيه. أنا أذهب الى أبعد من التوازن بين الأنا والآخر. الشعر عندي نوع من الوحدة. وحين أبحث عن حل لتناقضات الخارج، فكأني أبحث عن حل لتناقضات الداخل، كأنني أحول العالم إلى شعر) صفحة 125.

و حين سئل أدونيس عن( مامعنى المعنى) قال: هو شيء اذا فقدته، تشعر انك تنزلق في هاوية من الرمل لا قرار لها. هو نوع من الأساس، نوع من الصخر، وان كان يحلو لي أحيانا أن أسمي الصخرة موجة. المعنى حركة. بعد غير محدود. هو الماء. النهرلا تعبه مرتين، كما يقول هراقليسطس. ومن هنا أهمية الصورة، العالم الخارجي)” صفحة131″

في نص “شعائر” تعمق الشاعرة محاولتها لرسم حدود الحلم للنهر الذي لا يمكن عبوره مرتين:

” لا ريب من تحلق المكائد حولنا

مثل غبار يرصد الحدائق الباهية

بسمادها المبلل وغضاضة جوارها

لكننا

نهفو لأجراس المراعي وغنج غيومها

ثلوج الغابات وضواريها المتدفقة

لألأة الأنهار بأوراق النعناع

وأعشابها الطافية وتماسيحها المنذهلة

نحلم

بصناديق الموانيء الصدئة

ومخازنها المكتظة بالسواعد الموحلة كالشرر

والخمارات المتاحة ببطش البحارة

ومجونهم الآفك

وشعورهم المتهدلة كسلاسل وصوار تعبة

لكن

نقدرُ أن نتموسق في وتائر موطوءة بخيالنا وخمائره

في انفلاتها المخبول

هكذا نعب في شعائر مضللة

ونفحات عابرة

دون تعثر.” صفحة 34-35″

ونلاحظ ان الفاعلية الشعرية في هذا النص، في اطار حوارها مع (الآخر) والحديث هنا عن(الأنا) الشاعرة و(الأنا) المتلقية لدفق الشعر وغرائبيته ومفاجأته وحسمه الحلميـة تتجاوز الامكان في محاولة الوصول الي تحقيق هذاالامكان حلمياً- مشهدياً، وحلمياً لغوياً في نفس الوقت. وهذا يعني أن الشاعر لايمكن له تحويل(العالم) إلى (شعر) على حد تعبير أدونيس الا بدمج اللغة في الحلم فيصبح مشروع اللغة- الحلم ممكن التحقيق في هذه الحالة فقط.(فلألأة الأنهار بأوراق النعناع)و(التماسيح الذاهلة)و(التموسق في وتائر موطوءة بالخيال وخمائره).. الخ كلها أجزاء عضوية من المشهد، نثارات في فضاء الشعر والشاعر،انه الاتجاه على طريق النهر الذي لا يعبره(الآخر، المتلقي) مرتين كما أن(وحدة الشعر) لا تتم الا عبر بنية لا تناقض فيها بين(مادة) الشعر ومواعينه الفنية الجمالية. اى ان وحدة الشعر لا تتم الا في (زمن الشعر)وهو زمن داخلي-احتفالي غامض بل وسري في كثير من الاحيان لانه يزاوج دون شروط أو ترتيبات مسبقة.

و (وحدة الشعر) هذه ليست مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالتراث الشكلي للقصيدة العربية، ولكنها في نفس الوقت لا تتم عن فراغ، أي ان لها اطرها الخاصة وتمردها الخاص وثورتها الخاصة على مستوى الحلم ومستوى التعبير. وهذا هو ما عناه أدونيس عندما تحدث عن (وجود الشعر)

وهنا يمكن الاشارة الى مقولة منير العكش في كتابه( أسئلة الشعر) ان خروج المتحول من تراثه كالخروج من العالم، كلاهما يرتكز على مبدأ بسيط ومعقد في آن، هو مبدأ الحرية. والحرية بمفهومها البسيط من خصائص كل موجود تحرر من قيوده، وعمل بمقتضى ارادته وطبيعته كحرية الجسم الساقط نحو مركز الارض.

لكن أحداً لا يمارس حرية الخروج من العالم على طريقة الجسم الساقط الا حين تصبح له خصائص هذا الجسم ويحكمه قانون السقوط خارج العالم. فاذا كان جماداً قلنا سقط واذا كان حياً عاقلاً قلنا انتحر).

 

هل أصف ماحدث؟

وفي نص (هل أرى ماحولي، هل أصف ماحدث؟) تحاول الشاعرة أن تقيم وحدة الشعر تحت سماء مضادة تتغير فيها كل العلاقات التي تكون في النهاية التعويض عن اللغة حالة كونها خارج حدائق الشعر فلا تطفىء اشتعاله، ولا تتآمرعليه بذهنية خلاسية مفككة( أتيت لمنتهى البريق مشعلة أقراص الدوران حول أكتاف تؤازر الحجر في كراسها المختوم بالأخبار، تنادم البقية، سلاماً لإستلامي وثوق الماء وأعنة الهواء، لمعاصم مصقولة التوق والهجس والبديع من الأحوال.هذا ما رأيت:

متسعاً يفيض على حديه بلون الفضة، يغمر بلور الماء، وينحكم كحلم تاه، مارداً في يديه أشلاء كوابيس زرقاء، وضحايا أضغاث وأشياء تقبل نحوي بجماجمها وعظام الأكتاف المنخورة، تدعسني فأصحو، تدعسني فأصحو، في كبوة الحلم أراه، دغلاً يستبق الخطى بضوار كالكلمات ونتؤاتها الثاقبة، أهدر منتشلة صمت زواياه، أبقيه وأبحث عني، وآخر السلالم الملتوية كأفاع تحدق في، أرفعها بهدوء، وأشد الأضلاع، تهيأتُ:)صفحة 106

وفي نص(متواليات) يعود الشعر( المادة) إلى داخل الذات بشكل كاد يكون كاملاً وينسى تحولات العالم التي لا تجسد التجربة مع الذات بقدر ما تشكل حالة (ترسية) في بنية الشعر نفسه. وفي هذا النص وبعض النصوص المتفرقة في مجموعة فوزية السندي تطل(الردة) عن موقف الشعر من تحولات العالم برأسها. وأتصور أن الشاعرة بأصرارها على التخطي والتجاوز والأضاءة المستمرة لعتمة اللغة الناقلة للتجربة مروراً بزمن الشعر، سوف تتدارك هذه الردة.

يقول الشاعر محمود درويش في الحوار المثبت في الباب الخامس من كتاب(زمن الشعر) لمنير العكش:

( وقد تقول بطريقة أخرى أن الوعي يحتاج إلى تفجير من اللاوعي لكي يتحول الى فن. وقد تكون هذه المسألة هي ما يميز الشعر عن أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى) صفحة121

وفي متواليات تقول الشاعرة:

“أشك خيوط الدقائق المنفلتة ببرودي وأنا تنور الهدأة

ونهضة البراكين

مصطلية.”

 

وتقول:

“أحن صفائح مجدك الفاتر

واحتمل حجر المصائر

وخرائب الوقت من حولك

لاتمل.”

 

تخرج الجاهزية الموسيقية- الخلفية-التراثية في المقطع الأخير، وهذه أيضا(ردة) أخرى تحاصر انطلاق اللغة- الحلم في اتجاه المغاير، المنفلت والباحث عن السماء المضادة للمبتذل والمؤطر خارجه. وهذه (الردة) مع بثور أخرى متناثرة في الجسد الشعري لفوزية السندي، لابد أن تصهرها نار التجريب الواعي المدرك للأبعاد والمقاسات والحسابات المختلفة في المرحلة القادمة وصولاً الى (وحدة الشعر) تمهيداً ل(تحويل العالم الى شعر) ويمكن القول أن في مجموعة( هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث) ما يحسب بشكل أيجابي – جمالي للشاعرة في محاولتها لإخراج لغتها من سراديب الأعتياد والترتيب المسبق.

 

 

 

 

فوزية السندي – احتفالات ومعارك الجسد

 

الشاعرة ظبية خميس

فوزية السندي شاعرة بحرينية حديثة. وهي من مواليد 1957 في البحرين، وقد درست في القاهرة ويذكر د. علوي الهاشمي في كشافه التحليلي المصور عن شعراء البحرين المعاصرين، أنها بدأت كتابة الشعر عام 1975، ثم أخذت تنشره بين عامي 1979- 1980 في الصحف الخليجية والعربية، وقد أصدرت الشاعرة مجموعتها الشعرية الأولى “استفاقات” عام 1984، ثم أعقبتها عام 1986 بمجموعتها الثانية “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث”. ويرى د. علوي الهاشمي أن فوزية السندي تعتبر الآن أبرز شعراء قصيدة النثر في البحرين بعد قاسم حداد الذي شق هذا الطريق فنيا.

ورغم قلة أعمال الشاعرة المنشورة غير أنها قطعت رحلة كبيرة بين عمليها المنشورين. بدأت فوزية السندي في عملها الأول “استفاقات ” متأثرة بمناخات قصيدة النثر التي طرحت هيمنتها على الأجواء الشعرية الخليجية منذ نهاية السبعينات، كما تأثرت بالأحداث السياسية العربية الدرامية الكبرى فخرج عملها “استفاقات ” مرتبكا في شكله الفني ولفته الشعرية ضمن لغة تحاول أن تجسد أسلوبيتها بين قصيدتي النثر والتفعيلة، وأخذت الشاعرة تكتب بصدى القصيدة العربية الحديثة التي تنقل السياسة إلى الشعر ضمن أجواء العنف، والدم، والمأساوية.

إن قصيدة فوزية السندي في عملها الأول “استفاقات ” هي قصيدة الفزع، والرعب التي تحاول أن توصف العنف والدموية المحيطين بعالمها. وهي في تلعثمها ذلك تلجأ إلى الجسد وتوظفه في القصيدة بصورة عفوية تشارك فيها عددا من الكاتبات في ظاهرة توظيف الجسد، شعريا. فالجسد عند فوزية السندي هو حالة التشظي، والجرح، والعنف. وهو أيضا، حالة الحب والحلم وملجؤها فيما تحاوله من رحلات روحية تفر إليها.

ويحتوي العمل على ست عشرة قصيدة معنية بتوصيف العنف السياسي ضمن لغة شعرية  تبدأ في التشكل، وهي:

احتفالات الجسد، حصار تسمى واسميك الوطن، النورس، الحوار الأخير للبحر، نذور، الجمرة، وطن يزهو في القلب، استفاقات، مكاشفة، للبدء سلام، عندما يورق ريف القلب، أنصار، شهوة الوصايا، ذاكرة، الدم، رايات القلب، ووقت للقصيدة.

يكتب الباحث د. علوي الهاشمي عن تجربة فوزية السندي في عملها الشعري الأول “استفاقات”: “يلاحظ في البنية الإيقاعية في مجموعة “استفاقات ” ترددها بين قصيدة النثر وبنية التفعيلة ضمن القصيدة الواحدة. وهو تردد لم يسلم منه أي نص في المجموعة المذكورة، مما كان يعكس قلق تجربة الشاعرة، إجمالا، وتأرجحها بين بنية ثابتة تحرص على تجاوزها وبنية وليدة تهفو الى بلوغها أو الهجس بها. وقد تجسد هذا القلق على مستوى المضمون الفني في إطار ما دعوناه في بحوثنا بظاهرة “الهم الإبداعي”، بحيث شكلت عناصر مثل (القافية والوزن والبلاغة والخيال والكتابة واللغة والمجاز والحرف والكلمات والصورة والإيقاع والقصيدة والنحو والصرف وغيرها من عناصر الإبداع). مفردات ذات أهمية خاصة في مجموعة “استفاقات ” الى الحد الذي استغرق الشاعرة في كثير من الحالات مما جعل من هذا الهم الإبداعي نفسه موضوعا لعدد من القصائد كما يبدو من عناوينها مثل “وقت للقصيدة “.

وفوزية السندي تنشغل بعدد من المحاور في قصائد “استفاقات ” أبرزها محور الرعب والكابوسية المسيطرة على أجواء القصائد، ثم هاجس الأنثى الجسد والمفنى، وأخيرا محاولة ترسيخ لمفهوم ودور القصيدة عبر الشعر نفسه. تقول في قصيدتها “احتفالات الجسد”:

– “لا تشهق في حضور الجناز المهيأ للعرس هذه نار تفضح العائلة في احتفالات الرماد فهرولت المداخل ربما لهو راجع من جحيم المأتم ربما قتل تسربل في شقوق الخوف واختار المدينة ربما رنين يصعد قبل أن يحرثها المد أو تجثو لجسارة الطوفان “.

ثمة مزاوجة واضحة ومفزعة لعرس الرعب والجنازة في مفرداتها هنا جنبا إلى جنب ودموية تدلف الى روح الشعر لتعبر عن ذلك القلق المفزع في قصائد فوزية السندي مشيرة إلى الأجواء النفسية المهيمنة على معظم قصائد هذه المجموعة.

وهي توظف الجسد بضراوة في القصيدة، وفي احتفالات الرعب الشعري الذي تصنعه. وهذه نماذج لذلك التوظيف

في القصيدة نفسها إذ تقول الشاعرة:

  • “أمعن قليلا في الحكاية لنراك
  • جسدا مشظى

موغلا في تماس الشظايا”.

– “لكأن هذه الروح شلال من الفرح الغريق

جسدان امتطيا حلمة الزلزلة

وتناهبا في غيوب الطريق

في احتفالات الجسد

كم كنت قريباً”.

– “في مساء كالذي حدقت فيه

اتصل الجسد بسطوة الكتابة “.

الكابوس، والحلم، والكتابة يداً بيد عبر وسيلة الجسد الذي تعبث به الحروف وتنشب فيه مخالبها في لعبة متصلة تعكس شكل الأظافر التي تحفر اللحم، بهذه الطريقة تكتب الشاعرة عملها الأول معتمدة على مخزون مرعب له دلالاته النفسية -الأدبية المختلفة.

وفي قصيدتها “حصاراً تسمى وأسميك الوطن ” تزدحم هواجس الموت، والقتل والرعب عبر مفردات الفزع في هذه القصيدة مثل: (طوفان الرعب، الهالك، الجنون، الضال، المحارب، الحذر القاتل، سدة القهر، اغتيال اللحظات، انفجار اللغة البكر، عقم الوقت، الطفل المحاذر، احتدام المجازر، الموت الجميل، لدغات خطاك، الحصار، الموت المتداول بين الأرصفة، أتأبط فزعي حد الإغماء، أحاور هلعي حد الإصغاء، المحرقة اتسعت).

وكنموذج للكابوسية والرعب في قصيدتها هذا المقطع من القصيدة نفسها:

– “هيأت الشمس لتشرق

فأغرقها البحر

حدقت في البحر ليغضب

فاستل الموج

وهددني بالطوفان

فأغرقني الضحك

وحدقت “.

وتستيقظ ذاكرة الذات الأنثوية في قصيدة الشاعرة “النورس ” وباستخدام درامي وعنيف، أيضا إذ تقول:

– “انهال كالرمح

غطى المناديل في الليل بالدم

وعرى شتاء البلاد الحزين من الصمت “.

– “طفل، وردة

والسجن ساحة الوقت

نهد، نهر

والرعب ساعة البيت “.

إن هذا الدمج الذي يتكرر بين الذكورة والعنف يجعل الرعب معشعشا في البيت والجسد والبلاد، والشاعرة لا تنسى ذلك أبدا طوال رحلتها الشعرية في العملين المنشورين. بل إن هذا الرعب ينتقل الى مفهومها للشعر، والقصيدة، أيضا فهي بالنسبة إليها وجه آخر من وجوه العنف في الحياة والمخيلة، اذ تقول في قصيدتها “النورس “:

– “هكذا تأتي القصيدة

تأتي القذيفة

هكذا

تحتل البياض الحالم نار

والرمز نصل يحتال كالعرش.

وقواف تعدو

تنهال شظايا تأخذ شكل الكلمات فأعرف،

أستشرف لون الأفق كنجمة برد”.

إذن الشعر وعاء حربي لكل ذلك العنف المرعب الذي يسكن رأس الشاعرة وكأنها خرجت للتو من مجزرة لانهاية لها حيث القصيدة قذيفة، والقوافي شظايا. سيظل سؤال الشعر مؤرقا للشاعرة حتى نهاية الديوان وسيأخذ شكلا آخر من الأشكال الاعتراضية في مجموعتها الشعرية الثانية.

والبحر مستيقظ جدا في مفردات الشاعرة الشعرية فهو المدى الممكن والوحيد لكل تلك الحرائق التي تشتعل في خطوات مفرداتها في القصائد. ويأخذ البحر تجليات عديدة في قصيدتها “الحوار الأخير للبحر” إذ تقول الشاعرة:

– “أفقت

غريقاً أبحر من النزف ”

– “لازمت البحر…

شعر أم شرك يشعل وقت الماء

عويل أم عصف هذا النزف المحرك والكامن

في لدغات تشعل هلعي”.

  • “يأسرني

بحر يمتشق الزفرات ويلهث في الأفق الغائم”

إن مفردات البحر، النزيف، الماء تمثل حالة سيولة متشكلة في القصيدة عبر حالات مختلفة ولننظر إلى هذه الصورة الشعرية “غريقا أبحر من النزف ” إنها لا تشكل حالة موت بل حالة استفاقة ويقظة لدى الشاعرة يجتمع فيهما فعل الإبحار وحالة النزف ووضعية الغرق في وقت واحد حيث البحر محير للشاعرة ودنيا كاملة لكوابيسها وصاحب لا يتركها. البحر شعر وشرك، عويل، وعصف وحرائق تشعل وقت الماء والهلع في ذلك النزف المتحرك الكامن – نزفها الباطني الذي يلتقي بحدة شاسعة مع محيط البحر فلا تفرق آنذاك بين الماء ونزيف الدم. والبحر لا يطلق سراح الشاعرة، فهي أسيرة لديه يسيطر عليها ويمتشق زفراتها ويلهث وكأنه فارسها الذي يمارس ساديته عليها دونما تمييز وهي واقعة تماما كفريسة تنظر إلى مخالبه وتغرق فيها.

لا يترك البحر صور القصائد الشعرية فها هو في قصيدتها “نذور” يرتبط بصورة الوطن المهزوم، إذ تقول الشاعرة:

– “للوطن المحتل

وللقلب المعتل

بهدير الأقدام المغلولة حتى الأعناق “.

وتوظف البحر مرة ثانية في قصيدتها “استفاقات ” مخاطبة الذات الأنثوية بقولها:

– “كالبحر أفيقي

موجاً أو امرأة

في صوتي يحتدم الآن مسار جراحك

في أحداقي المجبولة بالرعش

سيكبر وجدك

فأفيقي”.

إن اليقظة غرق وبحر وموج وهدير. هذا التوحد المطلق بالبحر بين الرعب واليقظة بين الجرح

والشفاء. وتكمل الشاعرة مخاطبة تلك الذات قائلة:

– “يا غصون الشبق اللاهث في كفي استفيقي

أفقاً أو وطناً

أهز عيوني في وله

أهز غصون الرعب والحب

أفيقي”.

إن الحركة مستمرة ما بين تلاطم الموج وهز غصون الأنوثة والرعب والحب يورقان معا في نفس الشجرة والبحر.

وتحدد الشاعرة خطابها للأنوثة في قصيدتها “للبدء سلام ” إذ تقول:

– “لشوق امرأة تنسج في الليل رداء الدفء

وتبحث عن نقطة ضوء في العتمة

أقول سلاما”

“بدءاً

أحمل لغة النار وعفن الرجعة

أطفئ شهوات الليل المنبثة

من هذا الجيف الماثل فوق الهامات المتكئة “.

إن هذا الإعلان الواضح للنوايا الشعرية يبوح بوضوح بصوت عميق يأتي غير هادىء من الداخل ويعلن مداه في الأشياء. من ذاكرة العنف والظلام ينطلق البحث عن الضوء والسلام وبلغة محذرة تدرك جحيمها والدنيا التي تود أن تقوضها خارجة من مقابر الجيف باحثة عن خطوها في نارها الخاصة.

تختم فوزية السندي ديوانها “استفاقات ” بقصيدتها الأخيرة “وقت للقصيدة ” ولعلها أقوى القصائد المكتوبة، عربيا، والتي تعبر عن رحلة تلك الذات -الأنثى بحثا عن صوتها وقدرة البوح، وهي تختصر في قولها ذلك عالما مطويا، ومنبوشا في الوقت نفسه تدركه الشاعرة بوعيها الفني والحضاري. وأدرج القصيدة هنا بكاملها لمالها من أهمية دلالية كبيرة لموضوع هذا البحث، ولتميزها الخاص الذي قلما حاولت الكثيرات أن يقلنه عبر أزمنة طويلة:

“أسرجتك ليلا مطهمة بالخبايا وجذوة الخطيئة

لأرى حوافر الريح برقا، أراها

تشطر في دماء الخلق

اقتراب وغربة منذ البدء

غزالة تفر نحوي

حافلة بأحجية تتهيأ

فاحتملت

كان فضاء القصيدة جباً

مقروءاً بأصداء المذهل

والليل يفضح أسرار الحبر

ويستدير

ما من وحشة وتشد الصوت سجادة

أمعنتك في بياض الشقوق عشباً

وانحداراً يفضي الى خندق الكلمات.

صوت في البرد

وأحدس كالطيف بألوان القوس

في نشوة التخيل أطرق حذر الفعل

كما للوقت ظلال السنديان

للهذيان رجرجة الأفق

في ظلي

فأرى بياض السماء قوافي تسرجني

في ملهاة النعش

استفرد بهزيع الحقول – بالمفردة

ألازم أزميل الروح

لست ساهياً

أهدهد المناجل، تجري مثل دمي

تيممت بهدير اللغات

أرى الكلمات وأرقب الحدائق

اتموسق في أوزان رهيفة تلد الأوزان

والجمرة ملهاة العاشق

فمن يقرأ!،

حرف يوازي وجع القصيدة

ليس سراً

كان قبراً بهول السؤال والبحث

يتحول،

ينثر فينا صباحاً حزيناً ثقيل الخطو

في نشرة الموت يشرع أعضاؤنا قلاعاً

ويقلم الطفولة

ليست…

هذه المشانق للشاهق

من شعر القلب ووطن الغفلة

هذي الجمرات لغرف الرأس المكتظة بالسيقان

كان صباحاً جميلاً وشهياً

فليس غريب

أن أحلم القهوة ذات بكاء

أن أخيط اللهب من وحشة الطرقات

وأناهض

سرت وقرأتك وحدك في الصحوة

كنت كالوقت “.

إن فوزية السندي وبصورة شعرية عميقة ومكثفة تطرح علاقتها بالقصيدة كأنثى، طارحة ظلال هذه العلاقة عبر تاريخ الثقافة العربية. فالقصيدة فرس مسرجة بالأسرار والخبايا الغوامض، هي وسيلة الفروسية القديمة بإشارة ما تبدو غامضة الى الفحولة والفروسية القديمة للشعر. والقصيدة هي جذوة الخطيئة ولكن لمن ؟ أيكون لها هي الأنثى العربية التي تحاورها وتحاول ان تروضها مرتكبة بذلك (جذوة الخطيئة). إن القصيدة أحجية تتحداها، وجب عليها أن تغوص فيه وللحبر أسرار معرضة للفضيحة. إذن القصيدة للشاعرة هي: فضاء الجب، وفضيحة أسرار الحبر، وعشب بياض الشقوق، وخندق للكلمات. والشاعرة تجمع هنا ما بين ذاكرة الفروسية الشعرية وما بين فعل الاقتحام الذي تمارسه عليها كأنثى مبدعة تسعي نحو العشب الذي ينبت من تلك الشقوق التاريخية. خروجاً من برد ما ولربما برد الصمت ووحشته صارت القصيدة هي الحدس، ونشوة التخيل وهي “كالطيف بألوان القوس ” ان فعل الكتابة هو طرق على خدر الفعل، على غيبوبة النسيان الطويل لذلك الصوت الذي يحاول أن يرج الأفق بهذيانه.

إن كتابة القصيدة هي تماه مع الفارس القديم بالنسبة للشاعرة حيث تزين ذلك الجحيم الحي بانطلاقها، تتحول إلى فرس تسرجها القوافي وتناور هزيع الحقول في مبارزة بسيف المفردة، وتلازم أزميل الروح لتنحت تكويناتها.إنها تهدهد المناجل كأطفال تجري مثل دمها وتتيمم لتلك الصلاة بهدير اللغات – البخور. ترى الكلمات كائنات وتراقب حدائقها. وهي تعلن تموسقها في أوزان رهيفة تلد الأوزان، أي إنها قررت ذلك الانتماء إلى أنوثة ولادة تقلب ميزان الذاكرة القديمة وهي تدرك أن الجمرة، وحدها، ملهاة العاشق. وفي تحد تتساءل عن “من يقرأ” فهي ترغب في قراءة مختلفة تستطيع أن ترى من خلال الحرف ما يوازي وجع القصيدة.

إنه خروج الموءودة من القبر “بهول السؤال والبحث ” وهي ترى المشانق أمامها لذلك الشاهق من شعر القلب ووطن الغفلة ترى الجمرات لغرف الرأس.

إن الشاعرة تقود القارئ إلى رحلتها مع الشعر كفكرة وتحد وخروج من الخدر إلى الفعل الفروسي حيث هي الفرس والفارسة في تحديها الوجداني الكبير.

يكتب الباحث أحمد عطية عن فوزية السندي فيقول:

” فوزية السندي، صوت نسائي متفرد في الشعر البحريني الحديث، يتميز بقصيدة النثر، وبكثافة المفردات اللغوية وجدتها، وبقوة التراكيب الشعرية النفس والسابرة لأغرار الروح، وبجمال الصور المستمدة من معالم الطبيعة البحرينية البحرية، والمعبرة بجرأة وشجاعة ووعي وصدق عن الوضع المأساوي للمرأة العربية وعن احتجاجها ورؤاها ومشاعرها… ويتبدى هذا كله في ديوانها الثاني “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث “، الذي يمثل طفرة في الشعر البحريني النسائي وفي الشعر الحديث بالبحرين على السواء، بجمعه بين همس المرأة وبنيته الحديثة، وبين التعبير عن حب الأنثى وعمق الاحتجاج على عذاب المرأة العربية ورؤاها في مجلسها خلف الجدران والنوافذ والمزاليج..”.

لقد جاءت المجموعة الشعرية الثانية لفوزية السندي “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث ” عام 1986 مكملة لما بدأته في عملها الأول “استفاقات ” ورغم قصر المدة الزمنية بين العملين إلا أن الشاعرة استطاعت أن تطور تجربتها بشكل ناضج فنيا ومضمونيا.

لقد قررت الشاعرة انتماءها لقصيدة النثر وحسمت بذلك ارتباكاتها الفنية فيما يتعلق بالشكل، بل أنها وعبر إحدى قصائد الديوان حسمت علاقتها بالموروث الشعري ككل وسيكون لنا عودة لتلك القصيدة.

يضم الديوان أربعين قصيدة بعناوين جديدة تنبىء بروح شعرية مختلفة لعمل الشاعرة الثاني. ويختلف نسيج النصوص في هذا العمل عن ما سبقه عبر الشكل المفتوح للنص الشعري، وتلك اللغة السرية الشعرية والمعنية بالإيحاء والرمز ونقل جماليات المخيلة عبر لغة رومانسية منثورة إلى القارئ. ويتزاوج كل ذلك مع استمرار خفي وواهن لحالة الرعب التي حضرت بكثافة في عملها الشعري الأول.

تلجأ فوزية السندي إلى لغة شعرية متداعية وممتلئة بالصور التي تمزج الباطني بالمادي المعتمد على عناصر الطبيعة مثل الفضة /النار/البحر/القمر وغيرها. وكذلك فإن الشاعرة تمنح أبعادا خاصة للماديات، مثل النافذة وغيرها لتحولها إلى رموز مكثفة لحالات إنسانية متنوعة، بعضها شعري باطني وجمالي وأحوال تراوح ما بين حدة المأساة وطقوس الجنة حيث الروح ترحل وتنتقل ما بين عوالم القهر والبحث عن السعادة وما بين الحب الجواني المعتمد على صوت الأنا المراوحة ما بين الذكورة والأنوثة.

وتتجاور عوالم القسوة والقهر برموزها السياسية الإيمائية مع عالم الحب، والرؤية الباطنية – التأملية. كما يحضر العالم الوصفي الخارجي الذي يزاوج بين النص المفتوح وعالمه الخاص بقسوة الوصف والرومانسية المتمثلة في عناصر الطبيعة المختلفة.

يبدأ الديوان بـ “نصوص مصقولة ” وهو نص نثري مفتوح للحب، والمناجاة. تتعدد الأصوات فيه بشكل منداح لا يشبا القصيدة ببنيتها المعتادة. وهو نص رومانسي بروح موغلة في العشق ومدججة بالمشاعر الباطنية. تستخدم الشاعرة الزخرفة اللغوية والتشبيهات إذ تقول:

– “حين أحبك، أزهو كزغاريد مرصعة في جلبة الدار، بارقة كشمعدان مصقول. في فائرة الجوانح وباهرة كجوقة تحيك سلالم القلب”.

وتتلاحق التشبيهات في النص حيث تعتني الشاعرة ببلاغة الخطاب والمفردات رغم كثرة التداعيات الزخرفة في القول الشعري. ويستمر الوهن الذي تعبر عنا على مستوى المشاعر إذ تقول:

-“أوهاني حبك، لذا استحي من دوار يلف بي

أفئدة تدفأ بي وقلب يهفو لي… لما بي”.

ويتجلى تأثير الشاعر البحريني قاسم حداد على روح فوزية السندي الشعرية وخصوصاً بعد صدور مطولاته النثرية “القيامة ” و” يمشي مخفورا بالوعول ” حيث تتأثر المفردة والمخيلة الشعرية لفوزية السندي بتلك الروح التي أسست لعالمها الشعري عبر تجربة تبدو أكثر اكتمالاً. ومع ذلك فان بقايا قديم فوزية السندي يخرج من بين الكلمات في عملها هذا وخصوصا تلك الشكوى من الجور والقسوة إذ تقول:

– “كل هذا الجور لي

لي براثن الشكوك وانهمار – القسوة

ومرارة الإثم “.

واذا كانت في “نصوص مصقولة ” قد عبرت عن ذوبانها في الحبيب كما قالت:

– “أعلم لو حبك يلف جهاتي يغل ويفتل ولهي

الشاقي لارتضيت شقائي حفرة للقلب ترتج لفعل

النبض الهاتف باسمك

حبك

سطوري وسحقي الملازم لهفة الغبطة وشكة الألم

توهي ورخامة الكلام وبدء الغرق

حبك أنت

وأنت

احتمال الفصول

وشأن التناغم

وزعامة القلب

وفوز الدخول “.

فإن الشاعرة وفي قصيدتها “خفايا الكلام “، وكما يحللها الباحث أحمد محمد عطية “تحتج الشاعرة على جور الرجل الشرقي، وتعبر عن عذاب المرأة العربية وذلها في جحيم الكلام الآمر، الذي تصفه الشاعرة بسقوط الكلام وتقرنه بصور معبرة عن رفضها واستيائها واستخفافها بقبضته المقترنة بظلام الليل، مؤكدة ثورتها وعدم احتمالها للقهر، متمسكة بالأمل في نهضتها… نهضة الكلام، مرتفعة على آلامها وأوجاعها واثقة في انتهاء الليل لان لظلامه مداه.. وبعده تظهر النوارس البيضاء مع ضياء الفجر الذي يغمر الأفق والحقول والأودية، في صور بديعة جديدة تجمع بين الكثافة والشعرية وتمزج القضية الاجتماعية للمرأة العربية بعناصر الطبيعة البحرينية وتضمنها رؤية تقدمية جماعية دون مباشرة أو خطابية، بل بكلمات مكثفة هامسة مشحونة بالمعاني والدلالات والرموز البسيطة الشفافة المعبرة والكاشفة “.

في “خفايا الكلام ” تتضح رؤية الشاعرة للأنثى من خلال علاقتها بالرجل وتوصيف الذكورة في هذا النص. كما أن الشاعرة تعود لترنيمة القهر والعذاب السياسي من خلال علاقة السيد بالمسود غير أنها توظف تطور لغتها الشعرية الجديدة لتوصيف ما سبق أن وصفته في عملها الشعري الأول. تقول الشاعرة خاتمة قصيدتها:

– “لم الهدأة ؟

لم يكن بوسعي أن…

سقط الكلام

مرتخيا بكامن الرؤى

همت أيها العارف بأحوالي

حتى أغشاني التهيؤ

وهون التشظي

لم أعد احتمل…

سقط الكلام

تدق المطارق بهو الولع

أنزوي في راحتي

بعيدا، اقلب وجعي

أتساقط في نهضة الكلام “.

في قصيدتها “لم يكن الأمس صعبا هكذا” تعود الشاعرة إلى الأجواء الكابوسية، والتوصيف لحالة شعرية بلا وحدة واضحة حيث تتضح القصيدة النفسية عبر انهياراتها ورعبها معتمدة على المفردات والصور النفسية التي تصور حالات الرعب.

وتعتبر قصيدة “نوافذ للفتح ” إحدى القصائد المميزة في ديوان الشاعرة. توظف الشاعرة رمز النافذة في العلاقة مع المرأة، الإنسان، الوطن والانفلات نحو الأشياء والحريات عبر تسعة مقاطع. وفي تحليل أحمد محمد عطية للقصيدة يرى أنها تعبر بالمفارقة عن رؤى المرأة العربية في مجلسها الضيق خلف النوافذ بمدى اتساعه لرؤاها وكلماتها حتى غدا سريرها معادلا ومعوضا للوطن والطبيعة والبحر، فأصبح هذا المكان المحدد الضيق “متسع، متسع “. وأن المرأة قد تلاءمت في ” نوافذ للفتح ” مع النوافذ الموصدة والمزاليج المحكمة، مكونة عالمها الخاص الرحب كالفضاء الفني بالألوان… كقوس قزح.

تصنع الشاعرة مفارقتها ما بين شساعة البحر ومخلوقاته في مقابل الضيق، وتستمر في ترديد مفردتها “متسع، متسع ” في محاولة للخروج من المحدود بشتى أشكاله. وتصنع من النافذة مداها نحو العالم، “تلهث من أجل أن تحيط الأفق بذراعيها”.

وفي مقابل ذلك الاتساع، تعج مقاطع أخرى للقصيدة بكابوسية معهودة في قصائد الشاعرة (الحرب، الدخان، الحراب، المرارة، الجرح، الحداد، الفارة، الجرحى، الضمادات، القصف، القذيفة، الأشلاء) وغيرها. ذلك التهديد الحاضر دائما والمحيط بكل هروب ممكن نحو عالم الروح ورحابتها، الفضاء المفتوح، والنوافذ المطلة على البحر وقوس قزح. تقول الشاعرة:

-“أجدني في تلاؤم دائم

بلا مبرر…

واثقة ومحلقة

عبر النوافذ ومزاليجها

لا يحدني احد

أصافح ضراوة الريح ودعة النسيم

هكذا دون تردد

أطلق رغوة الأفق

أمرغ قوس قزح بحرية ألواني

أعج بالفضاء

وكعادتي

أفيق “.

إن العودة للذات خارج نطاق المرعب، وترويض جمالياتها يمثل أقصى حدود للحريات الداخلية التي يمكن أن يمارسها الفنان. وهي تعوض صور الخراب بإعلان ينتمي بكامله إلى بياض الكتابة إذ تقول:

” انتظروا… لا حاجة لي بكل هذا الوطن

رقعة صغيرة بحجم الكف تكفي

لأحيا وكلماتي

أهرق في سرير الحلم

وتنهض قي مجد الحكم “.

ويستمر هذا الانفلات لصنع الحرية من الرموز المحيطة فإذا كانت النوافذ سيدة الأفق في القصيدة

السابقة فإن الشاعرة في قصيدتها “شؤون خاصة جداً” توظف الرخام بقولها:

– “أعمدة الرخام المشيدة

كفاصل قسري

ضد اغتراب الفعل

ومسمياته الجارحة

ومراياه المرتعشة “.

وهي تحتمي بكل ما يمكنها الاحتماء به مما يثير الألفة: المنضدة الواسعة، والغيمة البيضاء، والحروف الملونة. كل ذلك لتنفلت الشاعرة “كقارب صيد في ليلة مقمرة “.

ولا يخلو ديوان “هل أرى ما حولي، هل اصف ما حدث ” من بعض هنات المحاولة الشعرية في نسيج قصيدة النثر فقصائد الشاعرة (لا أكثر، ولا أقل، وسروج للهو) نماذج للضعف الشعري حيث الصور واهية، والحالة مصطنعة ولا شيء غير التداعي شبه السوريالي لقصيدة غير سوريالية. وكذلك في قصيدة (أودية سحيقة) حيث تطرح الشاعرة حالة تتنافر فيها المفردات لمحاولة شبه شعرية لصناعة النص. غير أن ذلك التنافر يفتقد للانسجام وللحالة الشعرية، الحقة، ويبدو في الأخير كمجرد ارتطام بين مفردات شعرية، مصنوعة.

وفي قصيدتها “ماء مترع للمساء” لا شعر ولا شعور حيث تبتعد الشاعرة عن الأحاسيس وتولي اهتمامها بالصور المركبة من اجل صناعة الدهشة، غير ان الذوق التركيبي للمفردات لا يصنع ذلك. فالقصيدة تبدو كمحاولات نزقة، غير قادرة، على إتمام الصورة والحالة الشعرية، وأسوق الأمثلة على ذلك من القصيدة نفسها، تقول الشاعرة:

– “هيأت حشائش طرية تتهادى حولنا، قوارب

قصدير وأطياف تضبب هذه الطقوس لنا”.

“إني أحبك منساقة كجذور تندك، تقلد صدوعي

ماثلا في قراري

رائق هذا الدم إن لم ينحن

لك.. لا مفر..”

وهي نماذج للرداءة الشعرية رغم محاولات الشاعرة العديدة الناجحة والمتميزة في هذه المجموعة غير أن الارتباك والتذبذب في روح فوزية السندي الشعرية ما بين كابوسية السيريالية والواقعية ومحاولات الكشف الباطنية والصوفية، والرومانسية الفجة التي تفتقر الى الصورة الشعرية العميقة والجديدة من السمات التي تضعف العمل الشعري عموما لدي فوزية السندي. وكنموذج للسذاجة برومانسية مكررة ومعتادة في الصورة الشعرية أسوق هنا قولها من قصيدة “غناء واحد”:

– “نغني معا أغاني مختلفة

ولا نفترق

لي أغنية الحدائق الظليلة الخريفية

الساعة كنسيم، المرصعة بالأزهار المخملية…”،

الخ..

وتلخص الشاعرة موقفها من شكل القصيدة العربية القديم عبر قصيدتها “معلقة ” صانعة تشبيها للمعلقة بالإرث الأنثوي لفكرة (الجارية) عبر ذاكرة الأنثى التاريخية إذ تقول:

-“تتدلى أمامي بزخارفها وبديعها

معجونة بماء الذهب وحجر الجناس ووتائر الحرير

وعاج الفتنة

منسقة لا تقبل الظنون والتهتكات الشاكة

تسوق أبياتها بعناية مثل قافلة واقفة

والقوافي كبغال تدب دون التفات أو حركة

في شكوكها، للمراعي منبثة

مفصلة على نسق بديع كآنية

وفي عكاظ تؤرجح حرفها جارية

محظية ولها دلال

أراها تساق هنا وهناك في الخلافة

مغلولة

معلقة ولم تزل “.

إن تجربة فوزية السندي قادمة من سياق الرفض: للشكل الشعري القديم، لمأساوية الأحداث العربية، للدور التقليدي، للأنوثة والذكورة. وهي تحاول جادة إن تصنع تجربة شعرية جديدة تسوغ فيها مضامينها تلك بشجاعة، وحرية. وهي تنجح في صنع القصيدة المميزة، أحيانا، غير أن أخطاءها الشعرية هي نتيجة التجريب وهي أخطاء معتادة ضمن التجربة الشعرية الجديدة التي تحاول إن تخرج من أسرار ما سبقها. ولعل القلق الإبداعي يأخذ أقصى تجلياته في بحث الشاعرة عن الذات الأنثوية وبصيغة غير مزخرفة، ولا مسطحة، ولا خاضعة للقوالب الجاهزة، وفي هذا يكون التحقق الفعلي لما حاولته الشاعرة عبر العملين المطروحين.

قصائد متوهجة تخترق حصار الأنا نحت الصورة معمار فوزية السندي الشعرى

 

الكاتب/ عبدالله خليفة

جريدة أخبار الخليج

5 ديسمبر 1992

 

هذا التعبير الشعري حيث كل جملة شعرية عي إنفجار، وتتعاون الصورة المكثفة، مع لغة  استفهام المباغتة، والتعميمات الترميزية، لتصيغ قصيدة تقترب من كارثية الحدث.

هنا نجد الكورس، الإغريقي القديم، وهو يعدد الكوارث والمآسي، ويمشي بين الخرائب والمشردين والمقتولين، يسأل، ويصرخ، ويصور المشاهد: كم (كم طفلاً سنغمد بين الصخور وفتوى القذائف/كم جثة ستشتعل في عراء العذاب/ كم حرباً ستنفجر كل نهار).

هذا هو الحدث، غير مقطوع الصلة بمسببه وظواهره، مشكلاً بصوت الكورس وهو يمشي في الصحراء. ولكن التغلغل سيكون في الدمار :(كل موت/ نراهم حفاة يرجون الحدود بما تبقى من خطى/ بحرا من جراح يفاجئ تعب الصحراء/ وطناً يتوضأ بالأنقاض/ وعراة يفترسون خرائب تتلو وصايا الفاجعة/كأن بغداد في إحتضار مديد).

إنه التلون، وتحويل الأشياء الى مرايا، ونفض اللغة من سكونها، وتنبيض لقطاتها. تبلغ اللغة ذروة التعميم في هاتين الجملتين: (البلاد بكاء/ والمدى منفى). وكان الكورس الاغريقي، العربي، المفتت. في الصحارى، يمشي ليرى ويصرخ: (كم قتيلاً لم يمت؟ كم أسيراً لم يعد؟ كم صرخة لم تصل من رئة العاصفة؟).

وتستمر الأسئلة، لتنبثق بعدها صور جديدة، وتوسع دائرة التحليل الشعري للحدث، وتتالى التعميمات، على هيئة أسئلة، من داخل هذا التحليل، وفي ذروة من المرارة والضحك (هل ملهاة تدير الحفل../ أم ظلال شطرنج يلهو ببياض الأرض؟)

إن إستخدام الكورس، كصوت للنحن، ذي المصدر الأغريقي القديم، نراه في قصيدة أخرى هي ((في خلوة الذبيحة، حيث تقول (احتشد أيها النفير/ ويا معدن الناس، يا منشدي حموضة الدسيسة/ يا مخلب الفاجعة/انقضوا/وانتن يا نسوة المهالك/ اندبن دما جاش على مذبح الخطيئة)، (تخب صعاليك مسوا ذخيرة القلب) ص٥٥

هكذا يتوحد الصوت الجماعي النسائي، بالشاعرة، بالناس، بالصعاليك، وفي نشيد مستمر يرسم وجه التاريخ الماضي/المعاصر.

نسق أخر، هواجس الذات

وإضافة الى استخدام النسق الأول، الحدثي العام، فإن ديوان يحفل بنسق أخر منتشر، هو حوار المرأة/الرجل. انه الصراع، وانتزاع المرأة للرجل من أحضان التردد والغياب. في قصيدة ((الهديل)) يجسد الحوار خوفاً على الرجل المبدع اليأس، وحباً غامراً له، لكن لغة الحوار تنمو في عالم ضبابي، زائغ، إن المرأة تغدو، كما هي دائماً، ذات الفعل والاخضرار، وهي تحاول أن تنتزع الرجل من اليأس. ان خريطة العلاقة بين الصوتين، تظل مبهمة، بعكس ما يجري في قصيدة ((االفدية)) حيث نجد تضاريس الأرض الحقيقية، وشرايين التاريخ الملوسة. إن الرجل في هذه القصيدة هو شهيد مؤجل، ومستعد دائماً لفعل التضحية والاستشهاد، وهذا ما يعطي مداراته لغة ضوئية، تستقبل كل إشاعات النضال في التاريخ.

وهي تركز هذه الإشعاعات بصورة مكثفة، عميقة، عبر هذه الصور المتدفقة (فمن أنت/ شقي يجوب شفرة الأعاصير الذبيحة؟ / عّراف يحرس حافة البراكين لتقطف نسور القمم حمم النذير الأول؟ ص٧٣.

اقرأ بقية المقطع الطويل الذي يكثف في ((الرجل)) كل انتماءات العصور. هذا الرجل الملحمي يبدو معاصراً كدلك. ((ها أنت/ شعب في راية تحتدم)) فالماضي والحاضر يتمازجان، مثل تمازج المرأة والرجل، الداخل والخارج، الذات والناس.

لقد مضى دهر على شعرنا وهو غارق في الأنا، المفصولة عي حيوية العالم، لكن فوزية السندي تخترق هذه الدائرة الضيقة، عبر قصيدة ساخنة، متوهجة، فيها بعض التجريد، وبعض الغياب لمحاور حياتية حية، وهناك جوانب عديدة، في ((الديوان)) تستحق المتابعة، مثل صراع البنية التجريدية والبنية الواقعية وعلاقة هذا الصراع بتطور موقف الشاعرة، وتعدد مصادر الشعر مثل التأثر بالشعر الأسطوري – الطقسي ورفده بعالم النقد الاجتماعي – السياسي، والاستفادة من قاموس الشعراء المحليين، وخاصة قاسم حداد مثل استخدام العديد من كلماته وبعض رموزه مثل القطيفة، والريش، وغيرهما، ولكن هذا كله يحتاج الى دراسات..

 

 

 

 

 

 

أمومة الكتابة: قراءة في كتاب (حنجرة الغائب)

 

أمومة الكتابة

مجلة المختلف 23-7-1993

 

منذ ديوانها الأول ((استفاقات)) الذي صدر عام ١٩٨٤، ومروراً يمجموعتها ((هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث؟)) والذي صدر عام ١٩٨٦، وأخيراً ((حنجرة الغائب)) الصادر عن سلسلة كتاب كلمات بأسرة الأدباء والكتاب في البحرين، تبدو الشاعرة البحرينية فوزية السندي عبر انشغالها في اختزال قصيدة تمتلك مناخاً شعرياً خاصاً، تضبط فيه طقس اللغة وتراكيبها، أنها تفتتح مشروعها الأخير عبر إنشاء القصيدة المتنوعة، ذات الإيقاع المختلف، وعبر الحالة النفسية المغايرة بين قصيدة وأخرى.

إن البحث في مناخات الشعر أو القصيدة الجديدة هو ما يلاحظ عبر سيرة كتابتها منذ المجموعة الأولى لها.

-٢-

قبل الدخول في ((حنجرة الغائب) ثمة محاولة تدخلك فيها الشاعرة عبر مدلول إسم المجموعة، تجرفك نحو معالم معرفة، وكأنها بذلك تمتحن قدرتك كقارئ أخير، عبر تدفق الكتابة المرفقة بصوت الشاعرة.

((هذه حنجرة الغائب))

تقتحم عشاوة هذا الغياب، لترخي جبة البياض وتطغي في كتابة تستوفي تزر الحمى التي أشعلت ذاكرة تتشظى حولي وتبرز غرائب الأمل في غوائل الوقت.

لست الغصة

غصة من؟

أدري لكنها تخنق غرانق تحرق

بجناحيها وتهمس

يا للعذاب

معا. نفضح هجمة الحصار لتفوح

ضعائن السلالة

ويصل الممسوسون بجمرة اليأس

كنوارس تنبئ بقتل يانع

معا. من مهر يفتق خديعة الوقت

ويخبط القلب بخفاف ليل يسأل الغياب

نقرع الجماجم تحت ضوء الذئاب

هذه حنجرة الغائب

تذعن لفتك الكلمات، لريشة قلب مسكون بقناديل الروح

 لزيت جسد يترنح بين أيديكم.

-٣-

في هذا النص، وعبر هذا العامل المرسل تختزل الشاعرة مكونات نصها كاملاً، على اختلاف قصائده الثمانية عشر سواء بإرسالها لموضوعات شعرية عديدة أو عبر التحرر النفسي للقصيدة نفسها، وإن كانت تلتقي في مناخ منسجم وتدرجات تركيبية حتى تبدو القصائد في مجملة ذاهبة نحو مناخها الخاص.

-٤-

في ((حنجرة الغائب)) لا تستدرج الشاعرة ما هو غير مألوف إنما تتعمد فشل كل ما هو آليف وحميم ومؤلم، عبر لحظات الكشف عما هو جميل في الشعر:

((كل شتاء فيما يكبرون

تحت مخلب الغزاة

على أرصفة المنافي

في وجه حناجر العروبة

يسرجون الهدايا

حقلاً من برتقالة الدم

قلائد تفوح برحيق الشهداء

أجنحة من قزح الريح

وايات لا تؤجل الخفق

هكذا.

يحترفون فضيحة الفرح موتا لأميرة

الزيتون، تلك التي لم تذق نهدة

المدن)).

 

أو كما في قصيدة ((ممالك)) حيث تكتب الشاعرة:

.. أيتها الأميرة

يا من تخيط لنا

جسراً من الجراح

أما زلت عارية؟

ما أشد بطشك

ما أرق طيشك

أيها الطفل الضرير

يا ضيف الذاكرة الدائم)).

-٥-

إن في قراءة ((حنجرة الغائب)) ثمة إشارات تلفك، وتأخذ بك نحو الاحتجاج، أو الصراخ، ذلك إن العامل ألا وهو إسم المجموعة ((حنجرة الغائب)) يظل منذ السطور الأولى التي تدخلك فيه الشاعرة، عبر تعريف أو تقديم حالة أو وصف ما، كل ذلك وغيره يصبح مرافقا لك عبر قراءة القصائد، ومحرضا قوياً في البحث في مرجعية هذا العامل (اسم المجموعة) ضمن ذاكرة الشاعرة:

في إشارة أخرى تقول:

((لم يحدث شيء

سوى

أننا اقتسمنا صمت ما حدث))